أقلام فكرية

غالب المسعودي: الوعي والاختيار

من التراث الميتافيزيقي إلى الروحانية العلمية المعاصرة

 تمثل دراسة الوعي وحرية الاختيار الخيط الناظم لتاريخ الفكر الإنساني، وهي القضية التي لم تبارح مكانها في قلب الجدل الفلسفي والعلمي منذ فجر التاريخ وحتى عصر الذكاء الاصطناعي وميكانيكا الكم. إن الانتقال من التراث الميتافيزيقي، الذي كان ينظر إلى الوعي كجوهر روحي أو فيض إلهي، إلى الروحانية العلمية المعاصرة التي تحاول تأطير هذه المفاهيم ضمن قوانين الفيزياء العصبية والكمية، لا يمثل مجرد تطور في المناهج، بل هو إعادة تعريف لماهية الإنسان ومكانه في الوجود. إن جعل التراث معاصرًا ليس عملاً إراديًا بحتًا أو مجرد تحديث لمفاهيمه، بل هو عملية فلسفية تتطلب ما أسماه هانز جورج غادامر "امتزاج الأفقين" لنتج معرفة تشبع نهم الوجود في كليته.

يُعدُّ التصور الأرسطي (المذهب الهيوليمورفي) بمثابة الجذر التاريخي الأهم للمقاربات الطبيعانية الحديثة. إن تعريفه للنفس بأنها "صورة للجسد" يضعها ضمن إطار وظيفي يمكن للعلم دراسته. وهذا يتناقض مع التقديس الأفلاطوني الذي وضع الروح خارج متناول التحليل المادي. المقاربة الأرسطية هي التي سمحت لاحقاً للروحانية العلمية بإعادة دمج الوعي والوظائف الذهنية داخل الإطار الطبيعي دون إنكار أهميتها. وفي الفلسفة الحديثة، رسخ رينيه ديكارت الثنائية الجوهرية التي فصلت الوجود إلى جوهرين مختلفين: الروح، كوعي خالص غير ممتد، والجسد كمادة ميكانيكية ممتدة. وكان التحدي الأكبر: كيف يمكن لجوهرين مختلفين جذرياً أن يتفاعلا؟

أدت أزمة التفاعل الديكارتية إلى نتائج وجودية عميقة، إذ أصبحت هذه الأزمة السبب المباشر لظهور المادية الصارمة والطبيعانية في القرن العشرين. فإذا لم يستطِع الجوهر الروحي أن يؤثر في الجسد المادي بشكل مفهوم، فإنه يصبح وجوداً زائداً عن الحاجة. كما تُعرَّف الروحانية العلمية أو العلمانية بأنها إمكانية تحقيق التجربة الروحية دون الحاجة إلى افتراض وجود "قوة أعلى" أو "كائن خارق للطبيعة". إنها لا تُعتبر ديناً جديداً، بل مقاربة تسمح لجميع الخبرات باتخاذ صفة روحية، لا تقتصر على مجال ديني واحد أو عالم متعالٍ.

على الرغم من أن التطورات الصناعية والمادية في الغرب قد أدت إلى زيادة في النزعة الفردية، فإن الروحانية العلمانية تؤكد طابعها المجتمعي. وتُعتبر حالات الرهبة والتجربة الروحية التي يمكن اختبارها فردياً بمثابة محفزات قوية تدفع الناس للتأثير في الآخرين والطبيعة إيجابياً، مما يساهم في الجماعية؛ وهذا يبرر دورها الأخلاقي والاجتماعي يتجاوز حدود الفردانية البحتة.

الوعي كخاصية كونية إذا كانت الروحانية العلمية تهدف إلى إيجاد المعنى والقيمة دون مرجع متعالٍ، فإنها تحتاج إلى ترسيخ الوعي كجوهر مقدس ضمن الإطار الطبيعاني. وقد دفع هذا السعي إلى إحيـاء نظريات ميتافيزيقية قديمة مثل الروحية الشاملة وإعادة صياغتها في ضوء الاكتشافات العلمية المعاصرة. إن الروحية الشاملة هي آلية فلسفية تتيح "التقديس الميتافيزيقي" للوعي، حيث يصبح الوعي متأصلاً في الواقع المادي كله، لكنها لا توفر حلاً وسطاً جذاباً بين ثنائية الجوهر والمادة الصارمة.

 الوعي كعقل كوني:

تذهب بعض النظريات المعاصرة في الفيزياء وفلسفة العقل إلى ما هو أبعد من مجرد ملازمة الوعي للمادة، إذ تمنح الوعي دوراً نشطاً في تشكيل الواقع الفيزيائي. تفترض هذه المقاربات، التي تُعرف بنظريات الوعي الكمي، أن الواقع قد يكون "محاكاة ذاتية" وأن الكون هو "عقل واحد" يمثل نفسه في شكل رمزي رياضي. تشير هذه النظريات إلى دور الوعي في تشكيل الواقع، خاصة من خلال الربط بينه وبين المجال الكهرومغناطيسي وميكانيكا الكم. إذا كان للوعي دور مهم في انهيار الدالة الموجية كما تقترح بعض تفسيرات ميكانيكا الكم، فإن هذا يرفع الوعي إلى مستوى ميتافيزيقي حيث يصبح أساساً للواقع المادي نفسه. إن هذه "الفرضية الجريئة" تدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الذات والواقع؛ وهذا هو أعلى مستوى من "التقديس الطبيعاني" للوعي، حيث يصبح الوعي الخالق أو المؤسس للقوانين الفيزيائية العميقة، بدلاً من كونه ناتجاً لها.

 الوعي الفردي بالحرية:

 إن الوعي الفردي بالحرية هو المكون الأساسي الذي يفرق التجمع الطبيعي عن المدني. وكلما ازداد وعي الفرد بحريته، ازداد وعيه بالمسؤولية عن أفعاله وحكمها الأخلاقي في المجتمع. وهكذا، تتحول الحرية إلى مسؤولية أخلاقية بالاجتماع ووجود الآخر. إن الروحانية العلمية لا تزال تعترف بالمسؤولية الأخلاقية في مستوياتها المختلفة؛ حيث يمكن التمييز بين القيم الجماعية المستمدة من التقاليد التي قد تصدر عن مرجعية دينية، والأخلاق كقوانين كلية وعامة بالمفهوم الكانطي للفضيلة، وأخلاقيات الحكمة العملية باصطلاح بول ريكور، أو الاهتمام بالذات باصطلاح ميشيل فوكو؛ وهذا الأخير يشير إلى جمالية السلوك الفردي والقدرة على إبداع بدائل متجددة. تعزز الروحانية العلمانية المسؤولية الجماعية، حيث تؤكد أن حالات الرهبة التي يتم اختبارها بشكل فردي تساهم في النهاية في الجماعية، لأنها تحفز الأفراد للتأثير الإيجابي.

 الروحانية العلمية

تمثل الروحانية العلمية مقاربة فلسفية شاملة تسعى إلى صياغة إطار جديد لإضفاء القداسة على الوجود الإنساني دون اللجوء إلى مفاهيم متعالية، وتأسيس الأخلاق من خلال "المشهد الأخلاقي"، حيث يصبح رفاه الوعي هو المعيار الأقصى للقيمة، مما يربط التقديس الميتافيزيقي للوعي بالمسؤولية الأخلاقية في العالم الطبيعي. لقد قدم هذا التوليف حلاً وسطاً جذاباً، إذ إنه يعيد تقديس الوعي والاختيار عن طريق دمجها في أساس الواقع الفيزيائي نفسه، بدلاً من وضعهما في عالم روحي منفصل. رغم ذلك، يستمر النقد الموجه للتوافقية بأنها لا تقدم الإرادة الحرة بالمعنى المطلق اللازم للمسؤولية الأخلاقية التقليدية، وأنها لا تزيد عن كونها "حتمية في ثوب آخر". هذا التحدي يظل جوهرياً للحتميين والليبراليين الذين يصرون على أن الحرية تتطلب القدرة على اختيار خلاف ما تم اختياره دون تحديد سببي كامل.

التحدي المنهجي للمعنى

التحدي المنهجي للمعنى تطور هذا المسار نحو التجريبية مع جون لوك، الذي رفض الأفكار الفطرية واعتبر الوعي نتاجًا لتراكم الانطباعات الحسية. ثم جاء ديفيد هيوم ليشير إلى أن الوعي نفسه قد يكون مجرد حزمة من الإدراك المتغير، وأن مفاهيم مثل "العلية" هي مجرد عادات ذهنية نمليها نحن على الواقع، وليست قوانين ضرورية في ذات الحقيقة. أما إيمانويل كانط، فقد أعاد صياغة الميتافيزيقا لتصبح دراسة لحدود العقل البشري، مؤكدًا أن الإرادة الحرة هي "إرادة طيبة" تنضبط بالعقل الأخلاقي، وهي ضرورة وجودية لتحقيق الواجب رغم حتمية القوانين الطبيعية في عالم الظواهر. تظل مسألة ما إذا كان العلم بأدواته التجريبية القابلة للقياس قادراً على تفسير الإحساس بالمعنى والقيمة بالكامل سؤالاً مفتوحاً.

تُعدُّ المقاربة الفلسفية التاريخية ودورها في الروحانية العلمية المعاصرة بمثابة استجابة حتمية لأزمة المعنى في عصر الطبيعانية. إن تقديس الوعي والاختيار في هذا الإطار لا يتم عبر التعالي، بل عبر الاعتراف بالقيمة الأخلاقية الكامنة في أعماق الطبيعة والكون نفسه. إن الوعي والاختيار ليسا مجرد موضوعات للدراسة، بل هما الفعل الذي نحقق من خلاله إنسانيتنا. ومن خلال الحوار الدائم بين تراثنا الفلسفي وابتكاراتنا العلمية، يمكننا أن نصل إلى فهم أعمق لسر الوجود، مؤكدين أن: "المعرفة هي الشرارة الأولى التي توقظ الوعي، والوعي هو البصيرة التي تهدي الإنسان إلى نفسه وإلى العالم".

***

غالب المسعودي

...........................

المراجع:

plato.stanford.edu

Ancient Theories of Soul - Stanford Encyclopedia of Philosophy

iasj.rdd.edu.iq

مفهوم النفس في فلسفة أرسطو

manshoor.com

مدخل إلى فلسفة العقل.. هذا إذا كان موجودًا أصلًا

pantheism.net

Naturalism and Naturalistic Pantheism: can there be a naturalistic ...

quora.com

What is the difference between spiritual pantheism and scientific pantheism? - Quora

grisda.org

A Biblical Perspective on the Philosophy of Science - Geoscience Research Institute

plato.stanford.edu

Consciousness - Stanford Encyclopedia of Philosophy

scienceworksar.wordpress.com

فلسفة العقل: المفهوم، القضايا، والتأثير في الفكر الفلسفي المعاصر - ScienceWorks Arabic

plato.stanford.edu

Compatibilism - Stanford Encyclopedia of Philosophy

qcc.cuny.edu

Compatibilism

researchgate.net

(PDF) An Emergentist's Perspective on the Problem of Free Will - ResearchGate

الحرية، المجتمع والحكم الأخلاقي.. / عبد الله البياري* - عرب 48

samharris.org

The Moral Landscape: How Science Can Determine Human Values - Sam Harris

 

في المثقف اليوم