آراء
ثامر عباس: (المدينة) كهدف لانتقام المعارضة من السلطة

لعل سائل يسأل؛ ما علاقة المدينة بالصراعات التي يستعر أوارها بين جماعة (السلطة) الحاكمة من جهة، وبين جماعات المعارضة المحكومة من جهة أخرى، حتى يمكن إقحامها في أتون تلك الصراعات الدائمة الافتعال والمستمرة الاشتعال ؟!. وللإجابة على ذلك نقول؛ ان هناك أكثر من سبب أو دافع يجعل من (المدن) أهدفا "مرشحة لانتقام المعارضة من السلطة والتنكيل الرمزي بسلطانها، وذلك باللجوء لتخريب أبرز معالمها العمرانية والمعمارية، وإلحاق الضرر بشتى مظاهرها الحضرية والتاريخية، لاسيما تلك التي تحمل دلالات تتعلق بالذاكرة الاجتماعية وتحيل الى الهوية الثقافية، أو ما يسمى بالسرد الانثروبولوجي الفرنسي (أماكن الذاكرة).
وإذا ما حاولنا إيجاد تفسير مقبول لهذه الظاهرة الغريبة، وبحثنا بصورة معمقة عن الدوافع والبواعث التي تجعل منها سلوكا مبررا وتصرفا مشروعا من وجهة نظر المعارضة، فإننا سنكتشف ان مواقف السلطة الحاكمة وما تمارسه من أساليب ضد خصومها ومعارضيها، هي المسؤول الأول ليس فقط عن حصول هذه الظاهرة من قبل الجماعات الموصومة بالمعارضة وحسب، وإنما إيغار صدور مكوناتها بمشاعر الحقد والكراهية لكل ما يمت بصلة لكل ما تحويه تلك المدن من معالم حضارية وشواهد تاريخية. ذلك لأن صانع القرار السياسي في هذا النمط من المجتمعات الموبوءة بالتخلف، لم يترك أو يخلق ثيمة ذات دلالة تشعر أفراد هذه الجماعات بكل ما يحبب لديها الانتماء للمدينة الحاضنة، ناهيك عن كونه يسعى لتجريدهم من كل ما يشدهم للولاء الى رموزها التاريخية والحضارية والعمرانية. ولعل الباحث الانثروبولوجي (مايك كرانغ) كان على مطلق الصواب حين ذكر في كتابه المعنون (الجغرافيا الثقافية: أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية)، أنه (إذا تم تقويض العلاقات بالأماكن، سيتم من ثم تقويض الجماعات وهويات الناس).
ولعل ما يعمق إحساس الجماعات المعارضة بالغربة المكانية ويشعرها بفقدان الهوية الإقليمية للجغرافيا الوطنية، رغم كونها تعيش – وربما ولد معظمها فيها - داخل المدن وتمارس حياتها الأسرية والقرابية والاجتماعية منذ أجيال، هو ان صاحب السلطة يبدو مهووس بشخصنة كل ما تحويه المدن من معالم ذات قيمة عمرانية أو حضارية، حتى ولو كان تاريخ انجازها يقع خارج فترة النظام القائم. لا بل ان رمز هذا الأخير قد يتمادى في بعض الأحيان الى استثمار وتوظيف الرصيد الاعتباري الذي غالبا "ما تتمع به بعض النصب أو المعالم التاريخية التي سبق وأقيمت داخل المدن منذ زمن بعيد، بحيث يراد لها أن تكون بمثابة امتداد عضوي ورابط دلالي لطموحات ورغبات الحاكم المعاصر، كما حصل في أكثر من مناسبة ضمن إطار التجربة العراقية السابقة، لاسيما تلك الدلالات التي حملتها مقولة (من نبوخذ نصر الى صدام حسين بابل تنهض من جديد)، والتي كانت الرائجة في وسائل الإعلام الرسمي للنظام السابق.
وفي إطار مثل هذه السياسية التي تحاول تجيير (الذاكرة التاريخية) الخاصة بالمدينة المعينة لصالح شخصية الزعيم السياسي، بحيث تبدو كما لو أنها بلا قيمة ولا اعتبار ما لم يصار الى اقترانها بكيانه الشخصي المشحون بمظاهر الهيبة الكاذبة والكاريزما المزيفة، فإن سيكولوجيا الجماعات المعارضة لا تفتأ تعمل على تجريد المدينة من طابعها الجغرافي – المكاني المستقل، مثلما سلخها عن مضامينها التاريخية والحضارية والوطنية الشاملة، ومن ثم النظر إليها كتجسيد لجبروت الدولة المهيمنة وطغيان السلطة الحاكمة. وهكذا تشرع الممنوعات العرفية والممانعات الأخلاقية التي كانت سابقا "تلزم الأطراف المعنية على احترامها ومراعاتها بالتآكل شيئا"فشيئا"، وتحلّ محلها مشاعر فائضة بالكراهية ونوازع طافحة بالانتقام ليس فقط من شخص الحاكم الذي يمثل هرم السلطة ورمزها الأعلى فحسب، وإنما حيال كل ما يقترن به أو يمتّ له بصلة سواء على صعيد المؤسسات أو الكيانات التي يمثلها، أو على صعيد الانتماءات والولاءات التي يجسدها.
ولعل من أبرز مظاهر كراهية المعارضة لرموز السلطة شيوعا"، هي توجيه مشاعر الازدراء ونوازع الانتقام نحو المدينة التي تجسّد قوة الحاكم وتعكس سلطانه – غالبا "ما تكون العاصمة – بحيث ان سلوك الانتقام المتمثل بالتخريب العمراني المتعمد والتدمير الحضري المقصود، لا يقتصر فقط على فترات الفوضى والاضطراب الناجمة عن انهيار النظام المسيطر وسقوط الحكومة المهيمنة، كما حدث لمدينة (بغداد) عقب الغزو الأمريكي عام 2003 فحسب، وإنما يسري كذلك على فترات الهدوء الاجتماعي والاستقرار السياسي التي يكون خلالها الحاكم في أقوى حالاته. وذلك بانتهاج كل ما من شأنه التقليل من شأن المعالم التاريخية رغم قيمتها، والشواهد الحضارية رغم أهميتها، والنصب المعمارية رغم جماليتها. ومن ثم تعمّد إهمالها والإساءة إليها بشتى الطرق والأساليب حتى ولو بتركها عرضة لعوامل التآكل والاندثار دون حماية أو رعاية، مع توافر القدرات والإمكانيات على تقديم المساعدة اللازمة وإصلاح ما لحق بها من أضرار، خصوصا "وأنها نشأت في بيئات وتربت على قيم غالبا "ما كانت توحي بانعدام أية وشيجة تربطها بها وتشدها إليها.
***
ثامر عباس – باحث عراقي