أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: أهمية وقيمة الفلسفة الوجودية في الحياة
تؤكد الفلسفة الوجودية على وجود وحرية ومسؤولية وخيار كل شخص، وجميعها تُعاش وتُطبق في الحاضر فقط. الماضي مضى، انه ذكرى. كل ذكرى، وحتى الحدث ذاته هو متفرد لكل شخص. بالطبع، الذكريات يمكن ان تتغير، لكن هل هذا يعني ان التاريخ يمكن ان يتغير؟ كذكرى، نعم. ولكن كحدث، هل هو يتغير أيضا؟ اذا كانت ذكرى شخص او الافتراضات المشتركة لجماعة معينة تختلف عن تلك التي لدى شخص آخر او جماعة أخرى بشأن الاحداث الماضية، ماذا ستكون النتيجة؟
بالنسبة للمستقبل فهو ليس اكثر من تفكير مستمر، حيث يتم استخدام كلمة المستقبل كواصف. فقط الأجزاء الوحيدة من الزمن، المكان، والحياة حيث يُمارس الوجود والماهية هي التي تقع في الحاضر. ماذا يعني كل هذا؟ هل هو يهم حقا؟ منْ يقوم بالاختيار؟
المكان الوحيد الذي يمكننا العيش فيه هو في اللحظة الحاضرة. كيف نعرف اننا نعيش في الحاضر، او حتى اننا موجودون؟ هذا السؤال طُرح امام ديكارت الذي صرح : "انا افكر، لذلك انا موجود"، كما تُرجمت من الفرنسية واللاتينية. طبقا لديكارت، هذا التصريح الذي يبدأ بـ "انا افكر"، أثبت انه لديه القابلية للاعتراف بوجوده. "انا افكر، لذا انا اتأمل ذاتي". " انا افكر، لذا انا أتصور ذاتي بالإضافة للعالم الخارجي". هذا التصريح الوجودي من جانب ديكارت نال القبول من البعض ورُفض من البعض الآخر. وبهذا، يصرح الادب الوجودي بان هذه اللحظة الحاضرة هي الموقع الوحيد الذي توجد فيه الحياة والخيارات والفهم من حيث الزمان والمكان والتي هي متفردة لكل شخص. هذا يعني بعبارات وجودية هو ان "انا" مرتبطة بالحياة كـما "انا" اتصورها. و "انت" مرتبطة بالحياة كما "انت" تتصور. وباجتماعهما معا يتم التقدم الى ما يُعرف بـ "الافتراضات المشتركة" shared assumptions.
هذه الافتراضات المشتركة بمجملها هي التي زودتنا بوسائل لتحقيق ما أنجزه العالم، وهي تستمر للقيام بهذا. ذلك يتضمن التعليم بكل أشكاله وحقوله، وهو يمكن ان يحدث فقط في الحاضر.
الوجود يسبق الماهية
عندما طرح سارتر تصريحه "الوجود يسبق الماهية" هو جادل من البداية بان الافراد وُلدوا بدون أي هدف مقرر سلفا. ما يتبع ذلك، ونتيجة للوعي، هو الذي يوفر الوسائل المعرفية والفكرية لخلق الهدف. الهدف، مهما كان، يمكن ان يحدث فقط، مبتدئاً بالفكرة، يتبعها الإختيار والفعل. طبقا لسارتر، هذه العملية (من التفكير والاختيار والفعل) هي التي تقوم بصياغة وتشكيل جوهر الفرد. هذه الحقيقة الوجودية طبقا لسارتر، التي تؤكد على الخيارات والحرية والمسؤولية كل واحد منها يستمر بخلق الحياة التي نعيشها، وهكذا فان الجوهر تتم إعادة تشكيله باستمرار.
الوجود، الحرية، التعلم، التعليم، والجوهر
في نهاية المطاف، ومن المنظور التربوي والتعليمي، المعلمون لديهم الحرية والمسؤولية في تقديم دروسهم، وبهذا، هم أيضا مسؤولون عنها ولديهم الحرية في طرح او عدم طرح الأسئلة والاجابة عليها . هذه الطريقة الوجودية في العيش يشترك بها الطلاب ايضا. الطلاب لديهم الحرية وهم مسؤولون عنها في الاختيار والاستماع لمعلم ام عدمه. عندما يختار الطالب ان لا يستمع او يتعلم فلا شيء هناك يمكن عمله سوى الاستمرار بتقديم الدعم والنصيحة.
وكما أشار سارتر، "نحن محكوم علينا لنكون احرارا". هذا التصريح ليس عقوبة بالسجن. فكما لوحظ أعلاه، التصريح يؤكد بان "الافراد وُلدوا بدون أي غرض مقرر سلفا". والذي يعني ان الفرد حر. هذه الحرية تتعلق بامتلاك قدرة واعية لإختيار أفكار المرء ومواقفه وأفعاله. وبهذا، الحرية ليست ادانة، انها تحرير. انها الذات الواعية التي تعترف بان الذات الموجودة هي حرة بعمل خيارات يكون الفرد مسؤولا عنها.
هذا يمتد فيما بعد الى التربية الوجودية existential pedagogy. كلاسر Glasser،مثلا يسلط الضوء على ان التحفيز الباطني للأفراد والمشاعر الشخصية لهما التأثير الأعظم بما سنقوم به من عمل او قول او انجاز، بما في ذلك ما اذا كنا نختار التعليم والعمل ام لا. اذا لم يختر الطلاب العمل، فهم سوف لن يصلوا الى معايير التمييز الى ان يتخذوا قرارا بالعمل الذي بموجبه سيكونون احرار ومسؤولين عن النتائج المترتبة على ذلك.
نفس المبدأ الأساسي في الحرية والاختيار والمسؤوليات ينطبق على المدارس والمنظمات التعليمية. فمثلا اذا كان جميع الطلاب يعملون بجدية ويجهدون أنفسهم بنجاح، ويكملون برغبة كل العمل المطلوب عبر مراحلهم الدراسية (سواء كانت ابتدائية او متوسطة او جامعية)، عندئذ سوف تعكس درجاتهم هذا الجهد المحفز ذاتيا بما يؤدي الى انجاز اكاديمي عالي.
لكن، بالرغم من كل انضباطهم الذاتي والتفاني والتصميم والاجتهاد (الذي تجسد في اجتياز كل الاختبارات في المستويات الابتدائية والمتوسطة والجامعية)، اذا لم يكن هؤلاء الطلاب يتقدمون ويحصلون على اعتراف دولي (في انسجام مع المعايير الاكاديمية الدولية المقبولة)، هذا سيشير بوضوح الى وجود قضايا اكاديمية وتعليمية خطيرة .
فمثلا، فيما يتعلق بالمعايير المعترف بها دوليا في التميّز الاكاديمي، يقول اريسون Ericsson ان جميع معايير التميز يجب ان تُفهم ويُعترف بها عالميا وتجسد مبادئ مقبولة. مثال دولي على هذا هو جائزة نوبل. حقول هي الفيزياء والكيمياء والفسيولوجي والطب. كل الحقول يتم تطبيقها، والمرشحون يلبون كل المعايير الدولية المعترف بها للتميز الاكاديمي لنيل الجائزة.
لكن اذا لم يصل هؤلاء الطلاب المجتهدون والمتحفزون ذاتيا الى هذه المعايير الدولية للتميز كالأخرين، رغم التزامهم واصرارهم ورغبتهم في انجاز أعلى مستوى ممكن لتميز الدولي، فكيف ستكون النتيجة؟
***
حاتم حميد محسن
..............................
Psychology today, 9 oct,2025
الهوامش:
1- كويل Coyle. (2009). دليل الموهبة. العظمة لا تولد، بل تنمو، اليك كيف. دار نشر بانتام راندوم هاوس.
2- داكوورث . بيترسون واخرون (2007). الشجاعة، المثابرة والشغف لتحقيق الأهداف الطويلة المدى، مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي.






