قضايا
علي الخطيب: لماذا لا تكتمل جودة الاعتماد المؤسسي دون تفكير ناقد؟
أثناء عملي في منظومة الجودة والاعتماد المؤسسي، أدركت شيئاً رئيسًا: أن جودة الاعتماد لا تُبنى على النماذج والمرفقات فقط، بل تستند إلى منهج كامل من التفكير الواعي والتحقق المستمر. ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا لا تكتمل جودة الاعتماد المؤسسي دون تفكير ناقد؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تكشف طبيعة الجودة نفسها وطريقة عملها، لأنها في حقيقتها عملية تحليلية تتطلب فحصاً دقيقاً لكل معلومة، وربطاً واعياً بين الواقع والدليل، وتقييماً موضوعياً لما يؤكد قوة الأداء المؤسسي.
الجودة كتساؤل مستمر داخل المؤسسة
عندما تبدأ المؤسسة بإعداد ملف الاعتماد، تدخل في مرحلة فحص ذاتي مركّزة. فإعداد كل معيار يثير مجموعة من الأسئلة الضرورية، مثل: هل يعكس ما نكتب واقع المؤسسة؟ وهل الأدلة التي نعتمد عليها كافية وموثوقة؟ وما مدى اتساق هذه الأدلة مع متطلبات الجهة المقيمة؟
إن طرح هذه الأسئلة لا يحدث بشكل عفوي، بل يتطلب تفكيراً ناقداً يساعد على التحقق من جودة المعلومات قبل تقديمها. ومن خلال هذا النهج، تنتقل المؤسسة من مجرد جمع بيانات إلى تحليل واعٍ يضبط دقة ما يقدم ويضمن مصداقيته.
التفكير الناقد أداة التحقق الرئيسة في ملف الاعتماد المؤسسي
لا يكفي أن تقدم المؤسسة ملفاً منسقاً، لأن الجهة المقيمة تعتمد في عملها على المراجعة الدقيقة والتحقق من كل بيان. وهذا يعني أن المؤسسة تحتاج منذ البداية إلى تفكير ناقد يمكّنها من قراءة الملف بالعين ذاتها التي سوف يقرأ بها المقيمون، وذلك من أجل اكتشاف أي فجوة أو نقص أو موضع يحتاج إلى دعم أو توضيح. وبالتالي، يصبح التفكير الناقد بمثابة مرآة داخلية تساعد المؤسسة على مراجعة ما تقدمه، ليكون الملف ناضجاً وواضحاً ومبنياً على أدلة قابلة للتحقق.
ثقافة الدليل: الرابط الحيوي بين الجودة والتفكير الناقد
لا يمكن الحديث عن جودة الاعتماد دون الإشارة إلى دور التوثيق والمرفقات، فهي ليست مجرد متطلبات إجرائية، بل تمثل لغة البرهان التي تقيم من خلالها الجهة المختصة مدى التزام المؤسسة بالمعايير. وهنا تبرز قيمة التفكير الناقد، لأنه هو الذي يساعد على فحص كل دليل قبل إرفاقه، والتأكد من صلاحيته، وملاءمته، وقدرته على التعبير عن الواقع بدقة. وبهذا، تتحول الجودة من صياغة نصوص إلى بناء حجج مدعومة بالأدلة، وهو جوهر التفكير الناقد.
الجودة كنضج في الوعي المؤسسي
ومع استمرار العمل على متطلبات الاعتماد، يبدأ التفكير الناقد في تشكيل الوعي الداخلي للمؤسسة. فالموظفون يتعلمون تحليل الأنشطة قبل توثيقها، ومراجعة العمليات قبل اعتمادها، وقراءة النتائج قبل الإعلان عنها. وهذا النوع من التفكير يرفع مستوى النضج المؤسسي، لأنه يساعد على اتخاذ قرارات مبنية على بيانات دقيقة، وعلى رؤية الواقع المؤسسي بصورة أوضح وأكثر موضوعية. ومن هنا، يصبح التفكير الناقد ليس مجرد وسيلة لإعداد ملف الاعتماد، بل استراتيجية دائمة لتحسين الأداء المؤسسي.
التفكير الناقد كروح للعمل الجماعي داخل الجودة
الجودة عملية تشاركية تحتاج إلى تنسيق بين الأقسام واللجان المختلفة. ولكي تنجح هذه العملية، لا بد أن يتعامل الجميع مع البيانات والمستندات بروح من التحليل والتدقيق. وعندما يُمارس التفكير الناقد داخل الفريق، تتشكل بيئة عمل قائمة على التعاون والوضوح والالتزام، مما يعزز جودة ما يُرفع من أدلة، ويسهّل عملية الاعتماد لاحقاً. وبذلك يتحول التفكير الناقد إلى نسق عمل جماعي يدعم الجودة ويحافظ على اتساق الأداء بين جميع الأطراف.
وختامًا، أرى أن جودة الاعتماد المؤسسي لا يمكن أن تكتمل دون التفكير الناقد، لأنه الأداة التي تجعل المؤسسة قادرة على قراءة واقعها بدقة، والتأكد من صحة ما تقدمه، وتحويل متطلبات الجودة إلى ممارسة يومية تعزز التطوير وتدعم الاستمرارية. فالتفكير الناقد لا يقف عند حدود إعداد الملف، بل يمتد ليصبح جزءاً من الوعي المؤسسي الذي يحافظ على قوة الأداء وجودته، ويجعل الاعتماد خطوة حقيقية نحو التميز لا مجرد إجراء إداري.
***
أ. د. علي محمد عليان الخطيب
أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر






