آراء

جمال محمد تقي: أرواح منتصرة تنحت لنفسها ذاكرة في التاريخ

قيل المنتصرون هم من يكتبون التاريخ، ربما يصح ذلك نسبيا، عندما تكون حكاية التاريخ قد انتهت، وان مصادر كتابة التاريخ واحدة، وان المنكسرون لا يتكلمون ولا يسمعون ولا يبصرون، وكأنهم اموت، وهذا ما يجافي منطق التاريخ ذاته، فالمنتصر القابض على السلطة والثروة، وكل ادوات القمع، والبطش، والقهر والعسف، المادية والمعنوية، قادر على إشاعة ما يريد من سرديات، بما فيها الملفقة والمشوهة والمختلقة والإقصائية، لكنه غير قادر على جعل كل الناس مؤمنين بها كمسلمات، وإلا لدامت دول وإمبراطوريات وعقائد الانظمة التي إنتصرت يوما ما اثناء سجال التاريخ، وقد تعلمنا من التاريخ ان جوهر الصراع المجتمعي متغير بإستمرار، وان ارادة الشعوب المقاومة لابد ان تنتصر في المحصلة، برغم الهزائم والانكسارات، فالايام تدور، وبدورانها تتفاعل عوامل القوة والضعف، وبالتراكم ينبثق كيف جديد، ومن معجلاته، إشتعالات ارواح الطلائع المقدامة التي تبث طاقة في الصفوف، تحفز على المطاولة المنتصرة، بالنقاط لا الضربات القاضية !
هيرودوتس رأى وكتب!
يكاد يتوسل مبعوث، خاشايارشا احشيورش الاول، قائد جحافل الأخمينيين وملكهم، الذي قرر إخضاع ممالك اليونان لنفوذه، بليونيداس ملك سبارطة، لإقناعه بعدم الوقوف بطريقه لأن ذلك يعني الانتحار، فالجحافل مليونية، ومقاومة الإسبارطيين لا جدوى منها، ورفض القائد الإسبارطي العرض رغم ضمانته لإستمرار حكم الاسبارطيين تحت جناح الأخمينيين سادة الدنيا حينها، وبعد اخذ ورد، استطاع اعوان الملك الأخميني إخافة المتحالفين مع سبارطة وانسحبوا من المواجهة، ولم يتبقى مع ليونيداس سوى خاصته من المحاربين الاحرار الذين يؤمنون بأن الجبن امام الجبابرة يجعلهم اكثر غرورا وعجرفة، اما صدهم وجرحهم فسيجعلهم اكثر تواضعا، وعليه قرر ليونيداس المقاومة حتى النفس الأخير مع أنفاس المحاربين الإسبارطيين ال 300، ويروي ابو التاريخ هيرودوتس نقلا عن الناجي الوحيد من المحاربين الإسبارطيين، الذي ارسله ليونيداس ليقول لسبارطة واليونان كلها تذكرونا، أن يتذكروا، كيف عرقل 300 محارب حر مسيرة الجحفل المليوني، وكيف ان القوى الغاشمة، لا تحترم الجبناء، وبحسب هيرودوتس، هبت ممالك اليونان موحدة، لمقاومة الغزوالأخميني !
الفداء: ذروة في الإقدام إلانساني !
الموت بالنيابة، الموت الطارق الضاغط على زناد الانعتاق، إشتعال الروح لإضاءة طريق العتمة، حل للغز المتاهة، هكذا كانت فدائية السيد المسيح ، طريقا للخلاص الارضي والسماوي، ومن قبله سبارتكوس قائد ثورة العبيد الذي صرع روما المتجبرة بصرع الهزيمة الكلية، وثورة الحسين التي أصلت ثقافة إنتصار الدم على السيف، وتشي جيفارا الانسان الحالم بعالم خالي من القبح بكل اشكاله، عالم فاضل بعدله وحريته، عالم لا تباد فيه الشعوب، ولا تقهر، ليتخم تجار البشر وقتلة الحالمين !
الفلسطيني من هذا الطراز:
على الطريق ذاتها، يطلع من ابواب وشبابيك زنازين العبودية الخانقة، متمردا، كالمارد في عنفوان وقفته، يجود بروحه إعلانا لرفض الخنوع، ينتصر لذاته الحرة، وبها لحرية الكل، والسنوار ليس خاتمتهم مع تفرده بالسخرية من الموت، حيث حاوره ووبخه ، ففي لقاء مسجل له يقول : ربما اموت بحادث تافه او الكرونا او المرض، الموت لا يخيفني، الذي يخيفني التقصير في إعلاء شأن قضيتنا العادلة !
كان السنوار من النوع الذي سقي الفولاذ، كأبطال رواية نيكولاي أوستروفسكي، كيف سقينا الفولاذ، فهو لا يسلم الروح حتى النفس الاخير دون محاولة للنيل من النازيين الجدد !
22 عاما في السجن المؤبد كان كالمغزل اليدوي، يدور في زنزانته وهو يغزل مقاومته المعلنة مع المحققين والسجانين، تعلم العبرية واتقنها، ليدرس عدوه ويعرف مكامن ضعفه لينقض عليها، وقد طبق منهج غسان كنفاني، وكأنه تشرب به، القائل : اعرف نفسك، وعرف عدوك، وعندما اطلق سراحه بصفقة تبادل 2011، خرج ليلبس إسرائيل ما غزله لها حتى الرمق الاخير !
وصف ابو تمام لبأس وجود صاحبه هو من بعض ماعند صاحبنا من شيم:


فتى دهره شطران فيما ينوبه
ففي بأسه شطر وفي جوده شطر
*
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة
تقوم مقام النصر إن فاته النصر .


ممات يغيظ العدا:
هي ليست كلمات لتعويذة رددها دراويش، او قوالون، كضرب من ضروب التبجح، او الرجز، هي تعبير عن حالة انسانية سوية، تصل لذروتها، في مقاومة القهر بكل اشكاله والاغتراب المفروض فرضا، ومقاومة للخنوع ايا كان مصدره، داخلي او خارجي، فالانسان بفطرته حر، اما وقد تطبع على الذل فسيكون قد هشم إنسانيته وجعلها ناقصة ودونية، وهكذا عندما يصبح السجن في النفوس سجية، وفي عالم الواقع كله تسري ثنائيات العبد والسيد، والقوي والضعيف، والغاصب والمغتصب، والضحية والجلاد، والمتخم والمُجوع، المواجهة حتمية مادام هناك ادراك بأن لهذه الثنائيات اسباب وعلل، وبتغيير موجباتها يتغير الحال، ومن المحال دوامه، والضحايا اول المستفيدين من المتصدين والمتقدمين في مسارات المواجهة، وإستيعاب دروسها لتقليص الكلفة، فن من فنون الثورة المطلوبة والتغيير المنشود !
في قصيدة "الشهيد" للشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود التي كتبها قبل إستشهاده بنحو 10 سنوات أثناء معارك نكبة 1948، صاغ الشاعر الثائر بيته المجيد ليكون لازمة لكل فداء:
فأما حياة تسر الصديق    وإما ممات يغيض العدا
لم يستكين هذا الشاعر الفلسطيني المتوهج شبابا ووعيا وإقدام، بعد مطارته من جلاوزة الانتداب البريطاني إثر نشاطه الثوري أثناء ثورة 36، فر للعراق 1938 وهناك تعرف على عبد القادر الحسيني وشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني، ثم رجع لفلسطين ليشارك في مقاومة المشروع الصهيوني حتى إستشهاده، وصفه جبرا ابراهيم جبرا، الشاعر الشهيد هو الفارس الاول في شعرنا المعاصر، حيث ربط القول بالفعل .
وهو القائل أمام الامير سعود بن عبد العزيز اثناء زيارته للقدس عام 1935 :
المسجد الاقصى أجئت تزوره؟ أم جئت من قبل الضياع تودعه؟
ما اشبه اليوم بالبارحة، قبل قيام إسرائيل كان حكام العرب على علم بما يريده البريطانيون والصهاينة، وكانوا يساومون، ومازالوا !
اما عبد الكريم الكرمي "ابو سلمى" زيتونة فلسطين، الذي اعتبره محمود درويش الجذع الذي نبتت عليه قصائد شعراء ارضها، فقد كتب في قصيدة " الى ملوك العرب" 1936 متهكما على بيان الملوك والامراء العرب الذي اصدروه في اكتوبر 1936، الذي طالب الفلسطينيين لوقف إضرابهم العام ضد السياسة البريطانية المؤيدة للصهاينة:

"انشر على لهب القصيد
شكوى العبيد الى لعبيد
شكوى يرددها الزمان غدا
الى الابد الابيد
قوموا اسمعوا
في كل ناحية يصيح دم الشهيد " .
***


جمال محمد تقي

في المثقف اليوم