قضايا
فضل فقيه: تجاوز المفاهيم.. عندما تتخطى النظريات العلمية حدودها

إن بعض النظريات العلمية، التي تكون ناجحة إلى حدٍّ كبير، تصبح قادرة على التأثير في التفكير الإنساني خارج إطارها المعهود. فيحاول العلماء والفلاسفة إسقاط هذه النظرية على أي مجال يمكن إسقاط مفاهيمها عليه. أحد أبرز الأمثلة التي تخطر سريعًا على البال هي نظرية التطور عبر الانتقاء الطبيعي لتشارلز داروين. وُضعت هذه النظرية لتفسير التنوع البيولوجي، إلا أن الكثيرين حاولوا توسيعها لتفسير مجالات أخرى كعلم الاقتصاد، وعلم النفس، والثقافة. لكن هذا التوسيع في التطبيق ليس بالضرورة أمرًا مفيدًا. في الواقع، فإن هذه الإسقاطات تخلق مشكلة دقيقة وخطيرة وهي ما يُعرف بـتجاوز المفاهيم.
تجاوز المفاهيم يحصل عندما تنجح فكرة في إطار أو حالة معيّنة وتدفع التفكير نحو استعمالها في أطر أخرى دون وجود أدلة كافية. وقد يحدث ذلك بسبب مقارنات وتشابهات بين حقيقة علمية ونماذج معرفية أخرى. فكرة "الميم"، التي تمثل تطبيق التطور الدارويني على الثقافة، تمثل مثالًا واضحًا على هذا الموضوع.
الجين الثقافي: الميم
مصطلح "الميم" صاغه لأول مرة عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكنز في كتابه الجين الأناني. اعتبر دوكنز أن الانتقاء الطبيعي يعمل على المكرّرات، وأن أي مكرّرات فهي خاضعة لنفس الانتقاء الطبيعي. فبينما يتعامل داروين مع الجين كوحدة للتطور، اقترح دوكنز أن الأفكار والتصرفات والمنتجات الفكرية والثقافية تنتقل من شخص إلى آخر ومن جيل إلى جيل مثل الجينات، واعتبر أن وحدة التطور الثقافي هي ما سمّاه بـ"الميم". هذا الميم، تمامًا كالجينات، يخضع للانتقاء الطبيعي.
الفكرة في ظاهرها رائعة. فلماذا لا نعتبر الأفكار المتناقلة بين الناس كالجينات التي تحاول البقاء في المحيط الثقافي؟ من هذا المنطلق، تصبح العقائد الدينية، وصيحات الموضة، والأيديولوجيات السياسية تتصرف كالكائنات الحية: تتغير مع الزمن، وتنتقل من بيئة إلى أخرى، ومنها ما يتمدد ومنها ما ينقرض.
هذه المقاربة أدت إلى نشوء ما سُمّي بـ"علم الميمات"، الذي حاول وضع التطور الثقافي ضمن إطار الانتقاء الطبيعي. إلا أن هذا العلم واجه سريعًا أسئلة وانتقادات عديدة تقع ضمن مفهوم تجاوز المفاهيم.
لماذا لا تتصرف الثقافة كعلم الأحياء؟
المشكلة الأساسية في هذا الإسقاط أن الثقافة ليست كعلم الأحياء. فالتطور البيولوجي يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء التي ترسم إطارًا لما هو ممكن. وهو يعتمد على العشوائية والتجريب، حيث تنجح بعض التغيّرات وتفشل أخرى، دون وعي أو اختيار.
أما في الثقافة، فالمسألة مختلفة تمامًا: الإنسان يقرأ الفكرة، يحللها، يتبناها أو يرفضها بناءً على معارفه وخبراته. بل إن كل شخص يفهم الفكرة ذاتها بشكل مختلف. وهذا لا يحدث في عالم الجينات.
كذلك، فإن انتقال الأفكار يحصل غالبًا أفقيًا بين أفراد المجتمع، بينما انتقال الجينات يكون عموديًا من جيل إلى جيل. وعليه، فإن التطور البيولوجي غالبًا ما يكون تراكميًا وبطيئًا، في حين أن التطور الثقافي يتم أحيانًا عبر قفزات ثورية، حين تصل فكرة إلى من ينتقدها ويعيد بناءها بشكل جديد تمامًا.
هذا الاختلاف الجوهري يؤكد أن إسقاط التطور الدارويني على الميمات أمر إشكالي، بسبب اختلاف المنهج والضوابط.
ما هو "الميم" أصلًا؟
رغم أني لا أحب التعريفات الجامدة، إلا أن مشكلة إضافية تكمن في عدم وضوح تعريف الميم. هل هو فكرة؟ جملة؟ لحن؟ طقس؟ لا توجد وحدة قياس دقيقة، ولا وسيلة علمية ثابتة لقياس انتشاره أو تحوّره. وعلى عكس الجينات، التي يمكن تحديدها وتحليلها مخبريًا، فالميمات غامضة وغير قابلة للقياس المباشر. فكيف لنا أن نجزم بأن فكرة معينة تطورت من أخرى؟
رغم الحماس الكبير في تسعينيات القرن الماضي، فشل علم الميمات في ترسيخ نفسه كتخصص علمي. لم ينتج نماذج تنبؤية أو دراسات كمية، وظل أقرب إلى خطاب تأملي واستعاري من كونه علمًا تجريبيًا.
جاذبية القوة المفاهيمية
لماذا انتشرت فكرة الميمات بهذه السرعة؟ السبب أن نظرية التطور حققت نجاحًا باهرًا وتمتلك قوة تفسيرية هائلة. حين نُدرك هذه القوة في تفسير الحياة، نميل إلى إسقاطها على ميادين أخرى. فنبدأ برؤية أنماط "تطورية" تتجاوز مفهوم الانتقاء الطبيعي كما طرحه داروين، بل ولا علاقة لها بمبادئه الأساسية.
والجدير بالذكر أن دوكنز لم يزعم أنه أسّس نظرية متكاملة للثقافة، بل قدّم الميمات كتجربة فكرية. لكنها تحوّلت لاحقًا إلى إطار يُستخدم على نطاق واسع في تفسير الظواهر الثقافية، رغم أن انتشار الميمات في الواقع يخضع لعوامل معقدة مثل الخوارزميات، وسائل الإعلام، والتفاعل البشري الواعي - وليس "انتقاءً طبيعيًا" بالمعنى الدقيق.
في الختام: الدرس الأوسع
تعطينا قصة الميمات درسًا مهمًا: ليس كل نظرية ناجحة صالحة للتعميم. تجاوز المفاهيم يضعف النظرية الأصلية ويفسد فهمنا للمجال الجديد. ما يبدو كتشابه بسيط قد يخفي اختلافات عميقة في المنهج والآليات.
الاستعارات مفيدة، والتفكير بين التخصصات ضروري. لكن عندما نستخدم نظرية قوية لتفسير كل شيء، فإننا نقع في فخ التبسيط المفرط. في النهاية، النظرية الجيدة تُستخدم بحذر، لا كعدسة موحّدة تُسقط على جميع الظواهر.
***
فضل فقيه
............
قراءات اضافية:
Dawkins, R. The Selfish Gene. (Oxford Univ. Press, 1976).