آراء

مجيدة محمدي: بين الديكتاتورية المظلمة والديكتاتورية الوطنية

جدلية القمع والوعي في مصائر الشعوب

الملخص: يناقش هذا البحث الفارق الجوهري بين نمطين من الأنظمة الاستبدادية: "الديكتاتورية المظلمة" و"الديكتاتورية الوطنية"، من حيث البنية والغايات والآثار في الوعي الجمعي والفردي. يُظهر التحليل أن كلا النموذجين، وإن اختلفا في التبريرات الأيديولوجية، يشتركان في تفكيك الفرد واستلاب الوعي، لكنهما يختلفان في الرمزية والمشروع السياسي المعلن. ويعتمد البحث على تحليل مفاهيمي مدعوم بمراجع فكرية (فوكو، أورويل، فروم، الجابري، المسيري)، لتفكيك علاقة السلطة بالحرية، وإبراز أثر الاستبداد في صياغة مصير الشعوب وهويتها القومية. يخلص البحث إلى أن الوعي الفردي هو الركيزة الأساسية لمواجهة كافة أشكال القمع، وأن الاستبداد، مهما تنكّر بشعارات وطنية، يظل نقيضًا للحرية والكرامة الإنسانية.

الكلمات المفتاحية: ديكتاتورية، وعي، حرية، استبداد، قضايا قومية، قمع، خطاب سياسي.

مقدمة: في التمييز بين ظلال الطغيان

على مدار التاريخ السياسي، لم تكن الأنظمة الاستبدادية متجانسة في ممارساتها أو أهدافها، وإن اتفقت غالبًا في اعتمادها أدوات القمع والسيطرة. ينبثق من هذا الواقع سؤال فلسفي وسياسي: هل يمكن التمييز بين "الديكتاتورية المظلمة" التي تنكر الوطن والإنسان، و"الديكتاتورية الوطنية" التي تدّعي حمايتهما؟ وهل يغير الخطاب القومي طبيعة الاستبداد؟ أم أنه مجرد غطاء يُجمّل القمع؟

هذا البحث لا يسعى لتبرير أي شكل من أشكال الطغيان، بل لفهم آلياته ومآلاته، وتأثيره على البنية الوجدانية والسياسية للفرد والجماعة، عبر تحليل جدلي يتناول أربعة محاور: تعريف النمطين، موقع الحرية في كل نموذج، أثر الطغيان على القضايا القومية، وأخيرًا علاقة الاستبداد بتفكيك الوعي وقطع الذاكرة.

الفصل الأول: أنماط الاستبداد وتمثلاته

1- الديكتاتورية المظلمة: استعباد الوعي ونفي الوطن

تمثل هذا النمط أنظمة تقوم على نفي الجماعة السياسية لحساب مركز سلطوي مغلق، وتُعيد تعريف الوطن كغنيمة للسلطة. تستعمل هذه الأنظمة أجهزة الدولة لتدجين الفرد، وتجعل من الطاعة محور العلاقة السياسية. من سماتها:

تجريم الحرية وتحويلها إلى تهديد وجودي.

استبدال الهوية الوطنية بولاءات خارجية أو طبقية طفيلية.

تدمير القدرة على التفكير النقدي والإبداعي.

2 - الديكتاتورية الوطنية: القومية كسردية احتكار

رغم اشتراك هذا النموذج في الأدوات السلطوية، إلا أنه يستند إلى خطاب تعبوي قومي. تبرر هذه الأنظمة قمعها بشعارات التحرر ومقاومة الاستعمار. من أبرز سماتها:

تمجيد الوطن واختزال تجسيده في الزعيم.

بناء مشاريع اقتصادية موجهة باسم الشعب.

توجيه الوعي الفردي نحو غاية "وطنية" شمولية، تمنع النقد الذاتي.

الفصل الثاني: الحرية بوصفها وظيفة مستحيلة

1- الحرية في الديكتاتورية المظلمة: جرم الوجود الحر

تنظر الأنظمة المظلمة إلى الحرية كجريمة، لا بوصفها خطرًا سياسيًا فقط، بل كفكرة تنفي شرط الطاعة. كما يشير ميشيل فوكو، فإن السلطة لا تكتفي بقمع الجسد بل تعمل على "تأديبه"، ليصبح الفرد مجرد ترس بلا صوت في آلة السلطة.

2 - الحرية في الديكتاتورية الوطنية: التأجيل الأبدي

يُؤجل هذا النموذج الديمقراطية لصالح "المعركة الكبرى"، ويُقزّم الحريات تحت شعار "الأمن القومي". يحاكي هذا المنطق ما صاغه جورج أورويل في رواية 1984، حيث تُصبح الحرب ذريعة دائمة لطمس الذاكرة وتزييف الحقيقة.

الفصل الثالث: مصير القضايا القومية بين الخطاب والواقع

1- في الديكتاتورية المظلمة: تفكيك الانتماء وتذويب الوطن

تُفرغ الأنظمة المظلمة القضايا القومية من محتواها، فتصبح الوطنية مرادفًا للولاء للسلطة. ويتم إعادة تشكيل الخطاب السياسي ليتماهى الوطن بالحاكم، مما يؤدي إلى الارتهان لقوى خارجية.

2 - في الديكتاتورية الوطنية: المشروع القومي كأداة هيمنة

رغم تبنيها خطابًا وطنيًا مقاومًا، إلا أن هذه الأنظمة تُحول المشروع القومي إلى سردية مغلقة تمنع النقد. وكما لاحظ عبد الوهاب المسيري، فإن الاستبداد الوطني قادر على تحويل مفاهيم التحرر إلى أدوات طغيان جديدة إذا غابت المشاركة الشعبية.

الفصل الرابع: الوعي والذاكرة تحت نير السلطة

1- تفكيك الوعي الفردي

في كلا النموذجين، يُمنع الفرد من التفكير خارج الإطار المرسوم. تستخدم السلطة التجهيل، الإعلام الموجّه، أو التذويب في خطاب جمعي، كما يحذر إريك فروم في الخوف من الحرية: الطاعة العمياء تُبنى على خوف داخلي من الحرية ذاتها.

2- من الوعي الفردي إلى قَطع الذاكرة الجماعية

يهدف تفكيك الوعي إلى صناعة "وعي القطيع"، وهو ما يُفقد الشعوب قدرتها على إنتاج وعي ناقد. ويُحذر محمد عابد الجابري من أن العقل العربي حين يُستلب ضمن طغيان التقليد، يعيد إنتاج الطاعة بدل المسؤولية، مما يُكرّس الاستبداد في كل تحول سياسي.

الخاتمة: من وهم القائد إلى ضرورة الوعي

إن التمييز بين الديكتاتوريتين لا يعني تبرئة أحدهما، بل يكشف كيف أن القمع، سواء بوجهه الفج أو المتوشح بالوطنية، ينتهي دوماً إلى سحق الإنسان. إن الوعي الفردي – لا الزعيم ولا الخطاب – هو أساس الحرية، وهو الضمانة الوحيدة لعدم تكرار المأساة تحت أقنعة مختلفة.

إن لم تسترد الشعوب ذاكرتها، وتحرر وعيها من وهم الطغاة، فإن الاستبداد سيعود دائمًا، بزيّ جديد، وبخطاب أكثر إقناعًا.

***

مجيدة محمدي – تونس

......................

المراجع

ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: منى أبو سنة، المركز القومي للترجمة.

جورج أورويل، 1984، ترجمة: الحارث النبهان، دار التنوير.

إريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة: فؤاد كامل، دار الثقافة.

محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية.

عبد الوهاب المسيري، الاستعمار الصهيوني والتفكيك، ضمن الأعمال الكاملة، دار الشروق.

 

في المثقف اليوم