قضايا
لوك سترونغمان: التنوير

بقلم: لوك سترونغمان
ترجمة صالح الرزوق
***
مع توسع الإمبراطورية البريطانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، توسعت معها المثل الأخلاقية والاجتماعية، وتطورت الثقافة. وترافق الإيمان بإمكانيات الاختراع وتطوير الذات مع النشاط التجاري وخطاب وفلسفة الغرب. وهكذا تبدلت الفكرة التي تقارن الحداثة بما هو قديم وأصبح خلفنا، وتعمق الإيمان بالمعارف اللامتناهية، كلما تحسن التقدم الاجتماعي والأخلاقي، ويعود الفضل بذلك إلى اكتشافات العلم الحديث. وكما قال يورغين هابرماز: مهد فلاسفة التنوير الطريق لمشروع الحداثة في القرن الثامن عشر، من خلال سعيهم لتطوير علوم موضوعية، وأخلاق وقوانين كونية، وفن شامل سيد نفسه، ويتناسب مع المنطق الإنساني. وفي الوقت نفسه تعمد هذا المشروع إطلاق الإمكانيات المعرفية حتى تتحرر من صيغها المتعارضة والضيقة. وقد عمل فلاسفة التنوير على توظيف التخصص والتراكم في الثقافة لإغناء تجارب حياتنا اليومية، أو بتعبير آخر لتنظيم حياتنا اليومية تنظيما عقلانيا1. وعليه أسس التنوير لمناخ ثقافي في أوروبا أدى بالنتيجة للتطورات التي شهدها القرن الثامن عشر. وكان ذلك جزءا من حراك أوسع جرى تحت مظلة إمبراطورية تمثل أعلى درجات الطموح والاحتمالات. ونجم عن التنوير وتوسع أوروبا مناخ نقدي وجدلي جديدان عم القارة الأوروبية والمستعمرات على حد سواء. حتى تحولت إنكلترا بعد ثورتها الناجحة عام 1688 إلى أهم بلد ليبرالي تحرري. ثم أدى عقد الاجتماعات في المقاهي والنوادي وازدهار الصحافة إلى تعميق الوظيفة الاجتماعية للثقافة.
ولكن في نفس الوقت ظهر مفهوم جون لوك والذي يرى أن النفس <الذات> هي لوح أبيض tabula rasa وأنه لا وجود لأفكار قبلية، وأن كل المعارف نابعة من التجربة. ولكنه تأثر بالعقلانية الديكارتية، والتي تؤمن أن مفاهيم الله والعقل والجسد موضوعات موروثة. وتم تقسيم إمبريقية لوك إلى خبرات تنبع من "مصدرين": الإحساس الخارجي والانعكاسات الداخلية.
لم تكن مثاليات التنوير وقيمه ببساطة طريقة في التفكير فقط، ولكنها إيمان بإمكانية تبدل المجتمع لفرض المزيد من إحساس الكائن بالــ "تنوير"، وأهميته في تشكيل الذات والمجتمع، وهو ما سهل ولادة ظروف وجودية لا بد منها للتوصل إلى حرية التفكير والاعتقاد. وبرأي لوك يتوجب على الأفكار أن تكون مكتفية بذاتها ومتحررة من القرارات العاطفية النابعة من الداخل أو التي يفرضها ضغط المؤسسة من الخارج - وحينها فقط يمكن القول إنها نقدية ومستنيرة فعلا. والمستنير هو الذي يثق بالطبيعة الكونية للإنسان، ويتحكم بالتاريخ وعناصر الطبيعة ويدركها. وفي عصر التنوير كانت أفكار لوك هي أفكار أنتلجنسيا عصره. وأصبح فن الرواية صيغة التعبير المفضلة عند الأفراد لاكتشاف طريقهم في العالم. كما أن الاكتشافات الجديدة ترافقت مع الفتوحات - ولذلك توجب علينا أن ننظر إلى التقاليد الأدبية بالضرورة في ضوء الواقع السائل، وأن نفهم أن أخلاق الأفراد هي عمليا نتاج انخراطهم في تيار الأحداث. فأبطال القرن الثامن عشر قاموا برحلات بيكاريسك طويلة واجهوا فيها مشكلات أخلاقية وفلسفية 2. ومن بين الفائزين بالبوكر، نلاحظ أن رواية "جي"، و"طقوس العبور"، و"الجوع المقدس"، تنتمي لاتجاهات التنوير الخاصة بالقرن العشرين. وهو اتجاه تطور بفضل الحداثيين، ولكنه قلل فعليا من أثر التنوير الذي خيم على الحقيقة المتعالية والتطور الاجتماعي والموضوعية. فقد تابعت رواية "جي" لجون بيرغر، عصر التنوير والرومنسية في أوروبا، ووظفت في سبيل ذلك أبطالها العابثين جنسيا، بالإضافة إلى مونتاج ما بعد الحداثة، وبفضل هذا الأسلوب السردي فسرت الافتراضات الفلسفية الأساسية التي بنت عليها فكرها الديمقراطي ورؤيتها للبنية الاجتماعية المستقرة التي تميز فكرة التنوير.
وبالمثل قامت رواية "طقوس العبور" لغولدنغ ببناء حوار بين مفهوم أواخر القرن العشرين عن التنوير وبين الاتجاه المعاصر لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. ولكن قاطع وأنكر تعبير السرد عن الحقيقة والمطلق الذي وراءها تبدل الأحداث وتعقيد اللغة المستعملة في هذا التعبير. وبالمقارنة اهتمت "طريق الأشباح" لبات باركر و"سفينة شيندلر" لتوماس كينيلي بموضوعات تخص توسعات أوروبا وتعقيدات الهوية التي تأزمت في القارة بعد تأرجح الإمبراطورية بين الحرب العالمية الأولى والثانية. لم تكن رواية "جي" لجون بيرغر، من عدة وجوه، عادية بمقاييس جائزة البوكر. فهي رواية كتبها ماركسي بعد حداثي، واهتم فيها بمغامرات جنسية لابن غير شرعي منسوب إلى وريثة أنغلو أمريكية وتاجر إيطالي. وتذكرنا مغامراته الدون جوانية بالفوضى السياسية والاجتماعية التي عصفت بمنعطف القرن التاسع عشر. لا شك أن "جي" لفتت اهتمام الماركسيين لأنها تكلمت عن فشل المجتمع والخلل في توظيف كل طاقاته بسبب بنيته غير العادلة. كما أنها سجلت وثيقة ساخرة عن تبدل مناخ الرأي العام بعد الثورة الجنسية في الستينات <وكانت بين مد وجزر>، وبعد فشل الرأسمالية على نطاق دولي وعجزها عن تحقيق أهدافها الاجتماعية، وإنجاز وعدها بالتحرر، والآثار التي تركتها على الاقتصاد. وقد قاطع تواصل السرد في "جي" معزوفات بين الفصول القصيرة، والخطوط المرسومة عمدا. حتى اقتربت من أدبيات ما بعد الحداثة. ومن أهم صفاتها الانقطاعات والمعاني التي تخرج من الشعور الباطن إلى السطح. وتوجد سخرية واضحة في "جي"، فالبطل جي يحاول أن يتجنب التاريخ في كل منعطفاته، كي يتجنب أيضا عواقبه الاجتماعية، وليتحاشى السياسية التي توسعت حتى ابتلعت كل من حوله. ولكنه يلفت بسلوكه السلبي انتباه الشرطة السرية له. فهو غير موثوق من قبل كل الأحزاب، ويتم التخلي عنه ويعتبر أنه مصدر للخطر. الرواية بعد حداثية بأسلوبها وموضوعها، ولكنها توظف النقد الماركسي الموجه لحركة التنوير، ولحركة المجتمع، ولصيغ المطلق والثوابت، والتي تأخذ مكان التحول المنشود وتحرير الذات. وبإشارة إلى عمل الأنثروبولوجي أرنولد فان جينيب تنسج "طقوس العبور" لوليام غولدنغ سردية تتبنى أسلوب التراسل والمفكرات خلال مغامرة بحرية يقوم بها شاب "يعبر" نحو مرحلة الرجولة وباتجاه حياة جديدة في أستراليا على متن "طوف خشبي" بريطاني، هو سفينة بريتانيا، وذلك في نهاية عصر التنوير وبداية ما بعد الحداثة. رواية غولدنغ رواية تحولات: ينتقل بطلها تالبوت من مرحلة الصبا إلى الشباب وفي هذه الأثناء تتشكل أخلاقياته. وتمر السفينة من عالم بريطانيا القديمة إلى عالم أستراليا الجديدة. ويتابع غولدنغ في رحلته موضوعات عن القيم الطبقية، وسوء التصرف الجنسي، وارتباك التاريخ وعدم انتظامه. وتمثل السفينة الإمبراطورية وانتقالها إلى عالم جديد، وتعبر عنه رمزيا بعبور تالبوت نحو مرحلة البلوغ والشباب. وببناء خطاباتها البديلة، تعلن هذه الرواية بعد الحداثية، وهي استعادة لرواية البيكاريسك التنويرية، أنه لا يوجد مكان خارج الثقافة، أو على نحو أدق، لا يوجد فضاء نلجأ إليه وراء ثقافة خطاب الرواية. فهو المجال الوحيد الذي نكسب منه ثقافتنا وندركها. وكأن رواية غولدنغ أدركت، مثل جون بيرغر في "جي"، أنه ليس من الممكن استعمال لغة لتتحرر بها من لغة. وأنه لا يوجد مواضع مفضلة، ولا احتمال للتعالي المطلق، وليس هناك مكان لمفهوم لا يتورط مع ما يحاول أن ينقضه. وتصبح القطيعة عند كل من شخصيات وقراء "طقوس العبور" الوسيلة الوحيدة لاختبار الواقع: فالتشظي، السخرية، السياسات المصغرة، ألعاب اللغة هي السائدة، أما الموضوع الساكن فيفككه 'التطويف" أو استعادة التاريخ الماضي. وفي "الجوع المقدس" لباري أونسوورث، مثل "طقوس العبور" لغولدنغ، مغامرة بحرية تتابع التوسع المبكر للإمبراطورية والذي شمل المثلث التجاري أو بوابة بريطانيا، وأطرافه إفريقيا والكاريبي والعالم الجديد بشكل عام. تجمع "الجوع المقدس" بين ابني عم، هما باريس وكيمب، وتستفيد من التناقض بينهما لإضفاء طابع درامي على الحكاية: أحدهما مرتزق، والآخر مثالي. أحدهما يرمز لقيم التنوير، والآخر رومنسي. وتتابع الرواية التناقض بين التنوير الذي يدعم التطور والتحرر من جهة، وبين الاتجاهات المادية وغير المؤمنة من جهة مقابلة. وتلخص الرواية خلفياتها بمقدمة تبرر وجود "زنجي الجنة" أو "المولاتو"، وهو هجين لكنه يتقن الشعر الإنكليزي. أما الحبكة فهي بالأساس عن العصيان، ويتردد فيها صدى ومفهوم "الفدية" - وتستغل وجود هذا الأفاق على حدود الإمبراطورية لتلفت نظرنا إلى دور التنوير في إضاءة التقابل ما بين المواطن المحلي ومجتمع العبودية.
***
..............................
الهوامش:
1- يورغن هابرماز: الحداثة ضد ما بعد الحداثة. في "القارئ بعد الحداثي. تحرير جوزيف ناتولي، وليندا هتشيون. نيويورك. جامعة نيويورك الحكومية. 1993. ص98.
2- دريندا أوترام. التنوير. كامبريدج. منشورات جامعة كامبريدج. 1995. ص1-30.
* من كتاب جائزة البوكر وإرث الإمبراطورية. أمستردام. 2002.