قراءات نقدية

محمد علوط: يد تقود عماي "للشاعرة نجاة الزباير".. مسالك البيان ومراقي العرفان

ينطوي ديوان " يد تقود عماي " للشاعرة المغربية نجاة الزباير"1" على مفاتيح إقرائية متعددة قد يكون أسهلها قراءة هذه التجربة الشعرية ضمن الخرائطية الرمزية للشعريات الوجودية الإغترابية التي طبعت مساحة كبيرة من المنجز النصي للقصيدة الحداثية. لكننا لن نيمم بوصلات القراءة في هذه الوجهة وسنؤثر ارتيادا يذهب نحو رفع سدول النص الشعري عن أمكنة المعنى المحتجب وخلع العذار عن أحجبة المعنى الذي يتوارى في السدوف والسجوف البلاغية الشفيفة والكثيفة.

ثمة سند جمالي تنهض عليه نصانية الديوان وهو المتمثل في انتحاء كتابة شعرية تؤالف بين الرمزية الإشارية للغة العرفانية من خلال إحالات تناصية على ابن عربي وجلال الدين الرومي وابن الفارض ورابعة العدوية وفريد الدين العطار يتماهى فيها النص القرآني بالحمولة الدلالية للخطاب الصوفي، وتؤالف في نفس الوقت باسترفاد السجلات الرمزية للشعر الغربي من هوميروس إلى بودلير مع اختراقات لسجل المتن الأساطيري (جلجامش، برومثيوس، إيكاروس، سيزيف، نرسيس..)

جراء هذا التركيب الأرابيسكي وتساندات موزييك لغة بإيقاعات حابلة بما هو ظاهر وما هو مضمر من الصوغ التشاكلي لهذا التعدد من الرموز تنهض الكتابة الشعرية في هذا الديوان [كما في أعمال شعرية أخرى للشاعرة] كرحلة رمزية عبر مسالك البيان الشعري في التعبير عن علاقة الذات بواقع غير متطابق (واقع لإغتراب الجسد والروح)، وعبر إسراءات ومعارجية البوح الشعري لكتابة تتدثر بلبوس الرموز الأساطيرية والصوفية للتعبير عن اغتراب الوعي والفكر في عالم ووجود يفتقد لحمة الاكتمال ويفتقد الجوهر الخالص للروح والكينونة الصميمية. نقرأ من الديوان:

انكمشت في أسفار ابن عربي

زحف القلب خلف فجره

" أدين بدين الحب " قال

اتسعت في مداه حيرتي

وانفتحت أبواب بصيرتي

(...)

أيها البعيد

أرأيت كل هذا الغبار

يدثر إسمي في ذاكرة هواك

فآوي للعراء

كي أصطاد قصيدة

شردت حروفها

فألقاك

تحت سقف هواجسها

تعانق وردة الوصل

وكلما قصصت من الضلوع

شوقك

نبتت لي أجنحة من رماد

تحملني إلى عناوينك.

" ص – 16 / 18 "

هكذا تترحل بنا القصيدة في الفضاء السيميائي لتلاقي الأكوان المعرفية لكل من النفري [كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة] وابن الفارض [الحب عقيدة أهل الخواص]، مثلما نعبر من الإشارة اللماحة إلى غربة الملك الضليل الشاعر امرىء القيس وصول إلى الالتفات الكنائي للأندلس وشاعريها ابن زيدون ولسان الدين ابن الخطاب، دون نسيان التناص الأول مع الآية القرانية (فنبذناه بالعراء) والتناص الثاني مع أسطورة طائر الفينيق في قول الشاعرة (نبتت لي أجنحة من رماد).

أهم ما ينتج عن هذا الانتحاء الجمالي هو أننا نصير بصدد كتابة شعرية تشتغل وفق [استطيقا الاستعارات التماثلية] التي أوضح الباحث محمد بازي انبناءاتها في العديد من النصوص الأدبية من خلال كتابه (تقابلات النص وبلاغة الخطاب)"2"، أي أن القصيدة تتجاوز على مستوى تشكيل الصورة الشعرية الحيز الضيق للمحسنات البيانية والبديعية التي تجعل التشبيه والإستعارة والكناية مقصورة على حيز الجملة وبالتالي تشيد الشاعرة ما يمكن وصفه ب [الإستعارة النصية / أو الاستعارة السياقية كما يحب محمد مفتاح أن يسميها]"3"

تركز الشاعرة على بلاغة النص الشعري مبتعدة عن التنميق والزخرف البياني أو النزعة البديعية، وهذا يتضح من خلال اعتمادها جماليات التقابل بين المنوال الإستعاري لتجربتها الشخصية والمنوال الإستعاري العرفاني، أو الذهاب أبعد من ذلك إلى توسيع مرايا المناويل الإستعارية بالانفتاح على العديد من السجلات الرمزية المجازية الكونية، كما يتضح في الصوغ الشعري التالي:

أ - يمكن تأمل جمالية النسج الاستعاري في قصيدة " وجه ليس لي " التي مطلعها:

المرآة الكاذبة

تشطرني نصفين

وجه يفتح شباك القصيدة

يقود معناي

و آخر ينام غريبا

على كتف الضوضاء

يقول لي:

مساء الخير

و يتبع خطاي.

و هي قصيدة تشتغل على مفهوم الخيال المرآوي [انشطار الذات في صورتين متناقضتين اغترابيتين] مع استدعاء لصورة (القرين الشعري)"4"

ب – يستعاد المنوال الإستعاري ذاته من خلال قصيدة " أنامل تنوب عني " وهي قصيدة لتمرئيات صورة الأنا في اعكاسات الوعي الشعري، نقتبس منها:

كانت عيناها تفضحان سري

هي غيري

قلت..

وأمعنت في التخفي

لكنها أمسكت بظل وهمي

واستلقت في جرحي

تعد زنابق دمي

المسفوحة على باب التمني.

يتجانس الالتجاء إلى [المرآة] كمنوال استعاري ناظم لبلاغة الكتابة الشعرية مع النزوع الاستطيقي للكتابة الصوفية في اعتمادها رمزية المرايا للحديث عن الذات في مختلف تمثلاتها وهو ما يذكرنا بالبيت الشعري الصوفي الشهير (وما الوجه إلا واحد غير أنه / إذا أنت عددت المرايا تعددا)، لكن الأمر ليس فقط مخصوصا بالشعرية الصوفية فشكسبير في شعره التراجيدي كثير الجنوح

لا لا إلى رمزية المرآة للتعبير عن استعارات الغيرية كما عن أشكال الصراع بين الإنسان أو الزمن، أو إظهار مفارقات الوجود ونقائض المشاعر والقيم وهو القائل في شعره (يا مرآة مرائية / كأتباعي أيام الهناء / إنك تخدعينني) من مسرحية ط ريتشارد الثاني ".

لا تغرق الشاعرة نجاة الزباير في استدعاء الإصطلاح الصوفي وهي بذل ذلك تذهب نحو استلهام جوهر الشكل الشعري لروح الوعي العرفاني: كما أنها تترك النشيد الشعري يسترفد كل أشكال التعبير عن الذات سواء من خلال الأنماط التي عرفتها مختلف الشعريات الرومنطيقية في الشرق والغرب أو من خلال التماس مع الماهية الشعرية لروح الحداثة.

تعتني بتشييد القصيدة ك [معمار] لكي تتجنب السقوط في شرك التداعي غير البناء في نصاصية القصيدة، وتقتصد في بناء الجملة جاعلة المعنى المجازي سيد الكتابة فيما خطاب الحقيقة يرد بلغة مشذبة من وقع المباشرة والسطحية. في بنائها المعنى تترك مونولوج القصيدة ينفتح على الحوار الرمزي مع الكثير من الأسماء والأصوات (فان كوغ، سيلفيا بلات، زرقاء اليمامة، سعاد الصباح، الموناليزا، نزار قباني، جيفارا..).

تلك اليد التي تقود العمى الوجودي السائد هي [يد شبيهة بعناية سماوية] ترعاها أقدار ومصائر الشعر كما يرعاها ذلك النور الذي يحمله القلب والبصيرة والروح في مواجهة عالن انتصر فيح الحس على يقظة الإحساس. عالم لا يكف كل شيء فيه يندثر إلا من تلك الشعلة التي لا زلت تتوهج في قلب الشاعر / الشاعرة ولا تخبو رغم شحة الزيت في القنديل.

***

محمد علوط – 2025

......................

هوامش:

1 – نجاة الزباير "يد تقود عماي" طبعة أولى 2023 منشورات بيت الشعر في المغرب.

2 – محمد بازي " تقابلات النص وبلاغة الخطاب " طبعة أولى 2010 منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ناشرون بيروت لبنان / راجع الفصل الرابع تحليل الباحث لقصيدة نسر لعمر أبي ريشة.

3 – محمد مفتاح " مجهول البيان " طبعة أولى 1990. دار توبقال الدار البيضاء المغرب

4 – راجع: عبد الفتاح كيليطو " الكتابة والتناسخ " ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. طبعة أولى 1985. تالمركز الثقافي العربي لبنان – المغرب.

في المثقف اليوم