قضايا

سميرة أحيزون: السينما بين صرخة الواقعية وحضور الفن

السينما تعبير اجتماعي: تعتبر السينما من الفنون المؤثرة والمتنوعة، فهي الفن السابع من حيث تاريخ ظهورها بعد الفنون الستة الكبرى، وهي العمارة والنحت والرسم، الأدب والموسيقى والأداء، لكنها قد تكون الأولى من خلال استحواذها على اهتمام العالم (1).

حيث أنها مرت من عدة مراحل مما زاد من نضجها، بداية بالأخوين لوميير من خلال صنعهما لأول كاميرا وأول جهاز عرض سينمائي، ومرورا بالسينما الصامتة ثم أفلام الأبيض والأسود ثم الأفلام الملونة والأفلام ثلاثية الابعاد فالتصوير الرقمي (2).

السينما إضافة الى كونها مجموعة من التقنيات، والعمليات الفنية التي تتوزع بين الخدع التقنية والصور وأجهزة التصوير والإضاءة والمونتاج والصوت الخ، فهي أيضا انتاج ثقافي واجتماعي، يتداخل فيه ما هو اقتصادي، أيديولوجي، سياسي، ديني وأخلاقي...

فلا يمكن ابدا فهم السينما بمعزل عن المجتمع، لأنها انعكاس لجميع تفاعلاته والتغيرات التي تمسه، وقد استأثرت باهتمام الباحثين السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين، حيث تمكنت السينما من الجمع بين ما هو تقني وأدبي/ فني، ونجحت في استعمال الصورة كوسيلة للتعبير على مجموعة من التمثلات وتسليط الضوء على بعض المواضيع ومناقشتها في فنيا، باعتبارها مجالا للتوثيق السوسيوثقافي.

وقد أصاب من وصف السينما بأنها وثيقة اجتماعية، لأنها توثق الاحداث والشخوص، وهناك أوجه تشابه بين السينما والسوسيولوجيا، كعلم يحاول تفسير الظواهر وتحليلها من خلال دراسة أسبابها ونتائجها، السوسيولوجيا عند دوركهايم، هي العلم الذي يهتم بدراسة البناء الاجتماعي وما به من مؤسسات من حيث مقوماتها ووظائفها، ويقصد بالبنية الاجتماعية هنا هو الاطار التنظيمي العام، الذي يندرج تحته كافة أوجه السلوك الإنساني في مجتمع ما، ويتضمن مجموعة النظم الاجتماعية ذات القواعد السلوكية المستقرة التي تحكم الأنشطة الإنسانية المتعددة في مجتمع ما. وهو نفس الشيء بالنسبة للفلم السينمائي، من خلال رصده للظواهر الإجتماعية ومناقشتها، في إطار فني ودرامي.

الواقعية قد ساهمت في إنماء السوسيولوجيا كعلم يبحث في الواقع ويتخذ منه مختبرا لفرضياته واستخراج نظرياته وتطوير مناهجه... ان السينما تتطرق لمواضيع ذات صبغة كونية، ونفس الشيء بالنسبة لعلم الاجتماع(3).

بهذا المعنى يمكن اعتبار السينما مرآة الشعوب والمجتمعات لأن الهدف الأساسي منها كفن هو ترجمة نبض المجتمع بمختلف أطيافه فمن خلال تجسيد الحدث، والاعتماد على آلية التوثيق فهي تلامس الواقع الاجتماعي، وبالتالي فالفعل السينمائي يتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه أي انهما على علاقة وثيقة.

فهل السينما نجحت في ترجمة أفكار مجتمعاتها، وهمومها وظواهرها؟ أم أنه يصعب فعلا نقل الحقيقة والواقع عبر الفلم كما قال محمد المعنوني: "في دول العالم الثالث نخاف ان نظهر صورتنا الحقيقية ونعرضها امام الناس".

حضور الجنس والجسد في السينما المغربية

يعتبر موضوع الجنس من الطابوهات في مجتمعنا، يتجنب البعض نقاشه أو الخوض فيه علنا، بالرغم من كونه مرافقا للحياة اليومية وحاضرا فيها، مع ما كل ما يحيط بالموضوع من حواجز.

و بالحديث عن السينما المغربية في بداياتها، لم يكن للجنس حضور إلا كمحور ثانوي، ضمن مواضيع مختلفة بين ما هو اجتماعي وسياسي الخ، لكن الامر يختلف الآن فقد اصبح من المواضيع والتيمات الرئيسية في الفلم السينمائي، حيث لم يقتصر على التلميح والإشارة اللبيبة، بل وصل الى تعاط مباشر وصريح من خلال جرأة الموضوع، والتقمص والتشخيص بالإضافة إلى المشاهد الجريئة وما يتخللها من إشارات.

ولعل فترة التسعينات كانت بداية لتشكل رؤية سينمائية جديدة في المغرب، وموجة مختلفة عما سبقها، غلب عليها طابع الجرأة في الطرح الذي رافق موضوع الجنس وكان الافتتاح مع فلم "حب في الدار البيضاء" لمخرجه عبد القادر لقطع، لتتوالى بعدها الاعمال السينمائية. فجرأة تناول الموضوع على الشاشة الكبيرة كان بمثابة صيحة حديثة بالنسبة للمشاهد المغربي، حيث لاقت انتقادات وغضب في البداية، لكن سرعان ما اصبح الاقبال على مشاهدة هاته الأفلام المحظورة اجتماعيا، كنوع من الفضول او المتعة والانفتاح على هاته النوعية من الأفلام على غرار السينما الغربية، لانها تمس جزءا مهما من حياة الافراد، ليبرز مع هذا كله الجسد وكيفية تناوله من قبل المخرجين في هاته الأفلام، خصوصا جسد المرأة، الذي يعتبر المادة الأهم في المشهد السينمائي وذلك لاستحواذه على قوة الجذب والاثارة والتعبير.

دعونا نتفق على كون الجسد له لغة تعبيرية خاصة، قادرة على ترسيخ الرؤية الجمالية والفنية وقد تعطي بسخاء واحترافية، إذا تم توظيفها بشكل صحيح لخدمة القصة او المشهد، من اجل ترجمة الفكرة المراد ايصالها في الفلم، وهنا نتحدث عن التوظيف الدرامي والفني للجسد.

لكن ما الذي يحدث حين نرى ان حضور الجسد الانثوي في المشاهد السينمائية، لا يسير دائما في الاتجاه الفني المحض، وانما قد ينحو نحو جذب الجمهور الذي يقوده فضوله وشهوته للبحث عن المتعة والتمعن في الأجساد لا غير، مما يجعلنا نكتشف ان الامر تجاري وعملية تسليع للجسد الانثوي، تعزف على الاوثار الغريزية والمواضيع المحظورة نوعا ما، من اجل جذب المشاهد ورفع نسبة المشاهدة والإيرادات في لمحة ذكية من بعض المخرجين، من خلال تقديم ما هو مطلوب ومرغوب فيه، وكل ما يمكن ان يشكل موضوعه ضجة لدى المشاهد، وهو ما تم استغلاله لصالحهم مما يجعل من الجسد يظهر بشكل سطحي، في أي مناسبة دون رؤية فنية عميقة او جمالية للمشهد وقد يختلف التعامل مع جسد المرأة بالنسبة للمخرجين في نظري من خلال هذا التقسيم بين من:

- يوظف جسد المرأة في الجانب التعبيري والفني المحض.

- من ينحو نحو التسليع والمتاجرة، من اجل الرفع من نسب الإيرادات والمشاهدة ونفاذ التذاكر.

- من يحاول جعله مادة أساسية لمناقشة قضايا تلامس المجتمع، أخلاقية كانت او أيديولوجية وأيضا من أجل توظيفه كرمز للتحرر او الالتزام.

- فئة أخرى حاولت وضعه في سياق المرأة المنتهكة حقوقيا واجتماعيا وعاطفيا، من خلال تصوير حياة المرأة : المغتصبة، بائعة الهوى، المعنفة، المتحرش بها، المكرهة على الزواج، الحامل خارج إطار الزواج، في علاقة غير شرعية، أو ضحية العادات والطقوس التقليدية ...إلخ.

لن يختلف اثنان في كون جرأة الطرح أمر مطلوب ومحبب، لكن هذه الجرأة التي تؤثث المشهد السينمائي المغربي أو العربي عامة، هل غدت مطلوبة فقط فيما يتعلق بتيمات الجنس وإبراز جسد المرأة والمشاهد الساخنة، ام أن جرأة الطرح يجب ان تخدم مواضيع متعددة ومعقدة ملغية من طاولات النقاش؟ ألا يجذر بها أن تقدم طرحا يعالج قضايا مجتمعية مهمة أيضا؟ في صلب الصراع المجتمعي على كافة المستويات وبهذا نكون أمام نوع من الموازنة في الطرح السينمائي.

أم أن الجرأة ...تتمثل في ابراز مفاتن امرأة عارية.. الجرأة في الحقيقة هي ان تأخذ موقفا وتدافع عنه على حد تعبير المخرج المغربي عزيز السالمي.

هل تستطيع السينما إحداث التغيير في المجتمع؟

من المعلوم جيدا ان الفن يعمل على تقديم رسائل متعددة، تختلف باختلاف المقبلين عليها، لانها تعتبر أداة لنشر الثقافة والمعرفة وتساهم في تشكيل قيم المجتمع.

حيث لها القدرة على إضاءة دائرة العتمة المحيطة بمجموعة من القضايا، ووضعها في قالب فني يرتقي بالعمل المقدم وبالمشاهد أيضا، ويبقى لها الأثر الكبير في إحداث التغيير على مستويات عدة، وكمثال نجد الدراما أو السينما المصرية، حيث كان لهذه الأخيرة دور كبير وراسخ، في تغيير مجموعة من القوانين والتشريعات، ورصد الظواهر والمشاكل المؤرقة، وهناك بعض الأعمال الفنية التي نجحت فعلا في الوصول الى هذا المستوى.

من بين هذه الاعمال نجد فلم "جعلتني مجرما" حيث ناقش مشكلة السوابق العدلية، وعدم تمكن أصحابها من الاقبال على الحياة، والاندماج في فرص عمل جديدة، ليصدر بعدها قانون الاعفاء من السابقة الأولى في الصحيفة الجنائية بمصر.

يليها فلم "اريد حلا" حيث ناقش ازمة امرأة لا تستطيع الاستمرار في العيش مع زوجها، ويرفض طلبها المتعلق بالطلاق، مما جعلها تعيش سلسلة من المشاكل والعراقيل داخل رداهات المحاكم، بعدها تم احداث تغيير في قانون الأحوال الشخصية، ليعطي للمرأة الحق في الخلع.

ننتقل الى السينما الغربية هذه المرة "فلم قصير عن القتل"، لمخرجه كريستوف كيسلوفسكي، عندما كانت بولندا لا تزال تصدر عقوبة الإعدام، حيث اثار عرضه في مهرجان السينما سنة 1988، نقاشا حادا حول الموضوع، وبعد بعد العرض الأول للفلم تم حذف عقوبة الإعدام من قانون العقوبات في بولندا.

ثم الفلم الفرنسي الألماني" روزيتا" الذي صدر عام 1999، حيث يحكي قصة البطلة القاصر التي تبحث عن عمل، بعيدا عن والدتها مدمنة الكحول، لكنها تلاقي استغلالا من طرف أرباب العمل، من خلال عملها بأجور زهيدة ...حيث حاز الفلم على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، مباشرة بعدها أصدرت الهيئة التشريعية البلجيكية قانون يحظر تشغيل المراهقين بأقل من الحد الأدنى للأجور.

من خلال هاته النماذج وغيرها، نستشف أن للسينما سحر خاص وصوت مدوي ومسموع، يصل لكل الجهات والشرائح إذا تم تسخيرها للأهداف النبيلة والرسائل السامية التي أتى من أجلها الفن بشكل عام، وقد يقول قائل أن السينما ليست بمربي الأجيال أو مصلح إجتماعي، ودورها ليس هو ممارسة الأبوية على المشاهد كما أن المشاهد من يقصد السينما وليست هي من تقتحم منزله إلخ.

لكن بالنسبة لي فهي تنطلق من المجتمع وإلى المجتمع وعلاقة التأثير واضحة، وكفن فهي مطالبة وملزمة بخدمته من موقعها وإمكانياتها، لأنها تستطيع الهدم والبناء، والجمع بين الفرجة والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي والكثير غيره، وإحداث التغيير على مستوى مجموعة من المفاهيم والممارسات، بل تعدت كونها مجرد فن وإنما قوة تحيي القضايا وتلهم، وتضيء الزوايا المعتمة في المجتمع، في إطار فني يجب أن يكون محبوك، نعم السينما تسطيع ...

***

أحيزون سميرة - أخصائية اجتماعية ومدونة

......................

الهوامش

1- إبراهيم العريس وفريق مجلة القافلة، "السينما هي الفن السابع".

2- علياء طلعت، عن الجزيرة 360 "تاريخ الفن السابع" (بتصرف).

3- محمد شويكة، السينما والسوسيولوجيا أية علاقة.

 

في المثقف اليوم