آراء

جورج منصور: الطائفية في العراق.. حكاية ظلٍّ طويل

الطائفية ليست ظاهرة دينية خالصة، بل بُنية اجتماعية- سياسية تستغل الدين والهويات لتوزيع السلطة. إنها نمط من الانتماء يربط الدين بالسلطة والهوية بالموقع الاجتماعي. جذورها قديمة، لكنها لم تكن في بداياتها كما نعرفها اليوم. ولم تولد الطائفية في ليلة واحدة، ولا خرجت من رحم العقيدة كما يُخيَّل للبعض.

  تشبه الطائفية ظلًّا قديماً يمتدّ على جدار التاريخ، يتغيّر شكله كلما تغيّر الضوء، لكنه لا يختفي تماماً. كانت في بدايتها همساً سياسياً، لا صراخاً اجتماعياً، ولم يعتبرها الناس "هويّة" إلا حين تخلّت الدولة عن دورها، وتوارى القانون، وترك الناسَ لمصائرهم.

جذور تاريخية

في المسيحية، ظهرت الانقسامات الكبرى على مراحل: في القرون الأولى، كانت الخلافات حول طبيعة المسيح والثالوث تتخذ طابعاً لاهوتياً، لكنّها سرعان ما تحولت إلى أدواتٍ لصراعات القّوة داخل الإمبراطورية الرومانية. في عام 1054، انفصل الشرق عن الغرب (الانشقاق الكبير) فصارت الكنيسة الشرقية والكنيسة الرومانية امتدادين لهويتين ثقافيتين: اليونانية واللاتينية. في القرن السادس عشر، تحول الإصلاح البروتستانتي إلى شقٍّ اجتماعي وسياسي واسع النطاق، وأدى  إلى حروب استمرت عقوداً في أوروبا.

وبعد وفاة النبي محمد، كان السؤال الأكبر: من يحكم؟ لم يكن السؤال مذهبياً، بل سياسياً صرفاً، كما هي الأسئلة الكبرى حين تنشأ الدول. لكن الدماء التي أريقت في الفتنة الكبرى (مقتل عثمان)، والمرارة التي بقيت بعد كربلاء، رسمتا في الوجدان جرحاً لم يندمل، وصار التاريخ مادة حية في الذاكرة.

تطور الظاهرة

مع تعاقب الدول، كانت الطائفية تظهر وتختفي مثل موجات على صدر بحر هادئ: تظهر حين يضعف السلطان، وتخفت حين يقوى، وتتوقد حين يستعين الخارج بالأقليات، أو تستعين الأقليات بالخارج. كأنها نار تحت الرماد تتنظر نسمة هواء.

في القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطوريات تترنح، وتأتي الجيوش الأوروبية التي لا تعرف شيئاً عنا ولا عن حساسياتنا لتقسيم البلدان كما تُقسَّم الأراضي الزراعية. هنا، ولأول مرة، تتحول الطائفة إلى كيان سياسي. لم يعد الاختلاف في الصلاة والصوم، بل في السلطة والمال والوظائف. وأصبحت الطائفة "وطناً صغيراً" حين عجز الوطن الكبير عن احتضان الجميع.

ومع القرن العشرين، دخلت المنطقة مرحلة جديدة: أنظمة مركزية قوية في الظاهر، رخوة في العمق، حبست المجتمع داخل حكم الحزب الواحد، وكتمت الأصوات. وحين يختفي الصوت الوطني، يرتفع الصوت الطائفي.

الطائفية كأداة سياسية

هناك من يسأل: لماذا تتعمَّق الطائفية؟ تتعمّق الطائفية حين تضعف الدولة، ويضيع القانون، ويشعر الفرد بأن أمنه مرتبط بجماعته الصغيرة لا بوطنه الكبير. فالطائفة، بطبيعتها السياسية، تحتاج دائمًا إلى “آخر” أو “خصم” كي تبرّر وجودها. وعلى هذا الأساس تُبنى الخطابات المتشددة، وتستمر الزعامات الطائفية، وتتعمّق الهوة بين الناس.

وتدرك القوى السياسية خطورة هذه الآليات، لكنها تدرك أيضًا فائدتها. فالطائفية، مثل الخوف، أداة تعبئة سهلة، تُحشد بها الجماهير، وتُدار بها الانتخابات، ويُحكم من خلالها بلدٌ كامل.

وبهذا العدو تُبنى الخطابات والمنابر، وتكبر الزعامات، ويُختطف الناس من انتمائهم الوطني إلى انتماءات ضيقة لا نهاية لها. الطائفية لا تخلق الهوية، بل تسرقها. تسرقك من وطنك، ثم تمنّ عليك بوطن أصغر منك ومن أحلامك.

الطائفية في العراق الحديث

الطائفية ليست قدراً، إنها أداة سياسية تُستخدم عندما تضعف الدولة. العراق بعد 2003 مثالاً، حيث تحولت الطائفية من شعور إلى نظام حكم، وبدلاً من أن توحد الناس أصبح صراع الطوائف هو السدّ الذي يحول دون بناء دولة عادلة.

قبل 2003، لم يكن العراق يوماً خالياً من الحساسية الطائفية، لكنه لم يكن “طائفياً” كمفهوم سياسي. كانت الدولة حاضرة، قوية أو صلبة، عادلة أو قاسية، لكنها كانت موجودة، وكان المجتمع ، رغم جراحه، يتعايش بلا حواجز عالية: الأسواق مختلطة، المدن متعددة، والذاكرة المشتركة أوسع من الاختلافات.

 لكن الحروب الطويلة والحصار أنهكا الجسد العراقي. وحين ينهك الجسد، تضعف المناعة، ويصبح أي اختلاف قابلًا لأن يتحوّل إلى مرض سياسي.

 كان العراق يعاني من صراعات سياسية، وحروب خارجية، وحصار أنهك المجتمع. ومع ذلك، لم يكن المجتمع العراقي منقسماً طائفياً كما ظهر لاحقًا. كانت الهويات تتعايش تحت سقف دولة مركزية قوية، أو متسلطة، لكنها كانت موجودة.

نظام المحاصصة الطائفية

حين سقطت الدولة فجأة في 2003، حدث الفراغ الكبير: تفكك الجيش، تلاشت المؤسسات، غابت السلطة، وتراجع الشعور الوطني لصالح الانتماءات الأولية. في ذلك الفراغ، خرجت الطائفية من الهامش إلى الواجهة.

اعتمد النظام السياسي الجديد على "تمثيل المكوّنات"، وهو تعبير بدا في ظاهره عادلًا، لكنه فتح الباب لترسيخ الطائفية كمنظومة حكم. فصار لكل طائفة حصتها في المناصب، ولكل حزب من يمثلها، وتحوّل الانتماء المذهبي إلى بطاقة عبور في الانتخابات والوظائف والقرار السياسي. وبهذا، أصبحت الطائفية ليست مجرد شعور شعبي، بل نظاماً رسمياً يوزّع الدولة كغنيمة بين القوى المتنازعة.

جرى رسم نظام سياسي يقوم على توزيع المناصب وفق الهويات: رئاسة الوزراء للشيعة، ورئاسة البرلمان للسنة، ورئاسة الجمهورية للأكراد. وأصبح لكل طائفة حصتها من الوزارات، ولكل زعيم حصته من الدولة.

هكذا لم تعد الطائفية مشكلة اجتماعية؛ أصبحت قانوناً غير مكتوب، وتحوّل المواطن إلى رقم ضمن "مكوّن"، لا فرداً في وطن.

من الاحتلال إلى انتفاضة تشرين

بين عامي 2005 و2007، عاش العراق واحدة من أحلك مراحله. فقد انفجرت الأحياء والشوارع بحروب الهوية، وانهارت الثقة بين المكوّنات، وتحوّلت بغداد، المدينة التي طالما جمعت الجميع، إلى فسيفساء من المناطق المغلقة. كان ذلك نتيجة متوقعة لدولة ضعيفة، وطبقة سياسية تستثمر في الانقسام، وتدخلات إقليمية تعزف على الوتر الطائفي.

ما بعد 2010، استقرت الأوضاع نسبياً بعد سنوات العنف، لكن البنية الطائفية لم تتغير.

جاءت سيطرة داعش على ثلث البلاد لتكشف أن الخطر الحقيقي لا يفرّق بين طائفة وأخرى. ومع ذلك، بقي النظام السياسي قائماً على المحاصصة، وإن بوجوه وأدوات جديدة.

في 2019، خرج الشباب إلى الساحات، يرفعون علم العراق وحده، ويرفضون خطاب الطائفية وممثليها. كانت تلك أول مواجهة حقيقية للنظام الطائفي منذ 2003. لقد أراد الجيل الجديد دولة لا تُعرّف المواطن بمذهبه، بل بحقوقه وكرامته. ورغم القمع والدماء، بقيت انتفاضة تشرين علامة فارقة تؤكد أن العراق، برغم الجراح، قادر على تجاوز الطائفية حين تتوفر إرادة شعبية ومشروع دولة حقيقي.

نحو مستقبل أفضل

هذه الإشكالية ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة تراكمات تاريخية وسياسات خاطئة يمكن تخطيها بالإرادة الجماعية والوعي بأهمية الوحدة الوطنية.

يتطلب تجاوز الطائفية إعادة بناء النظام السياسي على أساس المواطنة والكفاءة، وإصلاح الخطاب الديني، وتعزيز ثقافة التسامح، والتركيز على الهوية العراقية الجامعة التي تتسع للجميع. فالعراق بقدرته على استيعاب تنوعه الإنساني الفريد يمكنه أن يعيد إحياء دوره كمنارة للحضارة والإنسانية.

إن الأديان تسمح بالاختلاف داخلياً، بينما الطائفية تعني تحويل الاختلاف إلى معيار للصعود والهبوط الاجتماعي. كما أن قوة المؤسسات المدنية والقانونية قادرة على قمع مناخ الطائفية؛ وغيابها يسرّع من تعميق الانقسام.

إن معرفة جذور الانقسام مهمة لفهمه، لكنها لا تبرّر استمرار الظلم أو العنف بأسم الهوية؛ فهناك دائماً مساحات للتمازج: ثقافية واقتصادية وطقسية، تعمل كمكابح أمام الانقسام إذا عولجت سياسياً واجتماعياً.

 والطائفية في كلتا الديانتين ليست "قضاءً وقدراً" دينيًا بحتاً؛ بل هي نتيجة تراكم اضطرابات مؤسساتية وسياسية واجتماعية. ولكل تجربةٍ خصوصياتها التاريخية، لكن القاسم المشترك يبقى واحداً: حيث يتلاشى حكم القانون والعدالة، تنبت الطائفية سريعاً وتنتشر مثل صدعٍ في نسيج المجتمع.

***

جورج منصور

 

في المثقف اليوم