آراء
كاظم المقدادي: مهمة معالجة المشكلات البيئية المتفاقمة.. ملاحظات اولية (7)
اثبتت فترة العقدين الاخيرين من عمر النظام الحالي في العراق، بمئات، ان لم نقل بألاف الادلة، فشل الطغمة الحاكمة فشلا ذريعا في ادارة الدولة وخدمة المصلحة العامة والارتقاء بالمجتمع العراقي، وانما بالعكس، ارجعته للوراء قرنا كاملا، بإمعانها في اعتماد منظومة المحاصصة السياسية والطائفية والاثنية، القائمة على تقاسم المغانم وفرض وهيمنة العناصر غير الكفؤة، بل والجاهلة، ومن مزوري الشهادات، من المحسوبين والمنسوبين، في قيادة المراكز القيادية في الدولة، بما فيها الوزارات والمؤسسات والدوائر الحكومية المهمة.
وعمليا، كشفت تجربة العقدين المنصرمين، ان الطغمة الحاكمة هي طبقة سياسية طفيلية جشعة، لا علم لها بمتطلبات الادارة الناجحة لقيادة مؤسسات ودوائر الدولة. ولذلك لم تحقق طيلة عقدين ولا منجز واحد لخدمة العراق، ذلك لانها لا تجيد سوى التجاوز على المال العام والنهب والهدم والتخريب المنظم، المقترن بالفساد وانعدام المسؤولية واللاابالية والاهمال، الى جانب التخبط والعشوائية في عملها، ولا من رقيب ولا حسيب على ما تفعله من قبل المؤسسات المعنية، وفي مقدمتها القضاء..
ولذا من العبث وضياع الجهد والوقت، ان تطلب من المنظومة السلطوية بعد عقدين كاملين اعتماد الكفاءة والحرص والامانة والسلوك المهني والعلمي الرصين، واجادة التنظيم والتخطيط والمتابعة والمراقبة والتقييم والمحاسبة، باعتبارها المبادى الاساسية للادارة الناجحة.
وقد اثبتت تجربة الدول المتقدمة ان من لا يمتلك المؤهلات المذكورة لن يفلح في عمله ومهماته. وهذا هو ديدن القيادة العراقية في ظل المنظومة السلطوية الحالية، والتي احبط فشلها كافة الخطط والمشاريع الوطنية الهادفة للاعمار والبناء وتقدم البلد، وكان يُفترض تنفيذها من قبل المؤسسات الحكومية.
وبسبب ذلك، تماما، لم تفلح وزارة البيئة العراقية في تبني متطلبات اداء الادارة البيئية الحديثة، ولذا فشلت في التنفيذ الناجح للخطط والمشاريع البيئية الوطنية، وحصيلة عقدين من عملها: تردي البيئة، بدلا من تحسنها..
واستنادا الى ما مر، يمكننا القول بانه ليس اعتباطا، ولا تجنيا، ان يحتل العراق في مؤشر الاداء البيئي Environmental Performance Index(EPI) اسفل الدول التي تهتم بالاداء البيئي، منذ عام 2012، وحتى يومنا هذا. والحكومات العراقية المتعاقبة تعرف تقصيرها جيدا، لكنها لم تسع عمليا لتلافيه.
ومؤشر الاداء البيئي يعني، من منظور اكاديمي، ان نظام الادارة البيئية يُحددُ السياسة البيئية للبلد، والابعاد البيئية لعملياتها، الى جانب المتطلبات القانونية، وغيرها، وكذلك مجموعة الاهداف والغايات المحددة بوضوح لبرامج الادارة البيئية، التي تشمل الانشطة الفنية والتنظيمية التي يقوم بها البلد بغرض تقليل التأثيرات البيئية الضارة واثارها على المجتمع.
بعبارة اخرى، يبين مؤشر الاداء البيئي كفاءة انظمة الادارة البيئية التي تعتمدها مؤسسات الدولة في حماية البيئة من خلال سياسات بيئية ترکز على الانشطة الاقتصادية الانتاجية بهدف الحد من اثارها السلبية على البيئة والمجتمع، واهمها التلوث البيئي، وحماية البيئة الطبيعية.
من هنا، فان مؤشر الاداء البيئي هو، باختصار، طريقة لقياس الاداء البيئي الرقمي والكمي لسياسات الدولة. يُقاس بتقييم استخدام الموارد غير المتجددة، واستهلاك الطاقة، ومكافحة التلوث، وتفادي المنتجات الخطرة، وتخفيض النفايات، واعادة تدوير المفيد منها. ولذا يُعتبر هذا المؤشر بمثابة نتائج نظام الادارة البيئية القابلة للقياس فيما يتعلق بالسيطرة التي يتمتع بها البلد على التأثيرات البيئية بموجب سياسته البيئية، المبنية على التخطيط والتنظيم والتنفيذ السليم والمثمر.
وفقا لتقييمات خبراء الادارة البيئية الحديثة تتواصل في العراق هيمنة سوء الادارة البيئية. ومن مظاهره : انعدام التخطيط والمتابعة والمراقبة والتقييم والمحاسبة، وحتى في حالة وجود قرارات وخطة استراتيجية ومشاريع لها، مُقرة ومُعلنة، لا تحضى بالاهتمام الجدي المطلوب من قبل القيادات الادارية المتنفذة.
وثمة امثلة كثيرة على سوء الادارة، متمثلا ليس فقط بعدم المواصلة والمتابعة والتقييم والمحاسبة، وانما ايضا بعدم الجدية، واللاابالية، وحتى الاهمال المنظم في تنفيذ الواجبات والمهمات الموكلة للمؤسسات. والحصيلة هي الفشل الحتمي لكل ما بُدءَ به من خطط ومشاريع ومهمات. وهو ما لعب دورا اساسيا في التدهور البيئي الحاصل وتفاقمه وتعمق تبعاته في المجتمع العراقي..
ويتواصل سوء الادارة البيئية في العراق رغم ما حظيت به وزارة البيئة من دعم من قبل الوكالات الدولية ذات العلاقة، وبالذات برنامج الامم المتحدة للبيئة (UNEP)، الذي ابدى تعاونه لتطوير الادارة البيئية وتحديثها وتعزيزها، من خلال بناء القدرات واعداد القيادات ودعم التقييم البيئي للأداء البيئي العام.. فلا يستطيع احد ان يجزم، وليس ثمة ما يدلل عمليا، على حصول تطور في الادارة البيئية العراقية نتيجة استفادة كوادر الوزارة من دعم الوكالات الدولية المتخصصة، او من الافادات والدورات، وما الى ذلك.
والوزارة اهملت، اسوة بالحكومات المتعاقبة، الكثير من المشاريع والدراسات العلمية واستنتاجاتها وتوصياتها، التي قُدِمت من كفاءات علمية متخصصة، عراقية واجنبية، لمساعدة العراق في معالجة مشاكله البيئية.. اشرنا الى بعضها في الحلقات الاولى من هذا الملف. ونضيف هنا مثال عراقي اخر له صلة بالأزمة المتفاقمة لاختناق المواطنين في بغداد واطرافها بالغازات السامة والضارة وبالروائح الكريهة:
في الدورة النيابية الخامسة، السنة التشريعية الاولى، الفصل التشريعي الثاني، لمجلس النواب العراقي، طلب النائب فالح الخزعليً اجراء بحث عن التلوث البيئي، وفعلا انجزته الباحثة د.دعاء فلاح الدباغ من دائرة البحوث والدراسات النيابية، قسم البحوث، بعنوان :التلوث البيئي ( الهواء والماء والتربة والتلوث الاشعاعي) لسنة 2022، تضمن معلومات علمية وافية ودقيقة، وتوصل الى استنتاجات وتوصيات مهمة.
ومما جاء في البحث: ان العراق يحتل المرتبة العاشرة لاكثر 10 دول تلوثا في العالم. واظهر فحص الجسيمات الدقيقة الضارة المحمولة في الجو، والمعروفة باسم الجسيمات العالقة PM2.5))، بانها تبلغ في العراق 76 ميكروغرام/ م3، في عام 2020. وهذا رقم خطير في وقت توصي فيه منظمة الصحة العالمية الا يتجاوز متوسط تركيزات (PM2.5) الـ 5 ميكروغرام/ م3. وتؤكد وكالة حماية البيئة الامريكية ان المستويات الاعلى من 35.5 ميكروغرام/ م3 يمكن ان تتسبب بمشاكل صحية خطيرة.
واحتل العراق التسلسل 41 من بين 189 دولة في العالم في المساهمة في انبعاثات غازات الدفيئة، وبكمية 216.19 مليون طن، اي ما يعادل 0.44 % من اجمالي اتبعاثات العالم في عام 2018.وهي اعلى مما هي عليه في عام 1990، وبنسبة 0.24 %. وكانت مساهمة العراق في تركيز ثاني اوكسيد الكاربون 49.06 مليون طنا، اي ما يعادل 0.22 % بالنسبة لدول العالم في عام 1990، ازدادت الى 210.83 مليون طنا، وبما يعادل 0.61 % بالنسبة لدول العالم في عام 2020، اي قرابة الثلاثة اضعاف.
واكد البحث ان مدن العراق تعاني من تراجع جودة الهواء بسبب الانبعاثات الملوثة الصادرة عن المصادر الثابتة والمتنقلة والمنتشرة في جميع المدن. كما ان التربة تعاني بشكل رئيسي من رمي النفايات والمخلفات المتنوعة ذات المصادر المختلفة، اضافة الى عدم تطبيق القوانين والتشريعات لمنع تلوث الماء والهواء والتربة. واوضح بان نوعية الهواء الراهنة في العراق ناتجة عن انبعاثات المركبات، والتلوث الناجم عن الحرب، واستخدام المولدات للتزود بالطاقة بسبب البنية التحتية الكهربائية السيئة، والحرائق الناتجة عن مصافي النفط والغاز، في حين صادق العراق على اتفاقية باريس للمناخ ولديه قوانين تُقيد التلوث.
لم نعثر على اية متابعة او اهتمام بالبحث، ولا باستنتاجاته وتوصياته، ومنها: وجوب وضع رؤية استراتيجية وبرنامج عمل لملف التلوث البيئي في العراق، وتشديد الرقابة، بتعاون لجان: الصحة والبيئة، والاسكان والخدمات، والزراعة والاهوار، مع وزارات: البيئة، والموارد المائية، والصناعة والمعادن، والنفط، والصحة، وتشريع القوانين التي تدعم الحفاظ على البيئة، مثل تفعيل قانون الضرائب العامة للمعامل والمصانع التي تعمل على رمي محلقاتها وتجاوزها للحد المسموح به -حسب منظمة الصحة العالمية، واصدار العقوبات اللازمة بها.
وهذا البحث ليس الوحيد، وانما ثمة دراسات وابحاث عراقية واجنبية مماثلة عديدة لقيت نفس المصير. علما بان مؤشر نوعية الهواء العالميAQI) ) لعام 2024 اكد صحة نتائج البحث وتحذيراته، مبينا تصدر العاصمة بغداد المرتبة الاولى عالميا في تلوث الهواء مقارنة مع 120 مدينة في العالم، حيث بلغت 186 ملغرام/م3. واكدته ايضا منصات جدوى الهواء، مبينة تشبع اجواء بغداد بتركيز الجسيمات العالقةPM2.5) ) الذي بلغ 34 ضعف المسموح به من قبل WHO .
واكد علي الوائلي، رئيس مراقبة جودة الهواء في وزارة البيئة العراقية ان اكثر من 50 في المائة من هواء بغداد ملوث، حتى في غياب رائحة الكبريت ( " المدى"، 14/10/2024)
والجدير بالذكر ان البيئيين العراقيين، ونحن منهم، حاولوا، بمبادرات طوعية مخلصة، مساعدة العراق، فكتبوا ونشروا خلال العقدين المنصرمين، الكثير الكثير عن المشكلات البيئية القائمة، واقترحوا المعالجات البيئية العملية المطبقة بنجاح في البلدان المتقدمة. الا ان الحكومات المتعاقبة، وجهاتها المعنية بحماية وتحسين البيئة، لم تاخذ بها، بل وتجاهلتها تماما، مثلما اهملت وتجاهلت الكثير من المشاريع والتوصيات والمقترحات العلمية، التي قُدِمت لها من قبل مؤسسات وكفاءات بيئية، عراقية واجنبية، بهدف مساعدتها في معالجة المشكلات البيئية الساخنة.
هذا الواقع، جعل وسط البيئيين العراقيين المستقلين والموضوعيين ان يحمل المنظومة السلطوية، بحق، الجزء الاكبر من مسؤولية التدهور البيئي المتفاقم، نتيجة تمسك احزابها السياسية المتنفذة بالمحاصصة وتقاسم المغانم، والاعتماد في ادارة شؤون الدولة على المحسوبين والمنسوبين من الفاشلين والغشاشين، وهو ما شجع على استشراء الفساد الاداري والمالي في جميع مفاصل الدولة، وافشل الخطط والمشاريع الوطنية، بما فيها الخطط والستراتيجيات الوطنية لمعالجة المشكلات البيئة المزمنة .
وحتى اليوم لم يدرك صناع القرار العراقي خطورة التدهور البيئي، وفي مقدمته التلوث البيئي وتداعياته على صحة وحياة المجتمع العراقي واجياله الحالية والمقبلة. ولليوم " ينظر اغلب صناع القرار والقادة السياسيين العراقيين الى البيئة وشؤونها ومشكلاتها نوعا من الترف والكماليات"- وفقا للاكاديمي والاعلامي المستقل نجاح العلي ("الصباح"، 17/10/2024).
وفي هذا السياق، يرى خبراء بيئيون ان الوضع البيئي الكارثي في العراق يعود بالدرجة الاساس الى نظام اللادولة في البلاد، وتجاهل النظام السياسي لمسؤوليته في التصدي للتلوث البيئي للهواء والماء والتربة، وللنفايات، ولتداعيات التغير المناخي المدمر، ولاستنزاف الموارد الطبيعية ("الرافدين"، 18/8/ 2024).
واكد الباحث رسلي سعدون المالكي ان "الحكومة العراقية غير جادة تماما بمتابعة وضع جودة الهواء، فمصفى الدورة في محطات الكهرباء منتهي الصلاحية وبحاجة الى تجديد شامل، وهو الذي يطلق كميات ضخمة من المواد السامة بسبب عدم اكتمال عمليات احتراق الغاز. وليست هناك اية حلول جدية لمعالجة كثرة السيارات. والمجسرات التي يجري بناؤها تفاقم ازمة التلوث ولا تحل مشكلة الازدحام، وكمية الانبعاثات الصادرة من السيارات مهولة. وليس هناك اية مؤشرات لانشاء مناطق خضراء، مع اقتلاع الحكومة لبقية الاشجار بحجة توسعة الطرق وانشاء مناطق سكنية ومشاريع استثمارية ".
واضاف من خلال متابعة ميدانية له في عام 2014:" اشترت الحكومة العراقية 74 جهازا لقياس جودة الهواء، منوها بان هذا العدد غير كاف اساسا لبلد بحجم ومساحة العراق، وعلى رغم ذلك، لم يتم ربط اي من هذه الاجهزة بحيث تكون "اون لاين"، وذلك بسبب الربط الخاطئ او عدم الربط اساسا. ولاحظت ان احد تلك الاجهزة تم ربطه اعلى بناية حكومية بجانب مولدة كهرباء، موضوعة فوق سطح البناية، فكيف يقيس الجهاز جودة الهواء وبجانبه عادم ينفث الدخان؟ وهو جهاز حساس جدا ولو لدخان سيجارة، وهذا يؤشر الى سوء التعامل مع الاجهزة "، مشيرا الى ان "الجهاز الوحيد الذي يعمل في كل بغداد هو جهاز السفارة الاميركية، وهو الوحيد الذي يعمل ومربوط (اون لاين)، وهو مخصص للحفاظ على سلامة العاملين في السفارة البالغ عددهم بضعة عشرات ربما، بينما الحكومات العراقية غير عابئة بسلامة 43 مليون عراقي"Independent") عربية"، 26 /10/ 2024).
الى هذا، اشرنا في الحلقة السابقة الى كشف لجنة الصحة والبيئة النيابية بان محطات وزارة البيئة لقياس نقاوة الهواء معطلة منذ اعوام طويلة، بينما يكذب المتحدث باسم الوزارة بان وزارته " تتابع عن كثب" و"لا داعي للقلق" في وقت حذر فيه الاطباء مرارا الى المخاطر الصحية لتلوث الهواء: التنفسية، والقلبية، والدماغية، وحتى السرطانات، وخفض معدل الاعمار...
وقدعبر مدير اعلام الانواء الجوية، عامر الجابري، عن استيائه من عدم اتخاذ الجهات المعنية، وخاصة وزارة البيئة، اجراءات فعالة لمعالجة هذه المشكلة المتفاقمة. واشار الى ان العراق بحاجة الى اجهزة متخصصة لقياس نسبة التلوث في الهواء، ما سيساعد في وضع خطط مناسبة لحماية المواطنين من التلوث المتزايد. وشدد الجابري على ان المؤسسات الحكومية، وعلى راسها وزارة البيئة، تتحمل مسؤولية كبيرة في معالجة هذه المشكلة التي باتت تؤثر بشكل مباشر على صحة المواطنين..
وذلكم غيظ من فيض الوقائع والادلة عن نهج معالجة المشكلات البيئة المتفاقمة من قبل المنظومة السلطوية ومؤسساتها ومتنفذيها في عراق اليوم !
***
*الاستاذ الدكتور كاظم المقدادي اكاديمي متقاعد، متخصص بالصحة والبيئة، عراقي مقيم في السويد