قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية لقصيدة الشاعرة حفيظة الفائز بعنوان "المرأة الطفلة"

تُقدّم قصيدة «المرأة الطفلة» نصًّا شعريًا كثيفًا يقوم على تفكيك صورة الأنوثة من داخلها، لا بوصفها كيانًا مكتمل النضج أو رمزًا مثاليًا، بل بوصفها حالة وجودية مركّبة، يتجاور فيها الهشّ والملتهب، البراءة والدهاء، التعلّق والقدرة على إعادة الخلق. إنّها قصيدة لا تصف المرأة، بل تُصغي إلى ارتجافها الداخلي، وتحوّل هذا الارتجاف إلى مادة شعرية ذات بعد نفسي وإيروتيكي وفلسفي واضح.

أولًا: الرؤية الشعرية وبنية النص

ينبني النص على استعارة مركزية: المرأة = الطفلة. وهذه الاستعارة لا تُستخدم استخدامًا تزيينيًا، بل تؤسّس كامل البنية الدلالية. فالطفولة هنا ليست مرحلة عمرية، بل بنية شعورية مستمرّة، تسكن المرأة مهما تقدّم بها الزمن:

«كل امرأة طفلة

تسرب العمر من كفها»

إنها طفولة متسرّبة، غير قابلة للإمساك، مثل حبات العقيق المنفلتة من قلادة؛ صورة موفّقة تجمع بين الجمال والفقد، وتشي منذ السطر الأول بإحساس الزمن المهدور عاطفيًا.

النص يعتمد على التراكم الصوري بدل الحبكة الشعرية التقليدية؛ إذ لا ننتقل من حدث إلى آخر، بل من حالة نفسية إلى أخرى، ما يجعل القصيدة أقرب إلى مونولوغ داخلي ممتد، تُمسكه خيوط العاطفة لا المنطق السردي.

ثانيًا: البعد السيكولوجي – الطفلة الداخلية وجراح التعلّق

من منظور سيكولوجي، تنتمي القصيدة إلى فضاء الطفل الداخلي، حيث تستعاد ألعاب الطفولة (الدّمية، الزهور، لعبة يحبني/لا يحبني) بوصفها تمثيلات مبكّرة للقلق العاطفي:

«لتقطع الشك باليقين

يحبني

لا يحبني»

هذا الترديد الطفولي ليس بريئًا، بل يكشف عن قلق وجودي عميق: الحاجة إلى الاعتراف، والخوف من الهجر، والتأرجح الدائم بين الأمل والانكسار.

واللافت أنّ الشاعرة لا تحاكم هذه الحالة، بل تتركها تتكشّف كما هي، بعريها النفسي:

«ترميها جثتا عارية

لا الزهرات نجت من حتفها

ولا المزهرية نالت حظ الزينة»

هنا يتحوّل اللعب إلى عنف رمزي، ما يدلّ على ذاتٍ تعاقب الأشياء حين تعجز عن تثبيت الحب؛ وهي آلية نفسية معروفة في حالات التعلّق القَلِق.

ثالثًا: الإيروتيكي بوصفه طاقة حياة لا إثارة

الإيروتيكي في القصيدة مُضمَر لا فجّ، يقوم على رمزية الماء والنهر والاشتعال. فالجسد لا يُذكر مباشرة، لكنه حاضر عبر الحركة والحرارة والانسياب:

«تمرغ الأجساد الملتهبة

في دغدغة مويجاته الدافقة»

هذا الإيروس ليس استهلاكًا جسديًا، بل إيروس كوني، قريب من تصوّرات باشلار، حيث الماء عنصر حميمي يرمز إلى الذوبان والتجدد.

المرأة الطفلة هنا لا تطلب اللذة بقدر ما تطلب إعادة إحياء العالم:

«فلا جدوى من جريان النهر

دون أن تعشق اليمامة شطآنه»

العشق شرط المعنى، لا تفصيلًا إضافيًا للحياة.

رابعًا: اللغة والصورة والأسلوب

لغويًا، تعتمد القصيدة لغة واضحة لكنها مشحونة، توازن بين السرد الشعري والصورة المكثّفة. الصور في مجملها موفّقة، وإن كان بعضها يميل إلى الاسترسال أكثر من التكثيف، خصوصًا في المقاطع الأخيرة التي تطيل الفكرة بدل تعميقها.

أما المفارقة اللافتة فتظهر في هذا المقطع:

«لا يهمها إن كان العالم يسير إلى حتفه

ولا إن كانت الدنيا تضيق

كفستان مومس»

وهو مقطع جريء، يصطدم بالقارئ أخلاقيًا، لكنه يخدم الرؤية الشعرية: العالم بلا حبّ بلا قيمة، مهما بدا متماسكًا أخلاقيًا أو سياسيًا.

خامسًا: الدلالة الفلسفية – الحب كسلطة تشكيل

تبلغ القصيدة ذروتها الدلالية في خاتمتها:

«تكفيها جرعات حب

ليصير العالم في كفها

قطعة عجين»

هنا تُستعاد فكرة قديمة بصيغة شعرية معاصرة: الحب سلطة تشكيل المعنى.

المرأة لا تغيّر العالم بالقوة، بل بالقدرة على إعادة تأويله، على جعله محتملًا، لينًا، قابلًا للعجن من جديد.

ملاحظات نقدية ختامية

قوة القصيدة في صدقها العاطفي وجرأتها النفسية.

الاستعارة المركزية ناجحة، لكنها كانت ستكسب عمقًا أكبر لو خفّ التعميم في بعض المواضع («كل امرأة»).

النصّ مشغول بعناية، ويجمع بين الحسّ الاعترافي والرؤية الرمزية دون سقوط في المباشرة.

خلاصة

«المرأة الطفلة» قصيدة عن الهشاشة بوصفها قوة، وعن الطفولة لا كبراءة ماضية، بل كجرح حيّ يُعيد تشكيل الرغبة والعالم.

إنّها كتابة تعرف ما تقول، وتعرف لماذا تقول، وتنجح في تحويل التجربة الأنثوية من حالة وجدانية خاصة إلى سؤال شعري إنساني:

كيف نحيا، إن لم نُطعِم العالم قليلًا من الحب؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة- برلين

........................

المرأة الطفلة

كل امرأة طفلة تسرب العمر من كفها

كما تسربت حبات العقيق من قلادة

ما يزال الجيد يأمل عناقها

كل امرأة تحمل في صدرها لهيب شوق هارب

و ثقل صمت يكسره صدى أنفاسها

و هي تعاقر وحدتها وسط ضجيج

الخيبات المتناقضة

تلك المرأة

هي نفسها الطفلة التي غنت كثيرا لدميتها

و زينتها عروسا

ثم عادت جردتها من زينتها

و هي الفتات التي

قطفت الزهور من حقول الربيع

لا لتزين مزهريتها

و لكن لتقطع الشك باليقين

يحبني

لا يحبني

يحبني

لا يحبني

في كل مرة يختل مزاجها

ترميها جثتا عارية

لا الزهرات نجت من حتفها

و لا المزهرية نالت حظ الزينة

و هي المراة

التي عند الهجر

ترسل عصافير الشوق وراء ظلاله

و تنكر الفعل

في عزة حواء

و هي المرأة التي عند الجد

تتطاير شظية حارقة من رماد

تشعل الفتيل

على ضفاف

غفلة النهر الساكن

لتعود الحياة ....

فلا جدوى من جريان النهر

دون أن تعشق اليمامة شطآنه

و تمرغ الأجساد الملتهبة

في دغدغة مويجاته الدافقة

المرأة الطفلة

لا يهمها إن كان العالم   يسير

إلى حتفه معصوب العينين

و لا إن كانت الدنيا تضيق

كفستان مومس

تصدع من نظرات شبقية لا ترحم

عورات المساكين

المراة الطفلة

تكفيها جرعات حب

ليصير العالم في كفها

قطعة عجين تشكله

على الوجه المريح

***

حفيظة الفائز

17|11|2025

 

في المثقف اليوم