آراء

سعيد بوسامر: أنا وناصر بوربيرار

كنت صغيرًا حين كنت أحضر مع أقراني دروس المسجد في حينا، وكان هناك معلمٌ متميزٌ يأتينا بين الحين والآخر، يحمل معه أفكارًا غريبةً ومثيرةً للجدل، منقولةً من كتب ناصر بوربيرار. كان يتحدث عن تاريخ إيران المختلف، الذي يتحدى كل ما تعلمناه في المدرسة والكتب الرسمية، ويكشف حسب رأيه التزوير الكبير في الرواية الفارسية التقليدية. كنت أنصت باهتمامٍ حين يذكر أن الاخمينيين لم يكونوا أبطالًا، بل غزاة مدعومين من اليهود، أو حين يشكك في وجود زرادشت والأفيستا، معتبرًا إياها أساطير مُختلقة بعد الإسلام وجاءت لتنافس العرب والمسلمين أو لخلق هوة بين العرب والفرس. كانت هذه الأحاديث تثير ضحك البعض واستهجان البعض الآخر، لكنها أثارت فضولي بشدة. لماذا كل هذه الجرأة في الطرح؟ ولماذا يُعتبر كلامه خطيرًا إلى هذا الحد؟

هذا الفضول قادني لاحقًا إلى البحث عن كتب بوربيرار، مثل "اثنا عشر قرنًا من الصمت" و"جسر على الماضي"، لأكتشف عالمًا مختلفًا عن التاريخ الإيراني، مليئًا بالأسئلة المحظورة والنقاشات الساخنة. كانت كتاباته صادمةً حقًا، خاصةً حين يتحدث عن دور اليهود في تشويه التاريخ، أو اتهامه القوميين الفرس بتزوير الحقائق لخدمة أجندات سياسية. شغفي بهذا الكاتب أرغمني أن ازوره في طهران في المعرض الدولي للكتاب قبل ١٣ عام لأشكره على ماقدمه وبأنه جعلني أبحث دائما عن الروايات المخفية وراء السرديات الرسمية ولن أنسى يومًا حديثه لي حين قال: "التاریخ کذبة متفق عليها وحتى تاريخكم العربي التقليدي فيه الكثير من الشوائب التي سأعرضها قريباً !" ، لكن القدر لم يمهله ليكمل هذا المشروع ؛ ربما لو امتد به العمر، لكان قد قلب الطاولة على المزيد من المسلمات التاريخية، ولأثار عواصف فكرية أكبر. لكن حتى بما قدّمه، ظلّت أفكاره شوكةً في حلق من يرفضون مراجعة التاريخ بعين نقدية.

احتراماً وخدمة لهذا الكاتب القدير حاولت أن ألخص افكاره ونظرياته التي جاء بها فيه كتبه ومحاضراته لأقصر الطريق للقارئ المهتم:

1. نقد السلالات الحاكمة قبل الإسلام (الاخمينيون، الأشكانيون، الساسانيون)

- يعتبر بوربيرار أن هذه السلالات الثلاث (التي حكمت إيران لمدة 12 قرنًا قبل الإسلام) كانت غريبة عن المنطقة، ولم تكن من السكان الأصليين لنجد إيران أو بلاد ما بين النهرين.

- يصفهم بأنهم قوم استعماريون استخدموا القوة والعنف (الرمح الفارسي) لطمس الحضارات الأصلية، مثل العيلاميين والميديين والعرب وغيرهم.

- يشكك في إنجازاتهم الحضارية، قائلًا إنهم لم يتركوا أي أثر ثقافي أو فني أو ديني يُذكر مقارنة باليونانيين أو الرومان أو حتى العرب الحفاة الجاهليين (كما يسميهم البعض) وكل ما لديهم جاء بعد دخول الإسلام المنطقة.

2. دور اليهود في تشويه التاريخ الإيراني:

- يرى بوربيرار أن المؤرخين الغربيين (خاصة اليهود) هم من روّجوا لصورة إيجابية عن الاخمينيين، وخاصة قورش الكبير، كـ "محرر" و"مؤسس لحقوق الإنسان"، وذلك بسبب خدماتهم لليهود وفقًا للنصوص التوراتية.

- يعتبر أن اليهود قاموا بتضخيم دور الاخمينيين كجزء من مؤامرة لتقسيم العالم الإسلامي وخلق عداء بين العرب والفرس.

3. تشكيكه في الشخصيات والأحداث الأسطورية:

- يشكك في وجود شخصيات مثل زرادشت وكتابه "الأفيستا"، ويعتبرها أساطير مُختلقة بعد الإسلام لمواجهة الهوية العربية الإسلامية.

- يرفض الروايات التقليدية عن الحضارة الفارسية قبل الإسلام، مثل حكايات "بزرجمهر الحكيم" أو الموسيقي "باربد"، ويعتبرها من صنع الشاهنامة (ملحمة الفردوسي).

4. نقده للخطاب القومي الفارسي المعاصر

- ينتقد المؤرخين القوميين الفرس (مثل زرين كوب ومجتبى مينوي) لتبعيتهم للمؤرخين الغربيين وترويجهم لخطاب معادٍ للعرب.

- يعتبر أن الحركة الشعوبية (التي ناهضت الحكم العربي في العصر العباسي) كانت مدعومة من اليهود وبقايا الساسانيين، ويهاجم "الشاهنامة" لكونها أداة سياسية وليست عملًا أدبيًا محايدًا وبأن منشدها مجرد شخص كان يرتزق من هذه الأبيات.

5. إشادته بالحضارات الأصلية في المنطقة:

- يمجّد حضارات ما بين النهرين (السومرية، البابلية، العيلامية) ويعتبرها أصل الحضارة الإنسانية، متهمًا الاخمينيين بتدميرها.

- يؤكد أن إيران كانت موطنًا لشعوب متعددة (عرب، عيلاميون، ميديون...) تعايشت بسلام قبل الغزو الاخميني.

6. ادعى بوربيرار أن قورش لم يكن قائدًا فارسيًا أصيلا، بل كان مدعومًا من اليهود وفقًا لنصوص التوراة، حيث جُلب من منطقة شمال البحر الأسود (القوقاز) لتحرير اليهود من السبي البابلي وتدمير حضارة بابل انتقامًا لهم !

- رأى أن التوراة هي المصدر الوحيد الذي يذكر قورش بشكل صريح، بينما تفتقد المصادر الأخرى أدلة مادية على وجوده قبل ظهوره المفاجئ كقائد.

7. رفضه للعرق الآري والهوية الفارسية التقليدية:

- يعتبر فكرة العرق الآري ملفقة، ويقول إنه لم يكن هناك شعب اسمه "الفرس" (بارس) قبل الاخمينيين.

- يشكك في اللغة البهلوية (لغة الساسانيين) ويعتبرها لغة بدائية لا ترقى لمستوى الحضارة.

8. مواجهته لمؤامرة الصمت والتهديدات:

- تعرض بوربيرار لهجوم من القوميين الفرس، الذين اتهموه بـالكفر القومي، لكنه رفض الترهيب ودعى إلى حوار وطني يعتمد على الأدلة الوثائقية.

إذن: بوربيرار قلب التاريخ الإيراني رأسًا على عقب، ورفض الرواية الرسمية التي مجدت الإمبراطوريات الفارسية قبل الإسلام، واعتبرها سردًا مزورًا لخدمة أهداف سياسية؛ وكتاباته هدفت إلى كشف ما اعتبره تزويرًا تاريخيًا مدعومًا من الغرب واليهود، وإعادة الاعتبار للحضارات الأصلية في المنطقة..

***

سعيد بوسامر

يونيو ٢٠٢٥

في المثقف اليوم