آراء

عبد الأمير الركابي: هل العراق موشك على الفناء؟ (2)

السؤال الذي يتصدر الحديث هنا سوف يقرا حتما وكما هو متوقع بحسب المنظور الارضوي الجسدوي الاحادي حيث "الفناء" يعني "الزوال" المادي وحسب، وهذا مالم نقصده، لان الفنائية المجتمعية هي قاعدة وجودية سارية ومتحكمه باليات التاريخ المجتمعي، وهي مخيمه الان على العالم ومجتمعاته، في المقدمه منها وعلى راسها، تلك التي ينظر لها على انها المحور وموضع الصدارة المتقدم منذ ان انبجست الاله بين ظهرانيه، هذا في حين ان "الالة" اصلا وجوهرا هي عامل افنائية للمجتمعية الاحادية، مكان اليدوية التي ظلت تعززها كي تؤدي هذا الغرض الاساس الموكوله له المجتمعات، بمعنى ان الظاهرة المجتمعية تنتقل من الجسدوية الارضوية التابيدية المرتكزة لليدوية الى مابعدها، اي الى "المجتمعية العقلية" مافوق الارضوية، وهو مايجري الدخول في رحابه، مع الانقلاب الالي ومنتهياته التكنولوجيا تحديدا.

 ذلك يعني بلا ادنى شك، بان المجتمعات تقوم بعد تبلورها كاصطراع ازدواجي افنائي حصيلته ومنتهاه انقضاء امد المجتمعية الارضوية اليدوية الجسدية، التي تظل غالبه توحي بانها هي الغاية والهدف ومايدل على الحقيقة الوجودية وغايتها، بينما تنطوي اللاارضوية من حيث الدلالة للذهاب الى مابعد يدوية ارضوية، خارج الوعي، محكومة لعدة اسباب تكرس خروجها من التداول، اولها القصور العقلي الناجم عن جدة العقل وحاجته للتشكل الاصطراعي من خلال الظاهرة المجتمعية بعد انبثاقه بصيغته الاولى مابعد الحيوانيه، وصولا الى "الانسان / العقل" المنتظر ظهوره على اعقاب " الجسد/ العقل" الراهن الانتقالي، بغض النظر عن الاعتباطية التي ترى في الحالة الانتقالية "الانسايوانيه" كمال "االانسان"، وكما سبقت الاشارة فان المجتمعية تقوم وتتبلور اساسا في ارض سومر في ارض مابين النهرين "لاارضوية" كنمط وكينونة مفردة مستقلة، تنصب عليها التشكلات المجتمعية الارضوية من جهاتها الثلاث ليبدا من يومها اصطراع افنائي بين مجتمعيتين، ليس لاحداهما نفي الاخرى، مايفضي في الحصيلة الى فناء المجتمعيتين معا، وهو ماحصل بعد التاريخ الطويل من الاصطراعية من البدايات في سومر الى بابل، حيث تقوم المجتمعية النازلة من اعلى بعد سلسله الغزوات الداخلية المكلفة، باقامه ارضها المستقلة المعزولة المحمية، المسورة باعلى مايمكن تصوره من اشكال الاسوارمناعة،تقيمها على حافة اللاارضوية العليا، لتمارس عملية افناء العالم والكيانيه اللامكانيه السفلى، وهو ماتكرر مع بغداد بعد هروب العباسيين من الكوفة بحثا عن "ارض مستقلة"، جربوا اولا ان يجعلوها في الرمادي، ثم في الهاشميات حين قامت بوجههم انتفاضة الراوندية.

لا بغداد ولا بابل كانتا تحكمان العراق، بل هما نتاج حالة فشل على هذا الصعيد بمقابل مجتمعية اخرى لها منطقها ومفهومها للحكم والدولة المشاعية المساواتية المحكومة للفزعة والنخوة، وللاامتازية ملكيا وسلطويا بصفتها نمطا مجتمعيا لاكيانيا طبيعته، مناقض للكيانيه، فضلا عن الذهاب للاعلان عنها، او اعتبارها غرضا او حاجه، فالعراق هو سرجون الاكدي وبابل وملوكها من الاعلى، وكوراجينا 2355 قبل الميلاد اول من نطق بكلمه "حرية / امارجي" في التاريخ البشري، وبكل حقوق الانسان المتعارف عليها اليوم، وبحقوق المستضعفين، وهي هارون الرشيد واسلافه الهاربون من الجنوب في الاعلى، "بغداد" المبتكرة اليوم، وعالم الانتفاضات (الشقاق والنفاق بحسب مفهوم الارضويين) مع حمدان قرمط، والاسماعيليين، والتشيع الامامي الانتظاري، والحلاجية والخوارجية، ومجلس العقدانيه الذي يضع في اول بنوده " يحق للانسان ان يؤمن كما يحق له ان لايؤمن"، غير اخوان الصفا والمعتزله. الطرف او العالم الاعلى مدفوع بسبب العجز الداخلي الى الانقلاب الامبراطوري تخلصا من وطاة الاصطراعية المدمرة التي بلا نتيجه، وهو التاقلم الاصطراعي الذي دفع بسرجون الاكدي 2334/2279 قبل الميلاد، بلا اسباب وجيهة ظاهرة، لان يحتل من نقطة تكاد لاترى في ارض سومر، عيلام شرقا، والشام والاناضول غربا، ويعبر الى جزيرة كريت ليعلن " انا حاكم زوايا الدنيا الاربع". انها ارض الازدواج المجتمعي الكونيه، احتدام اصطراعيتها الذاتيه ينتج المنظور المجتمعي الكوني / الابراهيمي/ من اسفل، والامبراطوري الازدواجي من اعلى، وهي لاشيء يمكن ان يجمعها باية حال او درجة، بالمفهوم الكيانوي الاحادي الارضوي "الوطنوي" بصيغته الابتدائية السكونية المصرية، ولا بذلك الأعلى ديناميات ضمن نمطيته، الاوربية، الازدواجية الطبقية الغالبة الكاسحة نموذجا وتفكرا اليوم، بقوة مفعول الالة ومترتباتها.

 اقيم ما يعرف ب "العراق الحديث" بناء عليه، اعتمادا لمروية وسردية مفتعلة مناقضة تماما وتدميرية ساحقة "من اعلى "، وبناء لفرضية الديناميات البرانيه الانقطاعية الحالة على المكان منذ 1258 ، تحت قوة تبرير و غلبة المنظور الحداثي الوطنوي القوموي الاوربي الالي، وهي حالة لايمكن ان لاننتبه الى خصوصيتها الاستثنائية، مقارنه بكل مامعروف من اشكال الهيمنه وديناميات السيطرة الغربية الراسمالية الحالة على المعمورة، وهو ماقد اوجد نوع صدام مختلف يعود بالانقلابيه الالية الراهنه الى حقيقة اخرى مقابله، نافية لتلك المكرسة غربيا، بحيث نقف امام نشوئية انبعاثية لاارضوية سومرية حديثة، حاصلة مع القرن السادس عشر في ارض مابين النهرين،تقابلها وطاة توهمية غربية تقول بالعراق المتشكل بحسب فليب ويرلند مع الاحتلال التركي الثالث عام 1831 مع انحراط المكان بالطور الراسمالي ومفاعيله المفترضة بلا دلائل ذاتيه، سوى الاحداث الواقعة وقتها من قبل الاتراك واضطرارهم لاعادة احتلال العراق مع الحملة التي ازالت الوالي المماليكي الاخير داود باشا، وهو حدث يعود للتفاعلية الازدواجية، واحتمالاتها، والمخاطر التي توقعها الاتراك منها بعد سلسله طويلة من الاصطراعية الجنوبيه المماليكية.

  ثمة اذن عراق عراقي محكوم لالياته التاريخيه التي تبدا من الجنوب سومريا او كوفيا بصريا، واليوم منتفجيا، وعراق هو استمرار للبرانيه الحالة على هذا الموضع منذ 1258 وهي برانيه افنائية للنمطية اللاارضوية الازدواجية مافوق الكيانوية، قامت اليوم مستندة لقوة مفعول الانقلاب الالي، على انها "العراق"، يعزز حضورها واستمرارها، غياب النطقية "العراقية"، تلك الباقية غائبة منذ ان وجد هذا النمط من المجتمعية وتبلور، لتعدية نموذجا، الطاقة المتاحة للعقل البشري على الادراك، ما قد ظل ملازما كنقيصة كبرى كونيه، تاريخ هذا المكان على مدى دورتين تاريخيتين كبريين، غير ماقد مر حتى الان خلال القرون التي تزيد على الاربعة الماضية الى اليوم، رغم الاحتدام الافنائي الراهن الحديث، بعدما تبدلت اشتراطات الاصطراعية التاريخيه ومن ثم الانبعاثية.

***

عبد الأمير الركابي

 

في المثقف اليوم