قضايا
عبد الله الفيفي: من الإعجاز الرقمي إلى الإعجاز الوجداني!
(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)
قلتُ لـ(ذي القُروح)، وأنا أناقشه:
ـ وأخيرًا يذهب (القبَّانجي) إلى أنَّ من التناقضات في «القرآن» أن يأتي قوله: «إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»، ثمَّ يقول: «إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ». فلماذا يُقفل باب التوبة هنا؟ كما يتساءل.
ـ فلنقرأ الآيات، دون هذا التلويح بعبارات مبتورة من سياقاتها، كما يفعل صاحبك. يقول تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.». ويقول: «إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ، وَمَن يُشْرِكْ باللهِ، فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا.» ففي الأُولى يخاطب المؤمنين: «يَا عِبَادِيَ»، الذين أسرفوا على أنفسهم في الذنوب. وفي الأخرى يذكر أهل «الشِّرك»، وعدم إخلاص الإيمان بالله. فذاك شيء وهذا شيء. ثم إن الشِّرك لا يُعَدُّ ذَنْبًا يُتاب منه، بل هو افتراء، وإثمٌ عظيم، كما جاء في الآية. ومن ثَمَّ فلا يُعَدُّ الشِّرك مجرَّد ذَنْب، يُتاب عنه، بل لا بُدَّ من الخروج منه، أوَّلًا، وقبل كلِّ شيء، والدخول إلى الإسلام التوحيدي، وإنَّما التوبة تكون عن ذَنْبٍ من الذُّنوب، وأنت داخل دائرة الإسلام، أمَّا ذلك المُشْرِك، فهو خارج الدائرة أصلًا؛ فعليه أن يُسلِم أوَّلًا، كي ينطبق عليه خطاب الآية الأخرى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.». فهمتَ؟ أ فهذا رجلٌ يعقل ما يقرأ أو يقول؟!
ـ وأيُّ افتراءٍ عبر هذا الهراء؛ إذ يزعم الاختلاف الكبير في «القرآن»، غير مدركٍ أن منبع الاختلاف إنَّما هو لاختلالٍ كبير في تركيب عقله هو، وهذا تشخيصٌ لما يُعرِب عنه هو بلسانه؟! ثمَّ يقترح على المسلمين ما يسميه «الإعجاز الوجداني» في القرآن؟
ـ ما شاء الله! وهذا ابتكار جديد صِنْو البِدعة السابقة في القرن العشرين: «الإعجاز العِلمي في القرآن»، التي ظلت تلهث وراء النظريَّات العِلميَّة، في عُقدة نقصٍ عِلميٍّ فاضحة.
ـ وثالثة الأثافي «الإعجاز العددي في القرآن»!
ـ هذه جاءت متأخِّرة، قائمة على مزاعم الإحصاء والحوسبة، القائلة لنا، مثلًا: إنَّ كلمة «الدُّنيا» قد وردت في «القرآن»: 115 مرَّة، وكلمة «الآخِرة»: 115 مرَّة كذلك.
ـ عجيب! هذا ملحظ مثير!
ـ هكذا يبدو أوَّل وهلة، للتَّقابل بين (الدُّنيا) و(الآخِرة)، واتفاق مجيئهما بالعدد نفسه، وهذا ما لا يتأتَّى في كتابٍ آخَر، وإنْ تأتَّى مرَّة فلن يطَّرد! غير أنك حين تدقِّق في هذا الادِّعاء، تجد أنَّ كلمة «الدُّنيا» لا تكاد تُذكَر في «القرآن» إلَّا مقترنةً بـ«الآخِرة»، ومن هنا كأنهما كلمة واحدة؛ فمن الطبيعي، بلا إحصاء، أن تكون النتيجة في عدد تكرارهما متشابهة. بل أكثر من هٰذا، ستجد أنَّ هذه الإحصائيَّة إنَّما تُحصي الألفاظ آليًّا، مغمضة العينين عن المعاني. وإلَّا فإنَّ «الآخِرة» المقابلة لـ«الدُّنيا» ، بمعنى (الدار الآخِرة)، لم ترد 115 مرَّة، بل أقل من هذا الرقم. لأنَّهم قد أحصوها وإنْ وردت بمعنى لا يتعلَّق بالدار الآخِرة، بل صفةً لموصوفٍ آخَر؛ لأن جماعة هذا الإعجاز- بوصفهم أصحاب دِقَّةٍ وإحصاء- يُحصون صفة «الآخِرة» عشوائيًّا، حيثما وردت. ومن هذا مجيئها في عبارة مثل «النشأة الآخِرة»! مع أنها هنا بمعنى: الأخرى. وكذا في عبارة «المِلَّة الآخِرة»، أي: الأخرى، ولا علاقة لـ«الآخِرة» هاهنا بالآخِرة في مقابل «الدُّنيا». إلى غير هذا من الاستعمالات التي لا علاقة لها بمعنى (الدار الآخِرة). ثمَّ جاء مهندسٌ آخر- واللافت أنَّ جلَّ هؤلاء، إنْ لم يكونوا كلَّهم، مهندسون!- ليجعل معجزة «القرآن» كامنة في الرقم (تسعة عشر)؛ فشرعَ يحصي القِيَم الرقميَّة للحروف ومضاعفاتها، زاعمًا أنَّ رسم المصحف توقيفي. ومن هذا المنطلق، ذهب إلى أنَّ رسم (إبراهيم)، مثلًا، يَرِد مرَّةً بالياء، ومرَّةً بدون ياء: (إبراهم)، لحكمةٍ عدديَّة. فضلًا عن أنَّ الاسم كذلك مكتوب في اللوح المحفوظ! ولا ندري ما أدراه؟! قال: فهذا الاسم إنَّما يَرِد بدون ياء في ذِكر إبراهيم قبل أن يُولَد له ولد، فلما صار له ولد، اكتسب اسمه ياءه!(1) وهنا تبدو المعجزة أشبه بالعَجْز؛ لأنَّ الكاتب لم يستطع الرمز لهذا المعنى إلَّا بحيلة إملائيَّة، بحيث يكتب الاسم مرَّةً (إبراهم)، ومرَّةً (إبراهيم)! علاوة على أنَّ في هذا تضليلًا للقارئ، وإخلالًا بالعَقد التواصلي بينه وبين الكاتب، الذي يقتضي أن لا يكتب الكاتب الاسم كلَّ مرَّة بطريقة، مع أنَّه اسمٌ واحد، ومنطوقه واحد، وإلَّا كان يكتب ما لا يُمكن أن يُقرأ على نحوٍ سليم. والواقع أن الإملاء المصحفي القديم إنَّما يمثِّل إملاءً بدائيًّا متواضعًا، بوصفه طورًا من أطوار الخطِّ العَرَبيِّ، والإملاء الكتابيِّ خلال القرن السادس الميلادي.(2) علمًا أنَّ صاحبنا إنَّما يبني حساباته على رسم ما يُسمَّى (مصحف عُثمان). فكيف يُصبح عجز الكاتب إذ ذاك، أو تواضع مهاراته الإملائيَّة، وربما أخطاؤه وتصحيفاته- التي أدركها أحيانًا بعض معاصريه(3)- آياتٍ معجزات، تُنسَب إلى الله، تعالى الله، وإلى أنها كذلك مكتوبة في اللوح المحفوظ؟!
ـ على أنَّ السؤال: إذا صحَّ ما زعم سعادة المهندس من حسابات، فماذا عن القراءات القرآنيَّة السبع؟ أو غير السبع؟ أتطابق نظريتَه، (نظريَّةَ إحدى الكُبَر)؟
ـ ذلك ما يحتاج إلى إيضاح؛ لأن اختلال منظومته الحسابيَّة بتغيير حرفٍ واحد، رسمًا أو نطقًا، كفيلٌ بإبطال نظريَّته. على أنَّ نتيجة هذا كلِّه ليست أكثر من أن يتحوَّل «القرآن»- على يدَي مهندسنا الهمام- إلى ما يشبه كتاب «شمس المعارف الكُبرَى»، لـ(أحمد بن علي البوني، -622هـ)، وهو كتاب في السيمياء والطلسمات والأعمال السِّحرية!
ـ خلاصة القول؟
ـ خلاصة القول: إذا كان المسلمون قد انتظروا 1400 سنة ليُثبِّت الحاسبُ الآليُّ إيمانهم، فلن يَثبت لهم إيمان؛ لأن «القرآن» ليس بكتاب إحصاء، أو معادلات رياضيَّة، أو جداول ضرب وقسمة. كما أنَّه ليس بكتاب في الفيزياء الكموميَّة، مثلًا، أو علم الكيمياء، أو الطِّب، أو الفَلَك، بل هو كتاب هداية وتبصُّر، جاء بلسان العَرَب.
ـ وفي النهاية: من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.
ـ وما كان الله ليحجب هذه الآيات الإعجازيَّة النصيَّة، من هذا النوع، طوال القرون الماضية، وما أُثِرت عن الرسول قط إشارة إلى أنَّ في حروف «القرآن» أو كلماته أسرارًا حسابيَّة، وقد كانت جديرة، لو صحَّت، بأن تَكسَب إليها عقول البَشَر.
ـ هذا فضلًا عن نفي «القرآن» الإتيان بالآيات والمعجزات الحِسيَّة، وهي أسهل ممَّا يبحث عنه أرباب الإعجازات العِلميَّة والكونيَّة والرقميَّة في عصرنا، ولم يستثن سِوَى المعجزة البيانيَّة التي تحدَّى بها العَرَب.
ـ هذا تِبيانُ أنَّ الإنسان ما انفكَّ يبحث في «القرآن» عمَّا ليس فيه، أو بالأحرى عمَّا ليس له، وصولًا إلى بِدعة القول بـ«الإعجاز الوجداني». لكن ما ذاك اللون الإعجازي المبتكر، المُسمَّى «الإعجاز الوجداني»؟
ـ إنه اتجاهٌ إعجازيٌّ نقيضٌ للاتجاهين الإعجازيَّين السالفَين. يفسِّره صاحبه بأنه نغمةٌ إلاهيةٌ في النصِّ القرآني غير موجودة في سِواه، ولا تختلف في «القرآن» كلِّه.
ـ يا سلام سلِّم! لكن نحن سنتساءل هنا ما جدوى تلك النغمة الوجدانيَّة، ما دام خطاب «القرآن» متناقضًا- كما يزعم (القبَّانجي)- بل أيُّ احترامٍ يبقى لخطابٍ تلك صفته (التناقض)؟ إنَّما يُفضي هذا القول إلى تجريد النصِّ من كلِّ قيمة تشريعيَّة، أو حتى منطقيَّة، بحيث يظلُّ نصًّا وجدانيًّا، طقسيًّا، حُلوًا، للتسلية، لكنَّه بلا معنى منطقيٍّ ولا عملي! وهذا ما تلحُّ عليه نظريَّة القبَّانجي- إنْ صحَّت تسميتها بهذا المصطلح(4)- من أجل تجريد الدِّين، الإسلامي تحديدًا، من وظيفته المعرفيَّة، أو التشريعيَّة، أو حتى العقلانيَّة، فلا يبقى منه إلَّا القيمة النفسيَّة، والشاهد التراثي. ولن نخوض في هذا وغيره من اعتقاداته، التي لم يقل بها قبله مسلم، أو ألوهي قط، اللَّهم إلَّا أنَّ بعض أفكاره سبقه إليها (ابن الراوندي الملحد، أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق، -298هـ= 910م)، تاجر الأديان والأفكار المشهور في عصره، قبل أكثر من ألف سنة.
ـ ولعلمك، يا (ذا القُروح)، الرجل يصرِّح باعتقاده أنَّ «القرآن» مصدره ما يسمِّيه: «الوحي الوجودي»، وتارةً- فتعبيراته غير منضبطة-: «الوحي الوجداني»، وليس بمعجزة بلاغيَّة.(5)
ـ ألا ليتك أخبرتني قبل هذا الحماس في النقاش؛ لكي أغسل منه يدي وأستريح!
***
أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي
.........................
(1) يُنظَر ما نُشِر على موقع «يوتيوب» تحت عنوان «أكبر كشف إعجازي في القرآن الكريم منذ تنزيله حتى الآن!»:
https://www.youtube.com/watch?v=sek52clKRqw
(2) هذا الرأي السائد. غير أني أتساءل: أكانت كتابة صلاة: صلوٰة، وحياة: حيوٰة، وزكاة: زكوٰة، وغيرها في المصحف العثماني بتلك الصُّوَر الكتابيَّة عن طريقة إملائيَّة عتيقة لا يُقاس عليها، وذاك كلُّ ما في الأمر؟ أم أنها تُسجِّل لنا طريقة نُطق العَرَب لهذه الكلمات إبَّان مجيء «القرآن»؟ نحن لا نعلم عن لغة العَرَب المنطوقة غير ما نقرأه في ما دوَّنه المدوِّنون. فربما كان العَرَب في صدر الإسلام ينطقون (صلاة)، لا كما ننطقها نحن المتعلِّمين- المتعلِّبين وَفق نمطٍ واحد- اليوم، ولكن كانوا ينطقونها: صَلُوْة، وينطقون حياة: حَيُوْة، وزكاة: زكُوْة. بصوتٍ واويٍّ خفيفٍ قبل آخرها. وهذا النُّطق ما زال مسموعًا في بعض اللهجات الحديثة، ولا سيما في جَنوب الجزيرة العَربيَّة وشرقها. ولا شكَّ أنَّ تلك اللهجات الحديثة إنَّما هي امتدادٌ لتاريخٍ لُغويٍّ قديم، ولم يخترعها أهلها من عند أنفسهم في العصور المتأخِّرة. ويؤكِّد هذا أن نجد من خلال نقوش المعينيِّن أنهم كانوا يُسمُّون صلاتهم التي يؤدُّونها لآلهتهم، كما في نقوشهم: «صلوت». (يُنظَر، مثلًا: الفاسي، هتون أجواد، (1993)، الحياة الاجتماعيَّة في شمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة في الفترة ما بين القرن السَّادس قبل الميلاد والقرن الثَّاني الميلادي، (الرِّياض: ؟)، 268). وكذلك جاء رسم الكلمة في المصحف العثماني. وقد أورد (الخليل)، و(الجوهري) و(ابن دُريد)، و(الصاحب بن عبَّاد) كلمة (صلاة) في مادة (صلو). وقال (الخليل، العَين، (صلو)): «الصَّلاةُ ألفُها واوٌ؛ لأنَّ جَماعتَها: الصَّلَوات، ولأنَّ التثنيةَ صَلَوان.» وقال (الصاحب، المحيط في اللُّغة، (صلو)): «هُذَيْلٌ تقول: صَلَّوْتُ الظُّهْرَ: بمعنى صَلَّيْتُ.» كذا في أصوله، وعُدِّلت العبارة في معاجم أخرى إلى: «صَلَوْتُ الظَّهْرَ: بمعنى صَلَيْتُ»، أي ضربت صَلاه. (يُنظَر: ابن منظور، لِسان العَرَب، (صلا)). وبهذا أخذ محقِّق «المحيط»، مستصوبًا. (يُنظَر: بتحقيق: محمَّد حسن آل ياسين، (بيروت: عالم الكتب)، 8: 184). وأضاف (ابن دُريد، الجمهرة، (صلواي)): «اختلفوا في اشتقاق الصَّلاة؛ فقال قوم: الصَّلاة: الدُّعاء، ومنه: اللهمَّ صلِّ على محمَّد، وكانوا في صدر الإسلام إذا جاءوا بالرجل إلى المصدِّق، قالوا: صلِّ عليه، أي ادْعُ له. وقال قوم: بل اشتقاق الصَّلاة من رفع الصَّلا في السجود. والأول أعلى.»
(3) من هذا شهادة (عائشة): «يا ابن أخي، هذا من عمل الكُتَّاب، قد أخطأوا في الكتاب.» (يُنظَر: أبو عبيد القاسم بن سلام، (د.ت)، كتاب فضائل القرآن، تحقيق: مروان العطية، محسن خرابة، وفاء تقي الدِّين، (دمشق- بيروت: دار ابن كثير)، 287).
(4) ثمَّة خلطٌ شائعٌ في الخطاب العَرَبيِّ العامِّ بين مفهوم «نظريَّة» و«وجهة نظر».
(5) من مقاطع، ومحاضرات عِدَّة على موقع «يوتيوب»، وإن كان بعضها لم يعد متاحًا على رابطه القديم.