قضايا

مصطفَى غَلْمَان: تجليات صوفية

رَضِىَ المُتَيّمُ فِي الهَوىٰ بِجُنونِهِ، خَلُّوهُ يَفْنَىٰ عُمْرِهِ بفُنُونِهِ
لا تَعْذِلُوهُ فَلَيْسَ يَنْفَعْ عَذْلُكُمْ، ليس السلو عن الهوى من دينه (أبو الحسن الشيشتري)

في درب المناجاة، لا يبرح القلب يترنح كالطير الباكي، ولا تصحو الجوارح كلها، على نقيض ما تلهج به سوانح الدنيا وملماتها، دون أن تصرف آثار البوح عما ترنو إليه محبة المعشوق ونياط العاشق.
هذه المفازة البعيدة والفرادة اللذيذة، لا تصبر عن الإماطة، فيما يجدر به أن يكون تأويلا لحقيقة الوجود، حتى يتألف بيان المباينة بين الرب والمربوب، والخالق والمخلوق. وهو ما تقره الفطرة، وتسلكه الدوافع الإيمانية عقلا وإيمانا واعتقادا.
فما شكل ونوع المناجاة في تفكير الرائي؟ وما تدبير القول فيما ينتج عن التناجي والتَسَارّ المجليان للكشف والتعلق والخشوع والتطهر؟
في التفكير الصوفي، يكون الحب الإلهي، مقامات وأحوال تسبر الحالة الوجدانية العرفانية المنبثقة عن بوح ومناجاة، تبذر لغة خاصة ممتلئة بجمال الذوق وحسن الصنعة وارتقاء الشعر. وفي سحر هذا التجرد الإيتيقي لحال المتصوفة، تستكنه النفس بعضا من تجليات الفناء في الحب الإلهي، فيجود البدل الوجداني المناجاتي بأبلغ ما تفور به الوجدانات، دهشة وتحيرا واستغرابا.
ﻭتطرح ﺭﺅﻳﺔ التناجي تلك، ﻫﺎﺟس تجاوز المحسوس والمادي ومحدودية الذات من أجل معانقة المطلق الكلي لذاك الجمال المنذور، تحت سلطة لامرئية، توازي استيهامات التلقي وحضور كل أنواع الخشوع والذلة والاعتذار والمسكنة والافتقار.
عن أبي الحسن الشاذلي أنَّهُ قال: قيل لي: يا عليُّ، طَهِّرْ ثِيَابَكَ من الدَّنَسِ تَحْظَ بمَدَدِ اللهِ في كلِّ نَفَسٍ، فقلت: وما ثيابي؟ فقيل لي: إنَّ الله كساك حُلَّة المعرفة، ثم حلة التوحيد، ثم حُلَّة المحبة، ثم حُلَّة التوفيق، ثم حُلَّة الإيمان، ثم حُلَّة الإسلام، فمن عرف الله صغر لديه كل شيء، ومن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن وحَّد الله لم يشرك به شيئًا، ومن آمن بالله أمن من كلِّ شيء، ومن أسلم لله قَلَّمَا يعصيه، وإن عَصَاهُ اعتذَرَ إليه، وإن اعتذر إليه قَبِلَ عُذْرَهُ. قال: ففهمت من ذلك قوله تعالى: "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ".
فذلك أن مناجاة من يدرك ويبصر، هو معرفة بذات المدرك، وتكسي ب"حلة المعرفة"، وحلة التوحيد، كناية على إبداع لا تضاهيه سوى حجب الإيمان والتسليم بكل شيء، والتقرب بكل شيء، مخافة العصيان وانكفاء بسمة الاعتذار قبل العذر. وإلى ذلك، تصير حالة التطهر مساحة واجدة وموجودة. يقول الجنيد: " اللهم وكل سؤال سألته فعن أمر منك لي بالسؤال، فاجعل سؤالي لك سؤال محابّك، ولا تجعلني ممن يتعمد بسؤاله مواضع الحظوظ بل يسأل القيام بواجب حقك". ذلك السؤال الذي لا يميط اللثام عن كل ما يجوس بالأنفس حين انشغالها بالمعشوق، وانحلالها عن طريقه وكونه.
ولهذا يحمل المتصوفة في بلاغات مناجاتهم آثار الخوف من عاديات الذنوب وأوساخ الدنيا، فيبلُغون أقصى درجات المناجاة، ليحتموا بالمغفرة والسُلُوًّان، ومرضاة الرضوان، فيوثرون الإغراق في تمجيد الذات الإلهية وإعلائها. يقول أحدهم تعبيرا عن هذا التناص الروحي:
"مثال الذَّنْبِ عند أرباب البصائر كجيفةٍ أدخلت الكلاب خراطيمها فيها، أرأيت إذا غمس رجلٌ فمه في جيفة أفما تعيب عليه؟ إذا كان الحق سبحانه قد جعل ميزانًا للبيع والشراء أفما يجعل ميزانًا للحقائق؟!".
ومثال ذلك عندنا، أن إدراك الحقائق لا يكون بدون انشداد وتحري، إطاعة واستطاعة، وإذعان وتماهي. والمناجاة بكل ذلك، يكرس صفة التسامي والتوق إلى ملاقاة الحبيب بما يجدر بالمخلوق وما يقتضي لدى خضوعه واستسلامه.
يقول أحد الشعراء:


فإن بَدَا منهم حال توَلُّهِهِمْ
عن الشريعةِ فاتْركْهم مع اللهِ
*
لا تَتَّبِعْهُم ولا تَسْلكْ لهم أثرًا
فإنهم طُلقاءُ اللهِ في اللهِ
***

د. مصطفَى غَلْمَان

في المثقف اليوم