قضايا
عبد الحسين الطائي: لم يكن الرصافي طائفياً

الشاعر والمفكر معروف الرصافي (1875-1945) شخصية مثيرة للجدل، هناك آراء مختلفة حول مدى طائفيته، يرى البعض أنه كان يحمل توجهات طائفية في بعض كتاباته. وردت بعض العبارات في كتابه "الرسالة العراقية في السياسة والدين والاجتماع" يراها البعض بأنها ذات فحوى طائفي، وإنه لم يستطع التخلص من طائفيته، وأعتقد بأن هذه المواقف فيها تجني على الرصافي، لأن جلّ كتاباته تميل إلى العقلانية والواقعية، أي لم يكن طائفياً بالمعنى المتداول اليوم، بل كان ناقداً وذو توجهات إصلاحية ووطنية، كتاباته وأشعاره تعكس رؤية نقدية للمجتمع يعبر من خلالها عن هموم وقضايا الناس بأساليب بعيدة عن المبالغة.
عاش الرصافي حياة مضطربة، ذكر الباحث سلام عبود بأن حياة الرصافي تخلو من الهدوء النفسي والاجتماعي، كان يجد انسجامه النفسي في موقعين إشكاليين: الأول، عند مواجهة السياسة البريطانية فكريا وعمليا، والثاني في مواجهة الوجود الشيعي فكريا. وقد اتخذ من الموقعين ميدانا ثابتا لقتال متصل لا مساومة فيه ولا مراجعة. فبقدر ما كان انسجامه في مناوءة السياسة البريطانية معمقاً لمكانته الفكرية والسياسية، وجالبا للفخر الشخصي والتطمين الذاتي، كان رضاه النفسي في نقد الشيعة فكريا مصدر ضعف واضطراب فكري واجتماعي عميقين، حطّا بشكل كبير من مقدراته النقدية المتميزة، ومن ملكة ورصانة البحث لديه.
ربما لا يشي شعره بالشيء الكثير من هذا الميل للطائفية، لكن بعض كتاباته النثرية تلقي ضوءاً ساطعاً عليه.
وهناك من يرى بأنه يمتلك رؤية فكرية خاصة به أسوة بكثير من الباحثين، سعى الى دراسة جذور التشيع، لكنه بالغ في التحري مما أوقعه في شِباك الطائفية. ولذلك هو لم يُعرف بطائفيته، فهو الناقد للسنة والشيعة على السواء، كان من الأصوات التي تدعو إلى الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية. كان علمانياً في توجهاته، ركز في شعره وكتاباته على قضايا العدالة الإجتماعية والحرية ومحاربة الفساد السياسي والتخلف والاستعمار، ولم يهتم كثيراً بالانتماءات الطائفية والدينية. كان ناقداً لاذعاً للسلطة وللطائفية وللتعصب الديني، كتب شعراً ضد استغلال الدين في السياسة، وهاجم بعض رجال الدين الشيعة والسنة على حد سواء، ولكن ليس من منطلق طائفي، بل من منطلق نقده لاستغلال الدين في تجهيل الناس وتثبيت الاستبداد. لم يُعرف بإثارة النعرات الطائفية بل هناك الكثير من تصريحاته ضد التفرقة الدينية والمذهبية، كان يتبنى مشروعاً إصلاحياً شاملاً يهدف إلى بناء دولة مدنية قائمة على قيم العدالة والتعليم.
ومن أقواله المعروفة: "علم ودين، كلاهما في خدمة الوطن"، كتب كثيراً في تمجيد العقل والعلم، انتقد الخرافات والجمود الديني. وصور التناقض بين العقل والجهل، فلو كان طائفياً، لما تبنّى هذه المواقف النقدية الجريئة التي جعلته منبوذاً في فترات كثيرة من حياته من قبل السلطات الدينية والسياسية معاً. فهو ينتقد استغلال الدين لتمرير الجهل، ويشير إلى أن بعض "دعاة الدين" يرون الجهل وسيلة لخدمة الدين، وهو بذلك يهاجم التوظيف الديني للجهل وليس الدين ذاته. ومن بعض أشعاره المناهضة للطائفية والداعية إلى العقل والعلم ونقد الجهل والانغلاق والخرافات باسم الدين:
أراني كلما اجتزتُ العراقــــا
رأيتُ من الجهالة فيهِ نـاقـــــا
يُـدارُ على الدجى في ليلِ عقلٍ
يُـقَـدُّ بهِ إلى الجهلِ السِباقــــــا
وعجبي من دُعاةِ الدينِ لمــــا
رأوا في الجهلِ للدينِ اتساقــا
فهو يمجد العقل والعلم:
ليسَ الجمالُ بأثوابٍ تزيّنُنـــــــا
إن الجمالَ جمالُ العقلِ والأدبِ
فهذه دعوة واضحة للتركيز على القيم العقلية والروحية لا المظاهر، دعوة للوحدة ونبذ الفُرقة، وهو موقف مضاد للتزمت الديني والانغلاق والسطحية التي تروَّج أحياناً باسم الدين أو التقاليد الطائفية. فهو ينقد الطائفية والتفرقة من منطلقات علمية، نقده موجه للطائفية والانقسامات التي رآها مضرة للوطن:
فقلْ للذي يبغي خلافَ بنيــــــهِمُ
أتطلبُ بالجهلِ المعيبِ مفاخرَه؟
كفانا فُرقةً يا قـــــــــومُ، هـذي
تذرّينا كما ذرّت رياحٌ عاثره
أبرز أفكار معروف الرصافي تكمن في رؤيته للسيرة النبوية، حيث يرى بأن السيرة النبوية يجب أن تُدرس كأي سيرة بشرية، باستخدام العقل والمنطق والتحليل التاريخي. ويرى بأن النبي محمد عظيم العظماء وقائداً عربياً عبقرياً ظهر في بيئة قبلية متفككة، فأعاد تنظيمها وأعطاها مشروعاً، ولا يُنكر فضله في توحيد العرب ونشره للقيم والأعراف الجديدة. انتقد كتب الحديث والسيرة لكثرة التناقضات، ويؤمن بأن السياسة لعبت دوراً كبيراً في صياغة الكثير من السردية الإسلامية. ولهذا فهو يتعامل مع الأحداث التاريخية والسيرة بأنها أمور قابلة للتحليل والنقد، ويقدم لها قراءة علمانية بعيداً عن التقديس والسرد الإيماني.
والرصافي لم يكن بلشفياً بالمعنى الحزبي أو الأيديولوجي المتشدد، لكنه تأثر بالحركات الثورية التي شهدها العالم في تلك الحقبة، ومنها الثورة البلشفية في روسيا (1917). لم ينضم لحزب بلشفي أو يتبنى الماركسية فكرياً بشكل كامل، لكنه عبّر بإعجاب عن الثورة البلشفية لما حملته من تحرر للطبقات الكادحة، ورفض للظلم، كان ثائراً ومتمرداً على الاستبداد، فوجد في البلشفية نموذجاً يلهمه. لقد وجد بأن تلك الأفكار تنسجم مع تطلعاته وهدفه الإصلاحي والاحتجاجي ضد الأنظمة الاستبدادية والاستغلال الديني فتأثر بها.
كان الرصافي معجباً بموقف البلشفيين من الإقطاع والكنيسة، وكان يرى فيهم الهمة الثورية في سعيهم للعدالة الاجتماعية، لذلك استعار تعبير "البلشفية" كعنوان لقصيدته للإشارة إلى الثورة ضد الظلم والاستبداد، لا كأيديولوجيا منظمة، قائلاً:
وما البلشفيةُ غيرُ انتفــــــــاضٍ
على الظلمِ في صورةٍ مشهوده
أرى الشرقَ محتاجاً لبلشفةٍ بها
يقومُ على ساقيهِ بعد الرقـــوده
هنا يصرّح بإعجابه بالحركة البلشفية بوصفها "انتفاضاً على الظلم"، ويرى أن "الشرق" بحالة ركود، بحاجة إلى مثل هذه اليقظة، بحاجة إلى تطبيق الفكر البلشفي، ويستشهد في بيت آخر بالبلشفية كنموذج للصحوة الثورية والاستيقاظ من الغفلة:
أفيقوا، فقد نامَ السُراةُ وأيقظتْ
بلادُ البلشفيةِ راقديــــــــــــــنا
ومن قصيدة "أنا بالحكومة والسياسة أعرف"، التي ينتقد فيها الحكومة العراقية ويشير إلى البلشفية كحل للتخلص من الاستعمار البريطاني:
للإنكَليزِ مطامـعٌ ببلادكــمْ
لا تنتهي، إلا بأن تتبَلشَـفُوا
قام اتحاد الأدباء والكُتاب في العراق بعدة فعاليات لتكريم واستذكار الشاعر معروف الرصافي في مناسبات مختلفة. كان "مهرجان عام 1959" أبرز تكريم جرى له بمناسبة مرور (14) عاماً بعد وفاته، وقد تم نشر كتيب توثيقي لهذا المهرجان في عام 1960، (أرسله لي مشكوراً المؤرخ العراقي الأُستاذ هادي الطائي مع مجموعة صور لمهرجان الرصافي)، التي تدل على الاهتمام المبكر بإرث الرصافي. كان مهرجان الرصافي عام 1959حدثاً مهماً في تاريخ العراق، شهد حضور شخصيات بارزة في الحياة السياسية والثقافية، من بينها الزعيم عبد الكريم قاسم المعروف بتقديره للشعراء والمثقفين، وقد ألقى كلمة في المهرجان وكذلك بحضور الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري الذي ألقى كلمة بالمناسبة.
***
د. عبد الحسين الطائي
أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا