قضايا

جولي سيديفي ومتعة اللغة / ترجمة: محمد غنيم

بقلم: جولي سيديفي
ترجمة: د. محمد غنيم
***

"أشعر بنشوة إضافية من البهجة عندما أقرأ جملة تحقق شيئًا خارجًا عن المألوف."

***

كأستاذة لغويات شابة، جاءت إليّ ذات مرة امرأة بعد المحاضرة الأولى من دورة كنت أدرسها. أبلغتني بأنها لن تواصل حضور الفصل. كانت شاعرة، كما قالت كنوع من التفسير، ولذلك كانت غير مرتاحة للنهج التحليلي المفرط في دراسة اللغة الذي شهدته للتو. أخبرتني بأنها ليست مهتمة بـ"تشريح" اللغة.
منذ ذلك الحين، كثيرًا ما واجهت هذا الموقف، وكأنه قد يختنق التفكير العلمي في اللغة بمصدر الإلهام الإبداعي. ربما هو جزء من الإحساس العام بأن التقدم العلمي والتكنولوجي قد أدى إلى شعور واسع بالخيبة، كما جادل الفيلسوف ماكس فيبر، حيث فقد البشر الوصول إلى أنماط التفكير غير العقلانية وإلى المشاعر من الإعجاب والدهشة التي يمكن أن تنشأ في مواجهة الغموض.
يجب أن أقول إن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لي. لقد كانت الدراسة الأعمق للغة ساحرة للغاية. الكثير عن بناء اللغة والعمليات الذهنية التي ترافقها غارق تحت الوعي الكامل؛ وقد شعرت أن التعلم عن هذه الأمور يشبه الدعوة إلى الغرف الخفية في روح الحبيب. وبعيداً عن إزالة الغموض عن اللغة، فإن طبقات التعقيد التي اكتشفتها لم تؤد إلا إلى مزيد من الغموض.
وعندما تركت الأكاديمية منذ بضع سنوات لأوجه جهودي نحو الكتابة، وجدت أن معرفتي العلمية تتخلل كل جانب من عملي، سواء كنت أكتب عن اللغة أو عن أي شيء آخر.
إن إسقاط الذات في ذهن القارئ هو تحدٍ يواجه جميع الكتاب. عملي كعالمة لغة يمنحني نموذجًا تفصيليًا لذهن القارئ لم أستطع اكتسابه من خلال الحدس وحده. إن انتباه الإنسان وذاكرته مقيدان بشكل مذهل، وعند تحليل جملة ما، يواجه القراء خطرًا دائمًا يتمثل في حدود كمية المعلومات التي يمكنهم الاحتفاظ بها نشطة في أذهانهم.
تساعدني معرفتي بهذه الحدود في فهم سبب شعور بعض الجمل بأنها غير متناسقة بينما تبدو أخرى أكثر سلاسة. إنها تساعدني في تسوية التجاعيد في التركيب النحوي التي قد تسيء إلى جملة مثل: "في سن السبعين، قبل الروائي العظيم جائزة نوبل التي لن تكون يومًا في متناول يده." أعلم من خلال تجاربي في المختبر أن عين القارئ قد تتعثر عند قراءة "لن تكون يومًا"، مما يشير إلى أنها قد قرأت "جائزة نوبل" بشكل خاطئ في البداية كموضوع للفعل "قبل"، وتتفاجأ عندما تكتشف أنها في الواقع هي فاعل جملة جديدة—وأن هذه التجاعيد يمكن تسويتها بسهولة إذا تم إدراج "أن" بعد "قبل" أو إذا تم استبدال الفعل بـ "عرف".
أعلم أن الانتباه يسلط على الجملة كما يسلط شعاع الشمس، فيضيء بعض الكلمات أكثر من غيرها. وقد استخدم دايفيد ماركسون هذه الظاهرة بمهارة كبيرة عندما كتب: "الآفات المقيتة، هكذا وصف هنري فيلدينج النقاد".
أعلم أن القراء هم خبراء في اكتشاف الأنماط وهم يتنبأون باستمرار بالمكان الذي ستأخذهم إليه اللغة؛ وهذا يمنحني إحساسًا بكيفية إدارة التوتر بين التوقع والمفاجأة.
وأنا أدرك أن الكلمات على الصفحة ليست أكثر من نقطة بداية للمعنى، وهذا يزيد من حدة إحساسي بما يمكن تركه دون أن يقال. فجملة "طعن بروستر ضحاياه بسكين" تبدو زائدة عن الحاجة، ولكن جملة "طعن بروستر ضحاياه بكعب عال من لوبوتان" لا تبدو زائدة عن الحاجة. وبمعرفتي بآليات التلميح، لدي إحساس بالحدود الدقيقة بين اللغز المغري والغموض المحير.
لكن أكثر من كل ذلك، فإن دراستي للغة قد زادت من تركيزي بطرق تعزز من متعتي بها.
إن الوقت الذي قضيتُه في "تشريح" أصوات الكلام جعلني أكثر انتباهًا للتناغمات وإحساس الكلمات في الفم. إن فهم كيفية تناسب العظام النحوية للجملة معًا يُعمق من تقديري للتراكيب الأنيقة في الجمل والعبارات، مدركة مجموعة من الترتيبات البديلة التي لم تكن لتحقق نفس التأثير. ولأنني منسجمة مع أنماط اللغة وانتظاماتها، أشعر بنشوة إضافية من البهجة عندما أقرأ جملة تحقق شيئاً خارجاً عن المألوف.
وأي مجال آخر من المعرفة العلمية يمكن أن يضيء الحالة الإنسانية مثل دراسة اللغة؟ إن اللغة متشابكة مع كل جانب من جوانب حياتنا. فهي في آن واحد واسعة وهشة، مقيدة بحدودنا العقلية. الطريقة التي نتعلم بها اللغة في الطفولة تعكس حاجتنا الملحة للتواصل الإنساني، والطرق التي تخذلنا بها تُظهر مدى ضعفنا أمام وحدة الفهم الخاطئ. إن الأفكار العلمية التي اكتسبتها في حياتي البحثية توفر لي إلهامًا لا ينتهي ككاتب.
عندما أفكر في الشاعرة التي نبذت فصلي التعليمي، أشعر بالحزن لأنني أعتقد أنها لم تحصد نفس المكافأة أبدًا. لقد فكرت فيها طوال الوقت بينما كنت أكتب كتابي "محب للغات" ، الذي يمثل تتويجًا لعمل حياتي كعالمة لغة وكاتبة، حيث كنت أفكر في ما كنت أتمنى أن أقوله لها، وكيف كنت لأود أن أقوله. أردت أن أكتب كتابًا ليس فقط عن علاقتي باللغة، بل كتابًا يجسد هذه العلاقة.
آمل أن يجد هذا الكتاب طريقه إليها.
***
........................
المؤلفة : جولي سيديفي/ Julie Sedivy: تقوم جولي سيديفي بتدريس علم اللغة وعلم النفس في جامعة براون وجامعة كالجاري. وهي مؤلفة كتاب "الذاكرة تتحدث: حول فقدان اللغة واستعادتها" و"الذات واللغة في العقل: مقدمة لعلم اللغة النفسي"، فضلاً عن مشاركتها في تأليف كتاب "البيع على اللغة: كيف يتحدث المعلنون إليك وماذا يقول هذا عنك". تعيش في كالجاري، كندا.
https://lithub.com/julie-sedivy-on-amplifying-the-pleasure-of-language?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20October%2025%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

 

في المثقف اليوم