قضايا

مصطفى غلمان: تراجع الفردانية الحداثية

صعود الجماعات المرنة والقبائل المعاصرة

فيما تحدث أنتوني غيدنز عن هيمنة "الفردانية الحديثة المتأخرة"، مستحضرا فواعل العولمة والتكنولوجيا على الذاتية الفردية، باعتبارها شبكة من التفاعلات الاقتصادية والثقافية والسياسية على نطاق عالمي، تعمل على توسيع الأفق الشخصي وزيادة فرص الاختيار والوعي بالقضايا الكونية، فإن ثمة تأثيرات تكنولوجية على الذاتية الفردية، خاصة على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، حيث تتآكل بفعل عوامل الضغط والإدمان الرقمي والتعرض للرصد والمراقبة.

في السياق عينه، ركّز أولريش بيك على الفردانية في المجتمعات المخاطرة وكيف يمكن أن تتراجع عند مواجهة أزمات عالمية. ما يسهم في بروز مفهوم "الفردانية السائلة" وكيف يزداد تأثير الشبكات الاجتماعية والتغيرات الاقتصادية على الذات الفردية. ما يعني أن الأفراد مُجبرون على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم في مواجهة المخاطر، بالتوازي مع تراجع دور الهياكل التقليدية (الدولة، الأسرة، المجتمع) في حماية الفرد، مما يزيد الاعتماد على الذات الفردية. فهل يعيش هذا النموذج الإنساني المعاصر توازنًا بين الحرية والمسؤولية، حرية أكبر في اتخاذ القرار، أو مسؤولية كبيرة لمواجهة المخاطر بنفسه.

أكيد أن الفردانية هنا هي أقرب إلى الفردانية "المرنة" أو "السائلة" كما وصفها بعض الباحثين المعاصرين، فهي تتغير حسب مستوى المخاطر والتحديات المحيطة. إذ إنه على الرغم من زيادة الاستقلالية، فإن المخاطر اللامحدودة تجعل الاختيارات الفردية منكمشة أحيانًا بسبب تأثير العوامل البيئية أو الاقتصادية. فالفرد في هذا السياق ليس حرًا بالكامل، بل عليه أن يتكيف باستمرار مع المخاطر الجديدة.

إن "تراجع الفردانية الحداثية" يشير إلى الظاهرة الاجتماعية والثقافية التي تتمثل في انخفاض الاهتمام بالقيم الفردية المستقلة أو الذاتية التي كانت مهيمنة خلال مرحلة الحداثة، واستبدالها بتركيز أكبر على الجماعة، التضامن الاجتماعي، أو الروابط المجتمعية.

ولا حاجة إلى التذكير أن من بين أهم أسباب وعوامل تراجع الفردانية الحداثية صيرورة الأزمات الاقتصادية والسياسية، كالأزمات الكبرى مثل الركود الاقتصادي العالمي، الحروب، أو الصراعات السياسية التي تجعل الأفراد يلجؤون إلى التضامن الاجتماعي بدلاً من الاعتماد على الذات فقط. وأيضا عامل التغيرات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي رغم تعزيزها لقيم التواصل والاتصال، فإنها غالبًا ما تؤدي إلى خلق شبكات جماعية وتأثيرات ضغط اجتماعي تجعل الفرد جزءًا من مجموعات أكبر، بدلًا من التفرد المطلق. فيما يأتي الوعي البيئي والاجتماعي، كقضايا مثل تغير المناخ، الصحة العامة، والفقر تجبر المجتمعات على التعاون الجماعي، كسبب رئيس في تراجع الأولوية المطلقة للفرد. على أن فلاسفة معاصرون يرون أن الفردانية المفرطة أدت إلى عزلة اجتماعية وانحلال الروابط المجتمعية، ويدعون إلى إعادة التوازن بين الفرد والمجتمع. من بينهم ايميل دوركايم، الذي يرى أن الفردانية المفرطة قد تؤدي إلى "انتحار اجتماعي نتيجة ضعف الروابط الاجتماعية والعزل، وأن الفردانية المطلقة غير الصحية تؤدي إلى ضعف الروابط الاجتماعية والعزلة. مقترحا إيجاد توازن بين حرية الفرد وتكامل المجتمع.

إذا كان الفكر الحداثي، باعتباره وحدة مستقلة ذات عقل وإرادة حر، بل صانع التاريخ والمركز الذي تبنى حوله العلاقات الاجتماعية والمؤسسات. فإن هذا النموذج التقليدي للفرد تراجع أو انهار في سياق ما بعد الحداثة. إذ لم يعد محور العالم الاجتماعي، ولم يعد الذات المستقلة هي الفاعل الأساسي في بناء التاريخ، بحسب نظر ميشيل مافيزولي، ومن نتائج ذلك، تحول الفردانية المفرطة إلى نوع من الجماعية العاطفية (الهويات المحلية والقبلية)، فما بعد الحداثة لا تلغي الفردية بالكامل، لكنها تعيد توجيهها داخل مجموعات مرنة ومؤقتة تتقاسم قيمًا ومشاعر معينة. وهذا يفسر ظهور القبائل الرقمية والثقافات الفرعية وارتباط الأفراد بمجتمعات متخصصة أو جماعية على الإنترنت ووسائل التواصل.

إن تراجع الأيديولوجيات الكبرى التي كانت توفر هوية جماعية واسعة، وضعف المؤسسات العقلانية التقليدية، دفع الأفراد للبحث عن الشعور بالانتماء والمعنى داخل مجموعات صغيرة ومتخصصة. وهكذا، لم تُلغَ الفردية في مرحلة ما بعد الحداثة، بل أعيد توجيهها داخل هذه "القبائل الرقمية" والثقافات الفرعية، التي توفر روابط وجدانية ورمزية تعوض عن غياب الهيمنة الكاملة للعقلانية والمؤسسات. هذا التحول يوضح أن الفرد المعاصر يعيش حالة من التوازن الديناميكي بين الاستقلالية والانتماء، بين الحرية الشخصية والمسؤولية الاجتماعية.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

 

في المثقف اليوم