آراء

عبد السلام فاروق: الاستشمار الثقافي والتحول الرقمي!

جف قلمي وبُحّ صوتي من كثرة ما ناديت أن بإمكاننا استغلال الثقافة كاستثمار مضمون واعتبار وزارتها وزارة اقتصادية لا مجرد وزارة خدمية غير هادفة للربح!

 القراء على اختلاف توجهاتهم وثقافتهم يسمعون مثل هذا الكلام ويكتفون بالاستغراب والاندهاش، أو بمجرد مط الشفاه والتلمظ دون تعليق! رغم أنني أتحدث عن اتجاه عالمي ليس بالجديد ولا بالغريب، وهو اتجاه له تطبيقات ناجحة وأمثلة واقعية بالمئات. وإذا استفضت فى استعراض تفاصيل خاصة بهذا الشأن فلن تكفيني عشرات المقالات المدججة بالأرقام والإحصائيات والمعلومات الكثيفة؛ لأننا نتحدث عن حالة عالمية موجودة منذ عقود، لا أقول منذ سنوات، لكننا ما زلنا نحبو ونتردد ونكتفي بفغر الأفواه دهشة واستغراباً!!

الاستثمار الغائب

الثقافة بمعناها الواسع لها أبعاد وأدوات ومفردات وروافد معروفة، فهي تشمل كل ما يتعلق بعادات شعب أو بلد أو مجتمع ما، أزياؤه ومأكولاته وتراثه وأخلاقه وفنونه وآدابه ومعماره، أي باختصار حياته اليومية بكل مضامينها ومحتوياتها. تلك الحياة التي هي فى الأصل نضح التاريخ وفرع لجذور قديمة ورثها الشعب من عادات الآباء والأجداد.

وحتي مائة سنة مضت لم يكن كثير من المصريين يدركون قيمة ما بأيديهم من كنوز الآثار والمومياوات والمعابد، وكان بعضهم يعرض المومياوات فى الشوارع للبيع لأي أجنبي يدفع فيها بضعة قروش! ثم جاء العلم ليكشف القيمة الحقيقية لهذه الكنوز التي لا تقدر بثمن. معني هذا أن القيمة فى ذاتها قد تكون مفقودة أو غائبة عن وعي وإدراك صاحب الشئ، وقد يملك الإنسان كنزاً فى بيته أو فى يده وهو لا يدري.

 أما مصر فكم فى أرضها وتحت هذه الأرض من كنوز مطمورة وظاهرة لكننا لم نستغلها الاستغلال الأمثل بعد. لدينا معابد ومتاحف ومساجد وكنائس وآثار فى كل محافظة وشارع وركن. ثم لدينا الإنسان المصري الذي أنشأ كل هذا وتفنن فى بنائه على مر العصور.

 في الغرب يتحدث الأثرياء أن أكبر استثمار مضمون لدي الصفوة من أكابر الأغنياء هو الاستثمار فى التحف النادرة والأشياء القديمة بمختلف أنواعها، كتب أو أجهزة أو آلات أو أدوات أو مقتنيات بسيطة كانت أو معقدة، محلية كانت أو أجنبية. وهناك عائلات في مصر تدرك أهمية مثل هذا الاستثمار، ولديهم فى قصورهم وبيوتهم متاحف مصغرة يحرصون على توريثها لأبنائهم وأحفادهم من بعدهم.

 بعض هذه المقتنيات تتحول إلى مقتنيات ثمينة بفعل مرور الزمن، كالعملات القديمة والوثائق النادرة، وحتي الصور الفوتوغرافية، وبعضها لمشاهير مصريين أو عرب أو أجانب كان لهم تواجد مؤثر فى تاريخ مصر.

 في مصر مثل هذا النوع من الاستثمار هو استثمار فردي غير مقنن ولا منظم. ولا تشارك فيه الدولة إلا بما تحوزه مؤسساتها الثقافية من مقتنيات وتحف وآثار ولوحات ووثائق. بينما فى إمكانها تعظيم الاستفادة من مثل هذا الرافد المهم بأكثر من طريقة، بل وتوسيع دائرة مقتنياتها بشكل ضخم بأكثر من طريقة، ومن بين الطرق التي يتم الآن استخدامها، وهي ليست الوحيدة، الذكاء الاصطناعي.

تأثير التحول الرقمي

مجرد أنك أدخلت الحاسبات لتسهيل عمليات حفظ وتوثيق ومعالجة البيانات لم يعد وحده كافياً لجني ثمار التحول الرقمي فى العمل الإعلامي والصحفي والثقافي بشكل عام. وإنما أن تستخدم أحدث التطورات التقنية والسيبرانية وتطبقها فى مختلف المجالات الثقافية..

 الدكتور أحمد هنو وزير الثقافة تكلم مؤخرا عن أهمية الاستفادة التي يمكننا تحصيلها من استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي فى مجال التراث الثقافي، بدءاً من معالجة الصور الفوتوغرافية المتهالكة والخرائط والرسوم لإعادة ترميمها بشكل سريع وشديد الدقة، ومروراً بحفظ آلاف المعلومات التراثية فى ملفات وتصنيفها وترتيبها وتبويبها بشكل دقيق يحافظ على التراث بل ويمكِّن الدارسين والباحثين من الوصول للمعلومات من خلال نافذة سحابية أو عدة نوافذ، وكلها ستتاح بمقابل مادي محدد.

 وبالمثل، لو أننا عرضنا كتباً تراثية أونلاين ، كتباً قديمة لم تعد تُطبع بسبب ارتفاع تكاليف الطباعة من كتب هيئة الكتاب أو هيئة قصور الثقافة أو المركز القومي للترجمة. بمقابل مادي يتناسب مع قيمة كل كتاب، فلا بد أننا سنحصل على عائدات ممتازة من منتجات موجودة بالفعل فى أرشيفنا القومي ولم نستغلها.

 ما زال الكثير من الباحثين في مصر وخارجها يضطرون لاستخدام الطريقة العتيقة لجمع المعلومات البحثية من خلال الطواف على جميع المكتبات الكبري من أجل تصفح المراجع المطلوبة للبحث، بينما يمكننا توفير مثل هذا الجهد من خلال إتاحة التصفح أونلاين بمقابل مادي يتم تحديده مسبقاً طبقاً لمعايير معلومة.

 هذا مجرد مثال من أمثلة عديدة لا حصر لها يمكننا بها استخدام آليات التحول الرقمي لتحصيل أرباح وتحقيق مكاسب مادية من تراث ثقافي نمتلكه بالفعل، دون أن نتخلي عن هذه الملكية بالبيع أو حتي بالتأجير، ولكن فقط من خلال اتاحة التصفح إليكترونياً. ألن توفر مثل هذه الخطوة البسيطة عائدات تكفي على الأقل لتحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي للمؤسسات الثقافية؟ أقول إنه مجرد مثال، وهناك أمثلة كثيرة أخري..

تجارب سابقة

دعني أقنعك بأمثلة حققناها بالفعل منذ سنوات مضت، أو نفذتها دول عربية مجاورة. منها فكرة القمر الصناعي "النايل سات"، كانت فكرة ناجحة نفذناها فى توقيت سليم، ومثلها فكرة "مدينة الإنتاج الإعلامي"، ولو أننا تأخرنا فى تنفيذ الفكرتين لتضاعفت التكاليف، ولتأخرت عائداتهما. إنها فرصة تقتنصها فى الوقت المناسب وتنفذها قبل غيرك ليكون لها أثر قوي.

 المغرب قلدتنا واستطاعت بناء مدينة على الطراز الفرعوني كسبت من ورائها ملايين؛ إذ كانت تؤجرها لشركات الإنتاج السينمائي الكبري لتصوير بعض أشهر الأفلام العالمية. وهكذا فعلت الإمارات العربية المتحدة ، وبعض أفلام هوليود الشهيرة تم تصويرها فى دبي أو فى برج خليفة وما حوله. ربما استطعنا أن نجعل بعض منشآت العاصمة الإدارية الجديدة ذات شهرة عالمية مثلها مثل الأيقونات المعمارية العربية والأجنبية، وأن يؤدي هذا لارتفاع قيمتها المعمارية عالمياً، هذا دور الإعلاميين والمثقفين وقادة المجتمع.

 ولو أخذنا باريس مثالاً، سنكتشف أنها تعتمد على مفردات تراثية قديمة لكنها فعالة سياحياً بشكل مبهر؛ برج إيفل والشانزليزيه ومتحف اللوفر؛ ثلاثية تجذب ملايين السائحين كل عام، ولم يتغير بها شئ، ولم يتطور فيها شارع أو زاوية. كل ما فعلته فرنسا أنها استطاعت الترويج لمعالمها السياحية ورفع قيمتها عالمياً لأقصي الحدود. إنها لعبة تسويق وترويج ودعاية لا أكثر ولا أقل.

أفكار بلا نهاية

عندما تتحدث عن الاستثمار الثقافي فأنت تتحدث عن عشرات المجالات عالية الربحية: فمن التعليم إلي التدريب إلي الترفيه إلي الصناعات الحرفية اليدوية إلى الفنون الفولكلورية إلي الأدب والإعلام والصحافة والإنتاج الفني بأنواعه من سينما وتليفزيون وإذاعة ومسرح. كل هذا ولم نتحدث عن المنتجات الرقمية والتجارة الإليكترونية والبرمجة والأمن السيبراني والإعلان الرقمي عبر السوشيال ميديا. عشرات ومئات المجالات الكبري والفرعية والدقيقة.

 سأترك كل هذه العناوين والمانشيتات الكبيرة البارزة، وسأحدثك سريعاً عن فكرة استثمارية حديثة لاقت رواجاً كبيراً وأصبح العالم يستخدمها بشكل واسع، بينما فى مصر ما زالت الفكرة فى بداياتها، وقليل من الشركات نجح فى تفعيلها وتطبيقها، وهي فكرة "المطبخ السحابي". وبغض النظر عن تفاصيل الفكرة، لكنها فى النهاية تنتمي للمجال الثقافي، والدليل أننا اتجهنا مؤخراً لليونسكو من أجل تسجيل بعض أنواع المأكولات المصرية الخالصة احتفاظاً بحقوق الملكية الفكرية، حتي لا تسطو عليها بلاد أخري وتنسبها لنفسها، مثل هذا السجال والجدال فى انتساب أنواع من المأكولات مشتعل بشدة على وسائل التواصل، وهناك وصفات يتم السطو عليها فتتعرض لاختلاط الأنساب!

 إذا كان "المطبخ" أصبح الآن أحد أهم وسائل الاستثمار الرقمي، فكيف بمفردات الثقافة الأكثر تعقيداً وأهمية؟ لا شك أن الفنون والآداب والصناعات الإبداعية قادرة على تغيير معادلة الاستثمار لو أعيد استغلالها كمصادر للربح والاستثمار علي الطريقة الرقمية الحديثة، لا كمنتجات خدمية على الطراز التقليدي القديم.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم