آراء

خليل الحمداني: الهاردلك المزمنة في المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق

من التصنيف A إلى الهامش B: الهاردلك المزمنة في المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق

1. الهاردلك كعلامة وطنية

في كل مرة يخسر فيها فريق كرة، نقول: هاردلك!

لكن حين يتحوّل الفشل إلى سلوكٍ عامّ، تصبح الكلمة توصيفًا وطنيًا أكثر منها تعبيرًا عن الحظّ العاثر.

هكذا يمكن وصف ما آل إليه حال المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق بعد صدور تقرير اللجنة الفرعية للاعتماد (SCA) التابع للتحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان في جنيف في 31 أكتوبر 2025، والذي قرر رسميًا تثبيت تصنيف المفوضية العراقية في المرتبة (B) بعد أن كانت ضمن الفئة الممتازة (A).

إنها ليست مجرّد ملاحظة فنية، بل شهادة دولية على عطبٍ مؤسسيٍّ مزمن.

وفي المقابل، في الدورة نفسها، استعاد المجلس القومي لحقوق الإنسان في جمهورية مصر العربية مكانته في الفئة (A) بعد جهود تشريعية ومؤسسية ومجتمعية حقيقية أعادت إليه ثقة اللجنة الدولية.

مفارقة مؤلمة ومشرّفة في آنٍ واحد: جارين عربيين، أحدهما صعد بثبات، والآخر تراجع بصمت.

2.  تحية إلى مصر… وشعبها وحقوقييها

من الواجب المهني والإنساني أن نوجّه تحية صادقة للشعب المصري وللزملاء الحقوقيين في المجلس القومي لحقوق الإنسان على هذا الإنجاز المستحقّ.

لقد استطاعت مصر، في ظل ظروف داخلية وإقليمية معقدة، أن تعيد بناء مجلسها وفق معايير الاستقلالية والفاعلية التي حددتها مبادئ باريس، وأن تثبت أن الإرادة السياسية قادرة على تصحيح المسار حين تتوافر النية.

إن استعادة التصنيف (A) لا تعني فقط نجاح مؤسسة، بل تعني أن الحق في المراجعة والإصلاح ما زال ممكنًا، وأن العمل الجادّ لا يُضيع بوصلته في متاهة البيروقراطية.

من القلب، تهنئة إلى الأصدقاء والزملاء في مصر — هذا انتصار للمجتمع الحقوقي العربي كله، ورسالة أمل لكل من ما زال يعتقد أن المؤسسات الوطنية يمكن أن تستعيد دورها حين تجد الإرادة والدعم.

3.  في المقابل: عراق بلا مجلس ولا ممثل

أما في العراق، فإن المفوضية العليا لحقوق الإنسان، التي كانت في يومٍ ما نموذجًا عربيًا يُحتذى به، تُدار منذ أكثر من عامين من دون مجلس مفوضين، خلافًا لما نص عليه قانونها رقم 53 لسنة 2008 المعدل.

ذلك القانون، في المادة (2/أولاً)، يقرر أن المفوضية «تتمتع بالشخصية المعنوية ولها استقلال مالي وإداري، وترتبط بمجلس النواب وتكون مسؤولة أمامه»، وفي المادة (8/سابعاً) يوضح أن «الرئيس هو الممثل القانوني للمفوضية».

لكن هذا النصّ تُرك مهملًا كما تُترك لافتة قديمة على بناية مغلقة، بعد أن حلّ مكان مجلس المفوضين مشرف تنفيذي عيّنته الحكومة (وزير العدل سابقًا، ثم أحد مستشاريها)، في مخالفة صريحة للقانون ولمبادئ باريس معًا.

وبينما كان العالم يراقب ويكتب ملاحظاته، كانت المفوضية العراقية تغيب عن المشهد الدولي، بلا تقارير معتمدة، وبلا صوت في المحافل الحقوقية، إلى أن جاء تقرير أكتوبر 2025 ليعلن النتيجة: “تم تثبيت تصنيف المفوضية العراقية في الدرجة B” — أي أنها لم تستوفِ بعد شروط الاستقلال والفاعلية والتمثيل.

4.  من التعطيل إلى التراجع

إنَّ ما جرى ليس مفاجئًا.

فالتعطيل المزمن في تسمية مجلس المفوضين هو الحلقة الأولى في سلسلة فشلٍ مؤسسي أطاحت بمفهوم الاستقلال ذاته.

لقد خسر العراق أكثر من تصنيف دولي؛ خسر رمزية وجود مؤسسة قادرة على أن تتكلم باسمه في لغة القانون الدولي لحقوق الإنسان.

فالهيئة التي كانت في مقدمة المدافعين عن حقوق المعتقلين والنساء وذوي الإعاقة، صارت الآن مقيّدة الصلاحية، تدار إداريًا من خارجها، وتُراقب وهي تحت وصاية من السلطة التنفيذية التي كان يفترض أن تخضع لرقابتها.

5.  مقارنة بين تجربتين: من الإصلاح إلى الإهمال

في مصر، حُدّث القانون، وأُجريت مشاورات مع المجتمع المدني، وأُعيدت صياغة آليات التعيين بما يضمن الشفافية والتعددية.

في العراق، توقّف الزمن عند لحظة انتهاء ولاية المجلس السابق.

البرلمان عجز عن تسمية مفوضين جدد، والحكومة قررت أن تملأ الفراغ بقرارٍ إداري، فانقلب مبدأ الاستقلال البرلماني إلى وصاية تنفيذية.

التقرير الأخير للجنة الاعتماد لم يكن قاسيًا بقدر ما كان أمينًا:

- أشار إلى غياب المجلس بوصفه خللًا جوهريًا في البنية القانونية والإدارية.

- وأكد أن استمرار الإشراف التنفيذي يمثل انتهاكًا مباشرًا للمادة (2) من قانون المفوضية.

- وخلص إلى أن العراق، رغم وعوده المتكررة، لم يُظهر التزامًا فعليًا بمعايير باريس، بخلاف الحالة المصرية التي قدمت تشريعات وإصلاحات ملموسة.

إنها المقارنة التي تختصر المسافة بين الجهد والإهمال، بين العمل والإرجاء، بين دولة تراجع ذاتها وأخرى تُراكم الاعتذارات.

6.  التكلفة السياسية والرمزية

تراجع التصنيف إلى الدرجة (B) ليس تفصيلًا بيروقراطيًا؛ إنه إعلان رسمي بأن استقلال المفوضية مهدّد، وأن الدولة العراقية فقدت أحد رموزها المؤسسية في منظومة الأمم المتحدة.

ويعني عمليًا أن العراق لن يتمتع بعد الآن بحقوق المشاركة الكاملة في التحالف العالمي (GANHRI)، مثل التصويت أو الترشح لمناصب قيادية، حتى يُعاد تصحيح وضع المفوضية.

الرسالة الدولية كانت واضحة:

لا مكان لهيئات حقوق الإنسان التي تُدار بقرارات تنفيذية أو تغيب عنها الهياكل القانونية المنتخبة.

7.  الإصلاح المؤجل

يُفترض الآن أن يبدأ مجلس النواب العراقي فورًا بإعادة تفعيل لجنة الخبراء وتسمية مجلس مفوضين جديد.

فالقانون يمنحه هذه الصلاحية والمسؤولية الحصرية.

أما الحكومة، فعليها أن تنسحب من أي دور إشرافي أو تمثيلي، احترامًا للمادة (8/سابعًا) التي حصرت التمثيل بالرئيس المنتخب، والمادة (2) التي جعلت المجلس هو المشرف والمتابع.

إن تصحيح المسار ليس ترفًا إداريًا، بل شرطٌ لاستعادة الثقة الدولية والكرامة القانونية لمؤسسة وُلدت لتكون حصن المواطن لا ملحق الوزارة.

8.  كلمة أخيرة: بين درسين عربيين

في لحظة واحدة من أكتوبر 2025، دوّن التاريخ درسين عربيين متناقضين:

الأول من القاهرة، حيث أعاد الجهد والإصلاح والالتزام إلى المجلس القومي لحقوق الإنسان مكانته الدولية.

والثاني من بغداد، حيث كُرّست الهاردلك المزمنة كعنوان لمؤسسةٍ أُصيبت بالشلل بفعل تواطؤ البرلمان وصمت النخب.

إن الفرق بين الفئتين (A) و(B) ليس فرق حرف، بل فرق إرادة.

ومتى ما قرر العراق أن يعيد إلى مفوضيته استقلالها، سيستعيد معها احترام العالم وصوته المفقود.

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الانسان

في المثقف اليوم