آراء

جمال محمد تقي: الحروب بين الصدفة والضرورة (4)

يقول ميشيل فوكو، في حفريات المعرفة، السياسة هي حرب مستمرة بطرق اخرى، عكس ان الحرب هي سياسة بطرق اخرى عنيفة، فمازالت آليات القوة تمارس حرب دائمة حرب صامتة، وبحسب حفرياته، فأن كل اشكال الحداثة ومؤسساتها تكريس لتلك الاليات المتجذرة في وحشيتها برغم واجهاتها المدنية البراقة التي توحي بالانسلاخ عن العمق السحقيق والحاضر باقسى صوره البشعة في اسلوب القتل الجماعي المنظم، والمغلف بكل انواع التحديث، السجون المدارس المستشفيات الاعلام.. ليس الفرد من يصنع السلطة كما تتبجح صناديق الاقتراع انما السلطة من يصنع الفرد، وبالتالي مازال الفرد خادم للسلطة وليس العكس، والسلطة تمارس السياسة التي هي حرب دائمة، والمحرك لا زال هو هو، اللاعدالة وتحديدا الاقتصادية، اما عن العلوم الانسانية فيقول انها تعكس مناخ السلطة السائدة، هي علوم للسيطرة على الانسان وليس لفهمه، والتاريخ اصبح تاريخ لذرائع السلطة التي مازالت هي ذاتها منذ قيام الدولة، وحتى الساعة حارسة للملكية المقدسة والتفاوت الطبقي!
قال نيتشة في شطحة من شطحاته الفذة: حذار وانت تحارب الوحوش ان تتحول الى وحش مثلهم تماما. وكل حروب بني البشر وحشية حتى اقدسها تلك التي تتقيد بوصايا الرب الذي صنعته سيرورة السلطة المطلقة لتجعلها اكثر اخلاقية!
وهذا ابن خلدون يجمل المعنى عندما يقول: إعلم ان السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره!
الحروب قاعدة والسلام إستثناء!
لا يمر يوم من ايام المجتمعات البشرية دون حروب، وما ايام السلام إلا نوعا من الاستعداد لها، او محاولة تأجيلها، او تفاديها بتقديم دياتها للغزاة او المبتزين، او الفرار منها بالهجرة الى ارض بعيدة كما كان يحصل ايام الوحشية والبربرية والمدنية البكرية، ما قبل الحداثة، وفي مجتمعات الحداثة تكثفت الحروب وصارت اكثر نظامية وتأثيرا وسرعة، خاصة بعد ان تبلورت الاشكال السياسية للدول الحديثة وجرى التوافق بينها على حدود الاقاليم وحصانتها النسبية، فالارض كلها قد تم تأطيرها، بالامر الواقع، والتبعية، القارات الخمس والجزر المحيطة بها دول معترف بها او كيانات تابعة، وتدريجيا اصبح معظمها ممثلا في منظمة الامم المتحدة، وقبلها كانت الامبراطوريات الامبريالية الاوروبية والامريكية الشمالية تستعمر اغلب شعوب وكيانات اسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية ومازالت آثار هذا الاستعمار ظاهر برغم موجة الاستقلال السياسي والتحرري التي غمرت اركان المعمورة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة 1991، وبقي بعضها خاضعا بشكل او بآخر لنفوذ الاقوياء والمهيمنين عالميا، حتى على القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي، تم رسم مناطق نفوذ بين الدول صاحبة القدرة على التوسع والاستحواذ والاستكشاف، وصار ديدن الاستكشاف اسلوب عمل لفائض القوة من اجل المزيد منها، لبسط النفوذ والتنافس على اسباب القوة المضافة، وقد انتقل هذا الديدن نحو الفضاء، بعد ان استغرق ما فوق وتحت سطح اليابسة بما فيها المتجمدة، وكل محيطاتها ومسطحاتها المائية،، غرين لاند، القريبة من امريكا مثلا تابعة للدنمارك، فوكلاند، القريبة من الارجنتين تابعة لبريطانيا، الضفة الغربية وقطاع غزة التابعة للشعب الفلسطيني مازالت محتلة بقوة البطش الاسرائيلي المدعوم امريكيا!
اوروبا اكثر قارات العالم حروبا وقتلا على مر العصور لكنها شهدت فترات استراحة وإعادة شحن بانتظار التنفيس القادم!
حروب لا تنتهي!
اكتشاف الامريكيتين واستراليا من قبل الاوروبيين كان ذروة تاريخية في حروب الغزو والازاحة والابادة، وقد اضافت لهم مصادر نوعية لمضاعفة فائض قوتهم الاقتصادية والحربية والتقنية وبسط نفوذهم على ارجاء العالم، امبراطوريات لا تغيب عنها الشمس، بريطانيا العظمى وفرنسا واسبانيا والبرتغال وايطاليا، حتى بلجيكا وهولندا، استعمروا العالم القديم والجديد، بحروب تلد اخرى!
***
جمال محمد تقي

في المثقف اليوم