قضايا

ابتهال عبد الوهاب: تأملات في تراجيديا التوسل الوجودي وصيروره المعني الذاتي

متسولون.. نمد ايدينا لا لنلتقط رغيفا يسد رمق الجسد بل لنلتقط معنى يسكن ارتجاف الروح. نقف عند حافات الوجود كأنما ننتظر من عابر مجهول ان يخبرنا لماذا جئنا والى اين نمضي وكيف ينبغي ان نعيش.

لكن سقراط كان قد قال منذ ان وضعت اول لبنة في معبد العقل:

"اعرف نفسك"...

وكان يقصد: لا تنتظر من الخارج ما لا يولد الا في الداخل.

نحن نخدع انفسنا حين نتوهم ان احدا سيمنحنا المعنى.

فهايدغر كان يرى ان الانسان "ملقى في العالم" بلا تعليمات وعليه ان يخلق "وجوده الاصيل" من كثافة التجربة.

وكامو وهو يغوص في عبث الوجود يؤكد:

"لا معنى للعالم الا المعنى الذي تمنحه انت له".

فكيف نمد ايدينا للاخرين نطلب منهم ما لا يملكونه اصلا؟

ان اليد الممدودة ليست فعل ضعف بل فعل ضياع. ضياع البوصلة لا ضياع القدرة. ولذلك قال نيتشه: "على الانسان ان يصنع ذاته والا ستصنعه الجماعة".

وما اسهل ان تتحول الجماعة الى سجن والعابر الى سلطة والصدفة الى مصير مستعار. نحن لسنا متسولين يا رفاق بل نحن صناع المعنى  وحفارو الدلالة في صخر الوجود.

فبوذا نبه منذ الفي عام: "لا تنقذكم كلمات الاخرين... انقذوا انفسكم".

وديكارت حين شك في كل شيء لم يستند الا الى شيء واحد:

"انا افكر اذا انا موجود"...

اي ان الوجود ذاته يتأسس من الداخل لا من راي الاخرين ولا من عطاياهم.

اننا ننهض حين نكف عن استعطاء الضوء من الخارج. فالضوء الحقيقي كما قال جبران: "في داخلك يتولد النور وان اظلمت الدنيا".

وكولن ولسون اعتقد ان الانسان "يصبح حرا حين يدرك انه مصدر المعنى لا ضحيته".

والذي يعرف كيف يخلق معنى لخطوته الأولى، لن يعيش يوما على فتات المعاني التي يوزعها المارة بلا اكتراث.

فحين نتوقف عن مد ايدينا نكتشف ان اليد التي كنا نمدها للغرباء هي اليد نفسها التي كان ينبغي ان نمدها لانفسنا... لينهض كل منا ويحمل اثقاله ويكتب سيرته بعرقه لا باصابع الاخرين.

المعنى مسؤوليتك.

المعنى خلق لا استجداء.

وما دام في داخلك صوت ولو كان خافتا فانت لست متسولا بل كائنا في طور التأسيس يعيد كتابة تعريفه للعالم ولذاته كما يفعل كل من جرؤ على النظر الى الحقيقة دون وساطة احد.

فارفعوا رؤوسكم يا رفاق...

فمن امتلك نوره الداخلي لا يجوع للمعنى ابدا.

ومن يخلق معنى صغيرا في زاوية حياته يسع الكون كله ولا ينحني طالبا من احد سوى ان يترك له الطريق مفتوحا ليمشي فيه كما يشاء.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

في المثقف اليوم