أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: ماهي الفلسفة الأفضل للحياة؟

السؤال عن أفضل فلسفة للانسان هي كالسؤال عن أفضل الأطعمة التي يتناولها المرء، حيث ان كل شخص له مذاقه الخاص. البعض يفضل الفلسفة الرواقية لماركوس ارليوس، آخرون يستمتعون بالاشياء البسيطة لأبيقور. طوال التاريخ قدم المفكرون الكبار مختلف الرؤى لحياة هادفة. ارسطو دافع عن الفضيلة والتميّز، كونفشيوس أكّد على الانسجام الاجتماعي، اما الوجوديون فقد جادلوا لخلق معنى خاص للفرد في كون لا هدف له. ولكن في عصرنا الحالي حيث الإلهاء المستمر واللاّيقين كيف نتعامل مع أسئلة الحياة الكبرى دون ان نضل الطريق وسط هذا الكم من الضوضاء؟
هنا تصبح الفلسفة الشخصية شيء لا يُقدر بثمن، كبوصلة ذهنية تساعدنا في اتخاذ القرارات، ووضع الأولويات، والعثور على الإكتمال. وسواء أدركنا ام لم ندرك، جميعنا نعيش بمجموعة من العقائد التي تحدد خياراتنا. السؤال الواقعي هو ليس ما اذا كنا نمتلك فلسفة وانما هو ان كنا اخترنا تلك الفلسفة بوعي.
سنستطلع هنا الفلسفات الرئيسية التي أرشدت الانسانية منذ آلاف السنين، نختبر حكمتها التطبيقية لكي نساعد أنفسنا في صياغة فلسفة تتماشى مع قيمنا. وبالنهاية، وكما ذكر سقراط "ان الحياة الغير مختبرة لا تستحق العيش" (افلاطون، ابولوجي)(1).
ما الذي يجعل الحياة جيدة؟
ما الذي يميز الحياة الجيدة؟ هل هو الانجاز الشخصي، ام انها تعتمد على الكيفية التي بها يتصورنا الآخرون؟ جدلية الذاتي مقابل الموضوعي أرهقت الفلاسفة لقرون. افرض انت تؤمن انك عشت حياة استثنائية مليئة بالمعنى والهدف، مع ذلك، الناس الذين حولك يعتقدون شيء آخر. فمنْ هو على صواب؟
بالنسبة لسقراط، الجواب يكمن في إختبار الذات. هو أعلن ان الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش، مجادلا ان الحياة الجيدة تتطلب تفكيرا عميقا. بدون التحقق من عقائدنا ورغباتنا وخياراتنا سنخاطر بالانحراف من خلال حياة دون فهم حقيقي لها. لكن هل يكفي التأمل الداخلي؟ روبرت نوزك Robert Nozick في تجربته على الماكنة يتحدى فكرة ان المتعة وحدها تجعل الحياة ذات قيمة. لو افترضنا هناك ماكنة تستطيع محاكاة أي شيء ترغبه انت مثل السعادة، النجاح، وحتى الحب وبشكل تام لدرجة انك لا تعرف أبدا انه ليس واقعيا. فهل يحقق ذلك شيئا هاما لحياتك؟ يجادل نوزك ان معظمنا سوف ينكرون ذلك، مؤكداً ان الإنجاز الحقيقي يتعدى المتعة المجردة. نحن نبحث عن الأصالة، النمو، والارتباطات الحقيقية.
ان نصبح أحسن نسخة لأنفسنا، ونكوّن علاقات هادفة ذات معنى، ونواجه تعقيدات الحياة بشجاعة وحكمة كل هذه هي مظاهر الحياة الجيدة. انها أشبة بمغامرة لن يبحر بها شخصان بنفس الطريقة، وانما هناك شيء واحد مؤكد وهو ان: الرحلة ستكون أفضل مع النية والتفكير والهدف.
الحكمة التطبيقية للفلاسفة القدماء
مع انها تعود لقرون مضت، لكن حكمة الفلاسفة القدماء لاتزال تعمل كضوء مرشد لحياة ذات معنى. هذه الافكار ليست فقط حول السعادة، انها تقدم برامج عملية للإبحار في الوجود بهدف ومرونة وانسجام.
أرسطو: الإزدهار من خلال الفضيلة
بالنسبة لارسطو، الحياة الجيدة هي حول انجاز الازدهار او "العيش بشكل ممتاز"(ارسطو، الاخلاق النيقوماخية). خلافا للمتعة العابرة، السعي الدائم للفضيلة Eudaimonia، يخلق سمات مثل الشجاعة والحكمة والعدالة من خلال سلوك محترم. لو نتصور هناك شخص موسيقي يريد ان يصقل مهنته: الإتقان لا يتحقق بين عشية وضحاها، وانما من خلال الجهد المستمر. ونفس الشيء، يجادل ارسطو ان الحياة الجيدة تتطلب تنمية نشطة لإمكاناتنا بدلا من ملاحقة سلبية للراحة. السعادة وفق هذه الرؤية هي نتاج ثانوي للتميّز.
الايبيقورية: فن المتعة البسيطة
يقدم أبيقور منظورا مختلفا: بدلا من الكفاح لأجل الامتياز، هو يدعونا للبحث عن الهدوء عبر تقليل الألم والرغبات غير الضرورية. (أبيقور، رسالة الى مينويسيوس). خلافا لإرتباط الملذات بالحياة اليومية الابيقورية، نجد ان فلسفة ابيقور في الحقيقة هي حول الاعتدال، الصداقة، والرضا.
هو يتصور قطة تستمتع بأشعة الشمس، راضية مطمئنة وتعيش في سلام. اعتقد أبيقور ان أحسن حياة هي ليس حول الافراط وانما حول ايجاد متعة في أبسط لحظات الحياة مثل – محادثة ذات معنى، طعام ساخن، ذهن هادئ.
الرواقية: إتقان الرؤى والتحكم بالعواطف
الحياة لا يمكن التنبؤ بها، لكن الرواقية تعلّمنا انه بينما نحن لا نستطيع التحكم بالاحداث الخارجية، نحن نستطيع السيطرة على ردود فعلنا تجاهها. ماركوس ارليوس وهو احد ابرز الرواقيين كتب:
" انت لديك سلطة على ذهنك – ليس على الاحداث الخارجية. ادركْ هذا سوف تجد القوة" (التأملات).
تصوْر نفسك كملاح سفينة تبحر وسط العواصف والأمواج، لكن تركيزك يبقى على التوجّه بثبات. الرواقية تشجعنا على الانفصال عن الاشياء التي وراء سيطرتنا، وإعادة صياغة المصاعب وترسيخ الهدوء الداخلي. انها ترياق قوي للإجهاد والقلق خاصة في عالمنا الفوضوي الحالي.
البوذية: إنهاء المعاناة من خلال الذهن
اذا كانت الرواقية تعلّمنا التحكم العاطفي، فان البوذية تذهب أبعد من ذلك، ترشدنا نحو السلام الداخلي من خلال اليقظة والانفصال. الحقائق النبيلة الأربع توضح ان المعاناة (dukkha) تبرز من الالتصاق والتوق، لكن عبر احتضان مسار من ثمان شعب، نستطيع زرع الحكمة والحياة الاخلاقية والتأمل.
عندما ننظر الى بحيرة هادئة، نراها تعكس الواقع بوضوح. وبنفس الطريقة، الذهن المتحرر من الالتصاق يرى الحياة بوضوح. البوذية تذكّرنا ان السعادة ليست حول الانجازات الخارجية وانما حول إتقان عالمنا الداخلي.
الكونفوشيوسية: صقل الشخصية والانسجام الاجتماعي
اذا كان ارسطو والرواقيون يركزون على الفضيلة الفردية، فان الكونفوشيوسية تنقل الاهتمام نحو العلاقات والمسؤولية الاجتماعية. كونفوشيوس أكّد على ان الحياة الجيدة ليست فقط حول التحسن الذاتي وانما حول خلق تناغم ضمن العائلة، وفي الجماعات والمجتمعات (تعاليم كونفوشيوس).
لو تصورنا أداء رقصة مصممة بشكل جميل – كل خطوة فيها تُعتبر هامة، لكنها تعمل في تزامن مع الكل. الكونفوشيوسية تعلّمنا ان الشخصية الأخلاقية تتطور من خلال الطقوس والاحترام والعيش الاخلاقي. السعادة الحقيقية ليست فقط فردية وانما بالمشاركة.
اوبونتو Ubuntu: الانسانية نحو الآخر "انا بسبب نحن"
من الفلسفة الافريقية، نجد اوبونتو، وهو مفهوم متجذر في الايمان بان رفاهيتنا مرتبطة برفاهية الاخرين. وكما يقول زولو zulu: "الشخص هو شخص من خلال الاشخاص الاخرين" (راموس، الفلسفة الافريقية من خلال اوبونتو).
لو تصورنا تجمعاً حول موقد نار، حيث يلتقي الجميع، الدفء مشترك، القصص جماعية، والروابط تشكل هوية كل فرد. فلسفة اوبونتو تذكّرنا ان الانجاز ليس فقط حول النمو الذاتي وانما حول الارتقاء باولئك الذين حولنا. نلسون مانديلا و ديزموند توتو كلاهما تبنّيا هذه الفلسفة كمرشد للمصالحة والعدالة والارتباط الانساني.
جمع كل ما تقدّم
كل واحدة من الفلسفات أعلاه تقدم رؤية مختلفة حول معنى ان تعيش جيدا:
ارسطو يجادل في اننا نصبح أحسن الذوات من خلال الفضيلة.
ابيقور يذكرنا ان نستمتع بالمتع البسيطة ونقلل المعاناة.
الرواقية تدربنا على ضبط العواطف وردود الافعال.
البوذية تعلمنا انفصالا واعيا لنحرر انفسنا من المعاناة
الكونفوشيوسية تسلط الضوء على أهمية العلاقات والاخلاق.
يوبونتو تبيّن ان الإنجاز الحقيقي يأتي من الترابط والانسانية المشتركة.
اذاً ما هي أفضل فلسفة للحياة؟ الجواب هو ليس في فلسفة واحدة وانما في التوازن. أحسن اتجاه هو مزج الحكمة من مختلف الافكار، صياغة فلسفة فردية تتماشى مع القيم والتجارب والطموحات، الحياة المُعاشة جيدا لا تُطبق عالميا – انها خاصة بالفرد وحده.
***
حاتم حميد محسن
.....................
الهوامش
(1) وهو من أشهر اقوال سقراط التي وردت اثناء المحاكمة، وقد تعددت الترجمات للعبارة، منهم من ترجمها الى الحياة غير المفحوصة او الحياة بدون تجربة. ومن الواضح ان سقراط يقصد ان الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش، الحياة يجب ان تخضع للبحث والتجربة عن طريق التنوير الذاتي، لأن لا أحد يستطيع كشف الحقائق عن ذات الفرد الاّ هو. كل شخص ومنذ الولادة وجد نفسه ضمن معتقدات وافكار وآراء، وهو لايزال يؤمن بها دون نقاش او جدال. فعندما ينضج الفرد ويستمر في آرائه ومعتقداته القديمة دون تمحيص فهو سيبقى كالطفل حين تلقّى افكاره من عائلته او بيئته دون تغيير، لابد له اذا اراد لحياته ان تكون ذات معنى، ان يفحص ما تعلّمه ويخضعه للبحث والتأمل، وفي هذه الحاله ستكون حياته هادفة وتستحق العيش.

 

في المثقف اليوم