آراء

مجيد السامرائي: رعي الأغنام وتحولات المناخ والنفط

العـراق.. نمذجة تطبيقية بتقنيات الذكاء الاصطناعي

تركز جغرافية الرعي على دراسة الأنماط المكانية للرعي وتوزيع المراعي وتتناول أنواع الحيوانات المُرَبّاة والعوامل البيئية المؤثرة على الرعي مثل المناخ والتربة والغطاء النباتي، وتُعد مراعي الأغنام من أبرز المراعي في البيئات المحلية الجافة وشبه الجافة والتي تشكل مصدراً حيوياً لغذاء ودخل المجتمعات الرعوية وتتسم بتحملها للجفاف ونقص الغذاء والتنقل الموسمي.

الحياة البيئية لرعي الأغنام:

رغم التطور الاجتماعي المعاصر واندثار الكثير من المهن التقليدية لا زالت حياة الرعي قائمة في بعض الأماكن وتمثل نمطًا فريدًا من العيش يتطلب الشجاعة والمعرفة والصبر، لأنها تربية وحماية ورعاية مستمرة لكائنات ضعيفة تعتمد بشكل كامل على راعيها الذي يمتلك جانبًا رمزيًا في كثير من الثقافات المجتمعية التي ترتبط بالبساطة والتأمل والانتماء للأرض، ورعي الأغنام من أقدم وأبسط أشكال الحياة الريفية حيث ورد ذكر الرعي في كثير من النصوص الدينية والأدبية فالعديد من الأنبياء في بداية حياتهم رعاة أغنام، مثل النبي محمد صلى الله عليه وسلم والنبي موسى عليه السلام.

تمتزج في حياة الرعي البساطة بالتحديات اليومية ويمارس العديد من الناس هذه المهنة في مناطق الريف والبادية حيث تشكل مصدر الرزق الأساسي كما تعبر عن التراث والعادات القديمة، يبدأ الراعي يومه في وقت مبكر من الصباح قبل شروق الشمس ليقود قطيعه إلى المراعي ويختار الأماكن التي تتوفر فيها الأعشاب والمياه، ولديه دراية جيدة بطبيعة الأرض والطقس ومصادر الخطر مثل الحيوانات المفترسة أو الطرق الوعرة، وفي كثير من الحالات يعيش الرعاة حياة التنقل خصوصا في المناطق الصحراوية أو الجبلية لأنهم يتبعون مواسم الأمطار والمراعي الخضراء متنقلين من مكان إلى آخر بحثًا عن الطعام والماء للقطيع، ان هذه الحياة تتطلب صبرًا وجلَدًا كبيرين حيث تنشأ علاقة مميزة بين الراعي وقطيعه يتعرف من خلالها على كل قطيعه تقريبًا ويلاحظ ما إذا كان هناك مريضًا أو ضعيفًا، كما يستعمل الراعي صفيرًا أو نداءً خاصًا لقيادة الأغنام ويعتمد في كثير من الأحيان على الكلاب المدربة للمساعدة في الحراسة والتوجيه، ان رعي الأغنام ليس أمرًا سهلًا فرغم طبيعته الهادئة يواجه الرعاة عدة صعوبات مثل تقلبات الطقس وقلة الموارد والحيوانات المفترسة.

أساليب رعي الأغنام:

تختلف أساليب رعي الأغنام بحسب البيئة الجغرافية وفي الدول العربية تمارَس عدة أساليب للرعي ابرزها؛ الرعي التقليدي (البدوي أو الترحالي) ويُمارَس في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية مثل البادية الأردنية والبادية السورية وبادية العراق وصحراء النوبة (مصر- السودان)، ومناطق عدة  في المغرب والجزائر، ويقوم هذا الأسلوب على التنقل الدائم بحثًا عن الماء والمرعى. أما الرعي شبه المستقر وهو مزيج بين الترحال والاستقرار فينتشر في المناطق الزراعية الهامشية أو الجبلية كما في شمال العراق وجنوب لبنان وجبال الأطلس وشمال المغرب. وينتشر أسلوب الرعي المستقر (التربية المكثفة أو الحديثة)  في الدول الخليجية وفي الضواحي الحضرية لبعض المدن حيث يتم تربية الأغنام في حظائر مغلقة (زرائب) ويُعتمد على الأعلاف المصنعة ومياه الآبار أو عبر الأنابيب.

تدهور مهنة الرعي:

بالرغم من ان مهنة رعي الأغنام من أقدم الأنشطة الاقتصادية التي مارسها الإنسان والتي تستند إلى معرفة بيئية معمّقة ومهارات متوارثة تُشكل عنصرًا جوهريًا في الهوية الثقافية والاجتماعية للمجتمعات الريفية والبدوية وعموم الاقتصاد التقليدي، الا ان المرحلة التي اعقبت اكتشاف النفط شهدت تغيرات جذرية لهذه المهنة سواء في مواقعها او في أهميتها الاجتماعية وبالتالي تدهور المهنة، ومن أبرز أسباب التدهور التصحر وبالتالي ضعف وتلاشي المراعي نتيجة لكل من؛ التغير المناخي، والتوسع العمراني للمدن في الأراضي الرعوية، وانتقال العمالة الرعوية الماهرة نحو الوظائف الحضرية، وضعف الدعم الحكومي، وزيادة أسعار الأعلاف والأدوية وكلف النقل، والاضطرابات والنزاعات وتهجير السكان.

يتمثل أثر إيرادات النفط على مهنة الرعي في؛ إعادة تشكيل أولويات التنمية لتصب في اتجاهات حضرية وصناعية، فالاعتماد على العائدات النفطية تسبب في تراجع أهمية الزراعة والرعي وضعف التمويل لصالح القطاعات الخدمية والمدنية، وتغليب استيراد المنتجات الحيوانية على الإنتاج المحلي، إن إيرادات النفط رغم أنها ساعدت في تطوير البنية التحتية وتحسين مستويات المعيشة؛ الا انها ساهمت بشكل غير مباشر في تهميش مهنة الرعي وتربية المواشي، وبسبب ذلك أصبحت معظم الدول العربية تعتمد على الاستيراد لتلبية الطلب المحلي من اللحوم ومنتجات الالبان، مما قد يعرض الأمن الغذائي للخطر في حال حدوث اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية.

النمذجة التطبيقية لرعي وتربية الأغنام:

باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للمدخل المكاني (البيئي) - الزماني والتحليلي لتربية وإنتاج الأغنام في العراق، وعبر مقارنة إحصائية لتربية الأغنام في العراق ما بين عام 1950 وآخر البيانات المتاحة لعام 2022؛ اتضح ان السلالة الرئيسية للأغنام في عام 1950 كانت سلالة العواسي المعروفة بقدرتها على التكيف مع الظروف البيئية القاسية وإنتاجها الجيد من الحليب واللحوم، وفي عام 2022 تطورت تربية الأغنام لتشمل سلالات متعددة مثل العواسي والنعيمي والكاراكول والهمداني مع تزايد عمليات التهجين لتحسين الصفات الإنتاجية. واستنادا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) فأن مستوى تربية الأغنام في العراق عام 1950 سجل 12,574,600 رأس، وفي عام 1978 سجل 9,7 مليون رأس وفقًا للمسح الحكومي، وفي عام 1990 سجل 8,6 مليون رأس، اما في عام 1995 فقد انخفض العدد إلى خمسة ملايين رأس، وتُظهر هذه البيانات أن عدد رؤوس الأغنام في العراق كان في أعلى مستوياته عام 1950 ثم شهد انخفاضًا تدريجيًا في العقود اللاحقة خاصة بعد عام 1990 نتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية، وفي أحدث الإحصائيات المتوفرة حول تربية وإنتاج الأغنام في العراق بلغ عدد رؤوس الأغنام عام 2022 حوالي 7,495,200 مليون رأس، وعدد الأغنام المذبوحة حوالي 2 مليون رأس من الأغنام لإنتاج حوالي 47,1 مليون كيلوغرام من اللحوم، وبلغ إنتاج حليب الأغنام  حوالي 58,6 مليون كيلوغرام.

ان نتائج تحليل العلاقة بين العائدات النفطية وعدد رؤوس الأغنام من خلال منظور إحصائي يغطي الفترة 1950-2022 تُظهر؛ علاقة عكسية واضحة كما تؤكد تحول الاقتصاد العراقي إلى اقتصاد ريعي وإهمال القطاعات الزراعية الحيوية وعلى رأسها تربية المواشي، ففي عام 1950 بلغ عدد رؤوس الأغنام حوالي 12,574,600 رأس مليون بينما كانت عائدات النفط لا تتجاوز 0,3 مليار دولار، ومع ارتفاع العائدات النفطية إلى نحو 20 مليار دولار في عام 1980 انخفض عدد رؤوس الأغنام إلى أقل من 9 ملايين، اما في عام 2022 فقد وصلت عائدات النفط إلى نحو 70 مليار دولار، في حين بلغ عدد رؤوس الأغنام في ذات العام حوالي 7,495,200 مليون رأس.

هكذا تشير النتائج إلى انه؛ بالرغم مما أحدثته طفرات العائدات النفطية من تغييرات بنيوية في المجتمع فأن عائدات النفط في العراق لم تُستخدم بفعالية لدعم وتنمية تربية الأغنام بل ساهمت في تراجعها، وعليه لابد من وضع استراتيجيات وطنية لإعادة الاعتبار للثروة الحيوانية ضمن السياسات الاقتصادية الشاملة، ودعم مهنة الرعي لأجل ضمان الأمن الغذائي وصون التنوع الثقافي وحماية البيئة من التصحر، اذ إن مهنة رعي الأغنام ليست بقايا من الماضي بل هي عنصر حي من التراث الاقتصادي والثقافي يجب الحفاظ عليه وتعزيزه ضمن رؤية تنموية متوازنة.

إن إعادة الاعتبار لمهنة رعي الأغنام يتطلب جهودًا تكاملية تشمل؛ إعادة هيكلة الدعم الحكومي بتوفير الأعلاف والتأمين البيطري، وتحديث هذه المهنة بأساليب علمية وتقنية لتحسين أساليب التربية والتسويق، وحماية المراعي وتُنظّيم الاستخدام المستدام للأراضي الرعوية، ودعم صناعات الألبان والأصوف والجلود.

***

ا. د. مجيد ملوك السامرائي، أستاذ أكاديمي

.......................

المراجع:

1. https;//www. tridge.com

(Global Agriculture Data Platform)

منصة/ رقمية للبيانات الزراعية العالمية.

2. https;//www. woah. org

بيانات منظمة الصحة الحيوانية العالمية. (WOAH)

 

في المثقف اليوم