آراء
التجاني بولعوالي: سياسات مرتجلة تضع البحث الجامعي المغربي على كف عفريت
بعد قرار إلغاء بحوث الإجازة في الجامعات المغربية واستبدالها ببحث ميداني، خرج وزير التعليم العالي والبحث العلمي بقرار آخر لا يقل غرابة، يقضي بالاكتفاء بحوالي ستين صفحة فقط في أطاريح الدكتوراه، مبرِّرا هذا الإجراء "الغريب" بما وصفه باعتماد الطلبة والباحثين على أدوات الذكاء الاصطناعي في إنجاز بحوثهم، ما اعتبره تهديدا لمصداقية البحث العلمي وجودته. غير أن هذا التفسير يكشف، في حقيقة الأمر، عن رؤية تلغي التقنية بدل توظيفها، وتُحمِّل أداة معرفية متقدمة مسؤولية خلل بنيوي مزمن يطال منظومتنا التعليمية منذ عقود.
إن المفارقة الغريبة في هذا القرار، أنه يأتي في الوقت الذي تتسابق فيه الجامعات العالمية الكبرى في أوروبا وأمريكا وآسيا إلى تطوير طرائق تعليمها وبحثها اعتمادا على الذكاء الاصطناعي وإمكاناته الهائلة في الارتقاء بالإنتاج العلمي، وتحسين جودة المقالات والرسائل الجامعية، وتيسير الوصول إلى المعلومة. فبينما يتجه العالم نحو بناء اقتصاد معرفي قائم على الابتكار الرقمي، نرى جامعات العالم "الجنوبي" تُسرع إلى تجميد البحث وتقزيمه، بدل تحديث أدواته وتنظيمه.
ولعل المثال الأوضح هو ما يحدث في جامعة لوفان الكاثوليكية (KU Leuven)، حيث أعمل منذ سنوات. فقد بادرت الجامعة منذ فترة بتنظيم تكوينات متخصصة للأساتذة والطلبة حول كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول في البحث العلمي. ويتم تدريب الباحثين على الاستفادة الذكية من هذه التقنيات من دون الإخلال بالأمانة العلمية أو الإبداع الشخصي. ومن ثمّ، أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي جزءا لا يتجزأ من المناهج التعليمية، تُعرِّف الطلبة بالمجالات المعرفية والمنهجية الجديدة التي تتيحها لهم التكنولوجيا، وتمكّنهم من توفير الوقت والجهد والمال، والتركيز على تطوير أفكارهم وتحليل نتائجهم.
وفي مقابل هذا الانفتاح، وضعت الجامعات الغربية قوانين دقيقة وحازمة تنظّم حدود استخدام هذه الأدوات، وتتصدى لكل محاولة للغش أو انتهاك أخلاقيات البحث. وقد تم اعتماد برامج قادرة على كشف السرقات العلمية وقياس نسبة اعتماد الطالب على الذكاء الاصطناعي في كتاباته. وفي حال ثبوت المخالفة، تُطبّق عقوبات صارمة تصل إلى الفصل من الدراسة لمدة قد تبلغ ثلاث سنوات، كما هو الحال في الجامعات البلجيكية.
وبهذه الطريقة، يتكوّن لدى الطالب منذ مرحلته الأولى وعيٌ نقدي وأخلاقي باستخدام التقنيات الحديثة. فيتعلم توظيف الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة مساعدة، لا بديلا عن التفكير والإبداع والبحث الحقيقي. وتنشأ لديه رقابة ذاتية قبل الرقابة الأكاديمية والقانونية، وقناعة راسخة بأن جودة البحث تُقاس بعمقه وفرادته، لا بمدى قدرة الباحث على إخفاء الاعتماد غير المشروع على البرامج الرقمية.
إن المشكلة إذن ليست في الذكاء الاصطناعي، بل في كيفية إدماجه ضمن مشروع إصلاح التعليم العالي. فبدل أن نعالج أسباب الضعف، مثل هزالة التكوين البحثي، وقلة التأطير، وتخلف المختبرات، وغياب الدعم المالي والعلمي للطلبة والباحثين، نلجأ إلى حلول شكلية لا تمس جوهر الأزمة. إن تقليص حجم الأطروحات أو إلغاء بحوث التخرج لن يرفع مستوى البحث العلمي، بل سيزيد من تفريغه من محتواه، وسيحوّل الجامعة إلى مؤسسة تفرّخ المتخرجين وتمنح الشهادات بدل إنتاج المعرفة.
وتجدر الإشارة إلى أن إنجاز البحوث الميدانية لا ينبغي أن يكون على حساب بحوث الإجازة، فهذه الأخيرة ليست بالضرورة نظرية محضة، بل يمكن أن تجمع بين التأصيل النظري والاستقراء الميداني في تناغم منهجي. أمّا الاقتصار على الجانب التطبيقي وحده، فهو دور يناسب بالأساس المعاهد التربوية العليا والكليات التقنية التي لا تقتضي مستوى التعمق النظري نفسه. فالجامعة، بكونها مؤسسة معرفية عريقة، ترتكز مهمتها الجوهرية على البحث العلمي في مختلف تجلياته؛ الكيفية والكمية، الإنسانية والطبيعية، الاجتماعية والتكنولوجية. ويُعد البحث النظري خطوة تأسيسية لا غنى عنها للانتقال إلى المرحلة اللاحقة المتمثلة في توظيف هذه المخرجات في بحوث ميدانية وتطبيقية، سواء من طرف الجامعات نفسها، أو من خلال المعاهد التطبيقية، والمستشفيات الجامعية، والمختبرات والشركات، والمؤسسات الاجتماعية، وغيرها من الفضاءات المهنية والعلمية.
إن الدول التي اخترعت الذكاء الاصطناعي لم تتعامل معه بكونه خطرا، بل بكونه ثورة معرفية يمكن أن تدفع نحو مستقبل أكثر تقدّما. أما نحن، فلا زلنا نتوجّس خيفة من كل تطور علمي، ونرى في كل أداة جديدة تهديدا لنا، لا فرصة للتقدم والتطور.
لذلك، أرجو أن تعتمد وزارة التعليم العالي استراتيجية حقيقة وجريئة لإرساء مشروع إصلاح، يقوم على تحديث المناهج، وتدريب الأساتذة والطلبة، ودعم البحث والمختبرات، وتشجيع النشر العلمي، وتطوير التشريعات الأكاديمية بما ينسجم مع التحولات الرقمية والتكنولوجية العالمية. وينبغي أن نُدرك أنّ الجامعات الرائدة لا تتنافس في تقليص عدد الرسائل والأطروحات، بل في جودة ما تنتجه من معرفة، وما تقدّمه من بحوث تساهم في حلّ المشكلات التنموية وبناء مجتمع معرفي مزدهر. فهذه الجامعات الدولية المصنفة تتزاحم من أجل زيادة إنتاجها البحثي وتراكمها الأكاديمي، وتتنافس من أجل تقديم أكبر عدد من الرسائل والأطاريح الجامعية والمقالات العلمية المحكمة والمؤلفات المتخصصة، بينما يتم عندنا إقبار بحوث الإجازة وتقزيم أطاريح الدكتوراه.
وفي الختام، إن ما ينبغي إدراكه والعمل على تنزيله، هو أن الذكاء الاصطناعي ليس خصما للجامعة أو البحث العلمي، بل شريكا مهما ولازما إذا عرفنا كيف نحسن توظيفه، وعدوا لذودا إذا ظللنا نرفضه ونقاومه بقرارات شخصية أو سياسية مرتجلة لا علاقة لها بمستقبل العلم والبحث الأكاديمي.
***
بقلم/ التجاني بولعوالي






