آراء

أنور ساطع أصفري: دور التضليل الإعلامي والحرب النفسية في الأزمات والحروب

إن التضليل الإعلامي والحرب النفسية مُصطلح يُستخدم من قِبلِ دوائر شريرة، بهدف نشر شائعاتٍ ومعلومات تُؤدّي إلى تشويه الحقائق، وبالتالي السعي لإثارة البلبلة والخوف بينَ المدنيين، من خلال كلّ الوسائل الإعلامية والصحفية، واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي، كُلّ هذه التصرفات تنتهك حقوق الإنسان، وتخترق السلامة والأمان والحالة النفسية للبشر.

كما تؤدّي إلى التوتّر وإلى الاكتئاب، والعنف بين الشعوب، وقد يكون هناك صراعاً مُسلّحاً، يُؤدّي إلى تعطيل الأعمال وخاصّة التربوية منها، وفقدان الكثير لوظائفهم، وإلى هجرة المواطنين وهروب رؤوس الأعمال، وبالتالي تدمير البنية التحتية للبلاد.

والأخطر من ذلك أن هذه الأساليب المشبوهة لا تسمح للرأي الآخر أن يُضفي شرعيته حتّى على أقذر الرذائل البشرية بما في ذلك زواج المثليين أو تجارة الأعضاء البشرية، أو الاعتداء الجنسي على الأطفال، وأمور كثيرةٌ أخرى، إنّه التخلّي بل التجرّد النهائي من الحسّ الإنساني وعن القيم والثوابت التقليدية التي تجمع الآدمية البشرية في خندقٍ واحد، وإبادة بقايا المشاعر البشرية عند الناس.

فحينما نتناول هكذا ملف، علينا أن نكون وندرك، بل أن نعترف وبجرأة بأننا نعجز عن تفسير سلوكيات المؤسسات الاعلامية وخاصّة في الأزمات والحروب، وخاصّة عندما نراها بمجملها تنطق باِسمِ السلطان، أو السلطة والقائمين عليها.

هناك ممارسات إعلامية مختلفة، نراها عادية ومتألقة في مهامها زمن السلم، ولكنها في أزمات الحروب تختلف فهي تُجيّش بشكلٍ تقليدي، متمسّكة بحرية العمل الصحفي والإعلامي الذي يخدم الدولة والمواطن.

الواقع الحالي الذي تعيشه الأمّة، ويعيشه العالم، نراه مليء بالصراعات المتعددة الجوانب، منها ما هو سياسي أو جغرافي أو مائي، أو متعلّق بأزمات التمدد الإرهابي، إضافة إلى الأزمة المالية التي تعصف في مختلف دول العالم، وكلّهم انزلقوا إلى قاع الجريمة.

التضليل الإعلامي حاولت استخدامه أمريكا في حربها على فيتنام، في الوقت الذي كانت فيه المقاومة الفيتنامية صادقة ونزيهة في بياناتها اليومية ونشاطها الفعّال في الميدان، سقطت أمريكا وتضليلها الإعلامي وحربها النفسية على الفيتناميين، وأعلنت انسحابها من فيتنام عام 1975.

كلّنا يتابع استفحال الأزمات في مختلف دول العالم، وكلّ هذه الأزمات يعتريها الشحوب والتعتيم والتضليل المُبرمج، وكلّها أزماتٌ مُفتعلة مُسبقة الصنع، وتم التحضير لها، وتنفجر فجأة وفي الوقت المناسب للدول التي خططت لها، وكُلّ ما يرمون إليه هو ثقافة تهميش الآخر، وتوسيع نطاق صراع الثقافات والحضارات، ونشر الجهل والعنصرية وهضم حقوق الشعوب المستضعفة، وكلّنا تابعنا ونتابع ما حدث ويحدث في غزّة وفلسطين المحتلة، وفي اليمن والعراق وسورية ولبنان على سبيل المثال وليس الحصر.

ويبقى على الدوام الإنسان هو الضحية، والذي يتساءل بنفس الوقت، هل حقيقة الذي يُرى ؟!، وكلّهم يُتاجرون ويدّعون تمسّكهم بمبادئ حقوق الإنسان وبالحرية والعدالة !.

لم تعد هناك أخلاق ولا موضوعية ولا مهنية لديهم، ولدى مؤسسات الإعلام التي تتجاهل في تغطية الوقائع إلاّ وفق ما يُناسبها وما يسمح به سعادة السلطان.

الحرب الإعلامية ليست بسهلة على الإطلاق، إنها تتم بضبط خطواتها ومعطياتها ووقتها، كيف لا وأننا نعيش ظاهرة إنتشار الحقد والكراهية والتضليل والفيديوهات المُفبركة، والأخبار الكاذبة وبدون أي إعتبار للمشاهد أو المُتلقي، والاستخفاف بمشاعر أبناء الشعب، وكأنهم بُلهاء كما يعتقدون.

التشويه الإعلامي المُفتعل لا حدود له، وكأن الخطوط والعناوين العريضة المُلوّنة، والصورة، هي التي تكسب الرأي العام وتُسيّره، إنّه التواطؤ غير الأخلاقي لكلِ مؤسسات الإعلام التي تُهرول وراء سلطة المال والسياسة، بعيداً كُلّ البعد عن الأخلاق والمهنية والقيم والثوابت.

أمام المطبات التي تُواجه الأُمّة، على الإعلام العربي أكثر من أي وقتٍ مضى أن يحتكم إلى صحوةِ الضمير، ويتعامل مع الواقع بكلِ حرفية وأخلاق سامية مع كُلّ الأزمات المختلفة بغضِ النظر إن كانت محلية أو إقليمية أو دولية، وأن يحتكم إلى صوت الضمير الحر، وإلى قيمنا وثوابتنا، وإلى ثقافة قبول الآخر، وثقافة الحوار، واحترام انسانية البشر، كي لا تتغلّب الطلقة على الكلمة، والقوة الغاشمة على حديث العقل والحكمة.

إذا توسّعنا أكثر نرى أن المُعادلة ما بين الإرهاب والإعلام تختزن مفهوم الحسّ الوطني وحقوق الإنسان، وإبتزاز الفصائل الإرهابية المنصّات الاعلامية بهدف تحقيق الوصول إلى منبرٍ يضمن لهم التواجد والحضور الاعلامي بشكلٍ علني، ومن ثُمّ الوصول إلى الرأي العام، ومن خلال هكذا علاقة تضيع حقوق الإنسان ومصلحة الوطن والمواطن، إنّها الإثارة والتضخيم في حيثيات الواقع من جهةٍ أخرى.

وإذا دققنا في دقائق الأمور نرى أن المهنية الاعلامية تعجز عن تفسير مسار المؤسسات الإعلامية في تغطيتها الأزمات والحروب، بحيث تصبح هكذا أجهزة إعلامية وتظهر وكأنها طرفٌ أساسي من الأزمات والحروب نفسها.

مع الأسف إن الخطاب الإعلامي أصبح يعتلي منبراً بعيداً كل البعد عن الموضوعية والمهنية والحرف النبيل والحر.

إن إختراق القيم والحرفية الإعلامية أصبح بشكلٍ جلي من السمات الأساسية لإعلام هذه الأيام، حيث يساهم وبكل اندفاع في تشويه الحقائق والتضليل، وبث الكراهية والفتنة، وثقافة الحقد بين الأمم وشعوبها.

فهل يستطيع الإعلام المُضللّ التخلي عن الزيف وثقافة الحروب والأزمات، والعودة إلى النزاهة المهنية، بهدف السلم والأمان والتقارب بين الشعوب والأديان.

وعلى المفكرين والمثقفين والكتّاب العرب أخذ دورهم الفاعل :

* في مواجهة الحرب النفسية المُضللة، ومواجهة العبث الفكري والقيمي. والعمل على دفع مسيرة المجتمع العربي كي يخطو خطواتٍ سريعة تنسجم والتطور الحضاري.

* وبذل الجهد الأكبر بهدف نشر الوعي في المجتمع العربي.

 * وتخصيص جهود فاعلة في المؤسسات التربوية والإعلامية لتعزيز قيم ومعايير وثوابت مجتمعاتنا بهدف تحصين الإنسان من تأثيرات الغزو الثقافي والإعلامي المشبوه والشرير.,

* مناشدة الحكام العرب كي يتطهّروا من ثقافة التبعية العمياء، والتركيز على البناء النفسي والثقافي والفكري لكافة أفراد مُكوّنات مجتمعاتنا.

* رفض الحرب النفسية والإعلامية المضللة التي ولجت المنطقة كسلاحٍ فعال تلجأ إليه دول عديدة، ونظم سياسية مختلفة بهدفِ التأثير على مجتمعاتنا وعلى مجتمعات أخرى مُستهدفة، بهدف زرع بذور تقبّل هذه الأفكار، وبالتالي تشكيل وتكوين شريحة من البشر تملك قناعة بها لتأمين مصالح ومكاسب تلك الدول.

لذلك علينا مفكرين وكُتّاب ومثقفين عرب، أن نأخذ دورنا الفاعل كي نُحذّر عامة الناس والرأي العام بعدم الاستهتار بالحربِ الاعلامية المضللة، وعدم تبسيطها لأنها فعلاً خطيرة، وتملك أبعاداً للمدى الطويل، والتحرر من التبعيات البغيضة، ورفض سياسات الأمر الواقع، وعدم الانجراف وراء الإعلام المُغرض والمُضلل، واحترام حرمة القضايا المصيرية، والتمسّك وبعناد بالثوابت الوطنية والقومية والفكرية.

الآن نتساءل:

هل الأمّة العربية تملك أسلحة مؤسساتها الإعلامية من أجل الدفاع عن قضايانا وقيمنا، وإيصال صوتنا إلى العالم، ومواجهة أكاذيب العدو، وحماية شباب الأمة وأجيالها من مطبات الحرب النفسية والإعلامية المُضللة والمشبوهة، وغرس روح المواطنة والتعايش، والوفاء والولاء للدولة وللأُمّة، وإزالة الخوف من العدو، وتنمية الوعي ومشاعر الحسّ الأخلاقي والإنساني في أبناء الأمّة ؟!.

نحن سنجيب بدلاً عن الأمة وعن مؤسساتها الإعلامية، ونقول:

 للأسف لا نملك سوى التبعية العمياء التي تحكمكم، فالحرب على غزّة أكّدت وكشفت وبقوة كل شيء حتّى عوراتكم.

***

د . أنور ساطع أصفري .

في المثقف اليوم