آراء
عبد السلام فاروق: مفارقات الشوط الأخير
الصراع العالمي القديم يدخل في شوطه الأخير قبل تهيئة الملعب لمباريات ما قبل النهائي!
الأحداث كما يمكن أن يلاحظها أي مراقب مهتم تتسارع بشكل لا يُصدق! وتكاد كل المؤشرات تجتمع على أن قادم الأيام يحمل معه مفاجآت ومخاوف أكثر من قدرتنا على الاستيعاب والمتابعة، وهلم بنا نتتبع شيئاً من مفارقات هذا الشوط الأخير المثير للقلق والخوف.
تهديدات ترامب
مع اقتراب الانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم يتهيأ الحزبان الديمقراطي والجمهوري شاحذين كل أسلحتهما للفوز بالرئاسة، وتزداد محاولات استبعاد ترامب من خلال القضايا المثارة ضده في المحاكم، واستطاع الديمقراطيون استمالة محامي ترامب في صفهم إذ خرج معترفاً ضده في إحدى القضايا الأخلاقية. غير أن ترامب لم يستسلم، بل ظهر مراراً في مؤتمرات جماهيرية يهدد بالأسوأ إذا تم استبعاده من الانتخابات المقبلة، ثم إن مستشاري ترامب السابقين سارعوا إلى نتنياهو دعماً له في أزمته الحالية؛ رغبة في كسب تأييد اللوبي الصهيوني في أمريكا وهو أحد اللوبيات الأشد تأثيراً في الانتخابات.
مثل هذه التهديدات تنذر بمعركة انتخابية لم يسبق لها مثيل بسبب الانقسامات الشديدة حتى داخل الحزب الواحد؛ وقد شهد البيت الأبيض عدة استقالات بسبب موقفه من الحرب في غزة، بخلاف شعبية بايدن التي تدنت لأقل مستوي لها بعد فض اعتصامات الطلاب في الجامعات الأمريكية.
أزمة كريم خان
ما حدث من ضغوط وتهديدات ضد المحكمة الجنائية الدولية قبيل إصدارها مذكرة الاعتقال الخطيرة ضد نتنياهو وجالانت أمر غريب واستثنائي وله ما بعده..
المحامي البريطاني ذو الأصول الباكستانية كريم خان أظهر ما كان خفياً من تلاعب وضغوط تعرض لها قضاة المحكمة الجنائية منعاً لها من إصدار أية أحكام ضد إسرائيل. التهديدات التي واجهها كريم خان دفعته للاحتماء بقوة الإعلام، فخرج في العلن وعلى الشاشات ليصرح بما تعرض له من تهديدات وضغوط بلا مواربة ولا خوف.
تصريحات كريم خان لم تمنع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من استمرارهما في تهديده وقضاة المحكمة الآخرين. وبدأ حلفاء واشنطن الأوربيون يخرجون عن صمتهم داعين أمريكا لعدم تهديد مؤسسات القضاء الدولية، وإلا فقدت هذه المؤسسات مصداقيتها، وبالتالي ستفقد تأثيرها عالمياً.
الولايات المتحدة لم تعد تعتد بأي طرف، ولم تعبأ بأحد عندما استخدمت حق الفيتو مراراً ضد قرار بوقف إطلاق النار في غزة. وسوف تعيد إشهار هذا الحق عندما يأتيها قرار محكمة العدل الدولية.
كل هذا ينذر بأن تلك المنظمات الدولية لن يكون لها أي دور مستقبلاً إذا احتدم الصراع وازداد بين القوي الكبرى، وهذا اليوم يبدو الآن أقرب كثيراً مما نتصور.
مؤامرات واغتيالات
كما جاءت بدايات الحرب العالمية الثانية بسلسلة من الاغتيالات فقد رأينا مثل هذا في الأسابيع الأخيرة. فقد تم اغتيال الرئيس السلوفاكي في عملية غامضة، ثم ظهر الرئيس التركي ليعلن عن محاولة صامتة جديدة للانقلاب عليه تم إجهاضها بشكل سريع. ولم تمر سوي أيام قليلة حتى جاء الخبر الغريب بسقوط طائرة الرئيس الإيراني، واتجهت أصابع الاتهام فوراً نحو إسرائيل التي نفت صلتها بالحادث وإن لم تخفي شماتتها فيه!
مثل تلك الأجواء الغامضة والحوادث المريبة تشي بأن أجهزة المخابرات الآن تعمل بأقصى طاقتها في كل مكان، وبخاصة في مناطق احتدام الصراعات والمعارك. تأتي تلك الأحداث الخطيرة في إيران بينما يتعرض رجل إيران الأول "خامنئي" لوعكة صحية وسط تساؤلات عمن يخلفه في قيادة البلد ذي التأثير المحوري في صراعات منطقة الشرق الأوسط.
مناورات مخيفة
لا شك أن أحداث غزة خطفت الأنظار وأشاحتها عما يحدث في الحرب الأوكرانية الروسية. وكثير منا لم يتابع تهديدات فرنسا بدخول الحرب، تلك التهديدات التي سرعان ما خمدت عندما لوحت روسيا باستخدام ترسانتها النووية، بل وسارعت الأخيرة بتحريك قوات إضافية نحو العمق الأوكراني. وهناك خوف شديد من بولندا وألمانيا وفرنسا بتفاقم الوضع هناك، لدرجة أن بعض السياسيين خرجوا ليعلنوا أن الحرب العالمية بدأت، وأننا نشهد الآن مقدماتها، ولدرجة أن تدعو بريطانيا مواطنيها من تخزين الطعام، وليخرج قانون تركي جديد من أكثر من خمسين صفحة يحدد مهام المؤسسات المختلفة في حالة حدوث حرب!
أكثر من هذا أن الصين بدأت تتحرك في محور بحر الصين الجنوبي، وسارعت بإجراء مناورات هي الأخطر أحاطت من خلالها بجزيرة تايوان من جميع الجهات. الصين أعلنت أنها سوف تستعيد تايوان رغم أنف أمريكا، وهي تعد العدة لهذا منذ سنوات، المسألة مسألة وقت فقط. وموعد الحرب لم تحدده الصين بعد، وإن بدا وشيكاً. ربما تنتظر الصين أن تنشغل أمريكا عنها بأمور أشد خطورة، كالانتخابات أو بصراعها مع روسيا، ويبقي أمر التوقيت في علم الغيب!
تسارع الأحداث
بمجرد توقف المفاوضات بشأن الحرب في غزة وإعلان اقتحام رفح انفتحت أبواب الجحيم مجدداً في وجه إسرائيل. فسرعان ما انهالت الصواريخ على رأسها، وعادت سلسلة الكمائن ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة في رفح وفي الشمال الغزاوي وبخاصة في جباليا..
ورغم أن الأطراف اجتمعتمؤخرا في باريس لمناقشة إعادة الحديث عن هدنة محتملة، إلا أن مسار الأحداث يتجه نحو التصعيد أكثر فأكثر. لاسيما وقد انفتحت جبهة صراع جديدة في رفح، وثقلت أيدي حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن ضد إسرائيل ربما بسبب الاتهام غير المؤكد بضلوعها في سقوط طائرة الرئيس الإيراني..
عندما رأينا سابقاً ما حدث من انسحاب النفوذ الفرنسي في الغرب الإفريقي، ثم تغلغل للنفوذ الروسي الصيني في إفريقيا، وما سبقهما من صراع على القارة القطبية الشمالية وما تحويه من كنوز مطمورة، والذي قيل إنه أحد أهم أسباب حرب أوكرانيا. عندما حدث كل هذا وقع في يقيننا أننا مقبلون على مرحلة من صراع طويل، وصدقت تلك الظنون.
وتيرة التصاعد والتسارع في الصراعات هنا وهناك تنبئ بانتهاء شوط ربما يكون هو الشوط الأخير في صراع سابق، تمهيداً للدخول في مرحلة جديدة من صراع وجودي تتغير على إثره خارطة العالم الاقتصادية والسياسية.
بؤر الصراع القادم
الحروب القديمة علمتنا أن الصراعات في جوهرها هي صراعات اقتصادية، حتى صراعات النفوذ والاستقواء وفرض السيطرة مغزاها ومنتهاها الهيمنة على الموارد وطرق التجارة..
وإذا اتخذنا معارك السودان مثلاً ونموذجاً سنفهم أن هناك أطرافاً خارجية تعبث بأطراف الصراع الداخلي. آخر هذه الأطراف إيران وروسيا؛ إذ يقال إن هناك اتفاق جري بين الجيش السوداني وبين قيادات من الجيش الروسي لتزويدهم بأسلحة مقابل ميناء سوف يتم منحه لروسيا على البحر الأحمر. وهو ما سيمنح محور الشرق أفضلية على محور الغرب، وسوف يزيد الأمور اشتعالاً، لاسيما وقد ازداد نفوذ الحوثيين، ذراع إيران في اليمن، على منفذ باب المندب.
الآن وقد تعددت بؤر الصراع وازدادت رقعة اللهيب حول العالم: في السودان وغزة وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي. وبدأت دول كبرى تتهيأ لتغيرات في قياداتها: إيران وأمريكا وبعض دول الشرق والغرب. وصارت مصداقية المنظمات الدولية على المحك. يمكن القول إن اتجاه السهم الصاعد باستمرار في مجريات الصراع سوف يتعلم القفز قفزات لا يمكن التنبؤ بمنتهاها..
بؤر الصراع الحالية في الشرق الأوسط وفى أوروبا الشرقية وجنوب آسيا لن تظل على جمودها وثباتها في المرحلة القادمة. والولايات المتحدة الأمريكية التي تظن أنها آمنة من أي صراع قد تفاجأ يوماً ما أنها في قلب المعمعة! ومن هناك سوف يعاد رسم خريطة العالم الجديد!.
***
د. عبد السلام فاروق