أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: اللغة والعوالم.. هل اللغة تصوغ الواقع؟

هناك 7000 لغة حول العالم تشكل سبعة آلاف طريقة مختلفة للتفكير بما حولنا. اللغة باعتبارها تمثيل رمزي للواقع، تشكل اطارا فريدا من الفهم والتصور للعالم الذي يحيط بنا. اليوم، كشف الدليل الآتي من اللسانيات المعرفية عن الدور المهم الذي تلعبه اللغة في صياغة أفكارنا وتصوراتنا.

ماهي النسبية اللغوية؟

النسبية اللغوية Linguistic relativity هي نظرية تزعم ان اللغة التي نتحدث بها تؤثر في الطريقة التي نفكر ونتصور بها حول العالم. وهي تسمى ايضا فرضية سابير – ورف Sapir-Whorf في النسبية اللغوية، كمصطلح جامع لمختلف النظريات التي تستطلع العلاقة بين اللغة والادراك. وفي الاتجاه المتطرف للنسبية اللغوية نجد نظرية الحتمية اللغوية التي تؤكد ان اللغة تقرر بشكل تام تفكيرنا. نظريات اخرى للنسبية اللغوية تميل للتأكيد على رؤية اكثر اعتدالا بشأن المدى الذي تؤثر فيه اللغة على تفكيرنا وتجاربنا. فكرة ان اللغة تؤثر على التفكير وُجدت قبل الصياغة الصارمة للنظرية في النقاشات الفلسفية والعلمية.

في وقت مبكر من القرن الثامن الميلادي، قال الامبراطور الروماني شارلمان charlemagne "ان تتحدث لغة ثانية يعني انك تمتلك روحا ثانية". وبينما يستمر النقاش حول مدى تأثير النظرية، لكن يبقى هناك القليل من الخلاف على ان اللغة تؤثر جوهريا على تفكيرنا بمختلف الأشكال.

كيف تطورت نظرية النسبية اللغوية؟

تطورت هذه النظرية من خلال أعمال فلاسفة اللسانيات المتميزين وعلماء الادراك. وعلى الرغم من ان البحث العلمي المنهجي في الموضوع نشأ في الخمسينات من القرن الماضي، لكن الافكار الاساسية لنظرية النسبية اللغوية تعود الى القرن التاسع عشر. الفيلسوف الالماني اللغوي فيلهلم فون هومبولتWilhelm von Humboldt كان اول مفكر يفترض بوضوح نظرية الحتمية اللغوية Linguistic determinism.

في كتابه (التباين اللغوي والتطور الفكري) جادل هومبولت بان "الانسان يعيش في العالم المحيط به بشكل أساسي، بل وحصريا كما تعرضه له اللغة"(Humboldt، 1836). وبعد مائة سنة، قام اللغوي البارز ادوارد سابير وتلميذه بنيامين لي ورف بمراجعة وتوسيع بحث هومبولت. عملهما كان مؤثرا جدا لدرجة اُطلق على نظرية النسبية اللغوية "فرضية سابير ورف".

كل من سابير وورف كانا مشككين بفكرة "العالم الواقعي" الذي يمكن ان يتعامل معه جميع الناس. طبقا لسابير، حتى أبسط أشكال التصور تُحكم بواسطة العادات اللغوية للجماعة، والتي بدورها تقدم خيارات معينة للتفسير. وبهذا فان كل لغة تمثل واقعا اجتماعيا متميزا وتشكل طريقة محددة للتعامل مع العالم. في عمله (مكانة اللغويات كعلم) جادل سابير بان "العوالم التي تعيش بها مختلف المجتمعات هي عوالم متميزة، ليست مجرد تسميات مختلفة لنفس العالم"(sapir، 1929).

بالاضافة الى ذلك، جادل ورف ان العالم المُدرك بالحواس هو تدفق مستمر للانطباعات التي نحللها وننظمها ذهنيا باستعمال اللغة. الأشكال المحددة من تنظيم وتفسير للبيانات من العالم الظاهري يتم تشفيرها في الأنظمة اللغوية لأذهاننا. وبهذا فان اللغة هي اتفاق اجتماعي ضمني ضمن الجماعة لإدراك او(تفسير) العالم بنفس الطريقة. فمثلا، عبر التحدث بالانجليزية، انت توافق على الاحتكاك بالعالم من خلال نماذج متأصلة في اللغة الانجليزية. لاحظ ورف في العلوم واللغويات، ان "كل المراقبين لم ينقادوا بنفس الدليل المادي لنفس صورة الكون"(Whorf، 1940).

هل هناك دليل تجريبي على النسبية اللغوية؟

أعداد هائلة من الدراسات أنتجت دليلا ميدانيا لنظرية النسبية اللغوية. العلماء رفضوا في البداية فرضية سابير- ورف مفضلين العالمية universalism – وهي النظرية القائلة بان اللغة والفكر متشابهان أصلاً في جميع الثقافات. في العقود الماضية، برز عدد متزايد من الأدلة الميدانية تدعم الادّعاءات في النسبية اللغوية. الباحثون في حقل اللغويات الإدراكية باشروا سلسلة من الدراسات حول الاختلافات ما بين الثقافات في الإدراك ووجدوا ان اللغة تؤثر على القدرات المعرفية الأساسية في الكائن البشري.

ليرا بوروديتسكي Lera Boroditsky كانت من أبرز الباحثين والتي أجرت (دراسة حالة) حول لغة كوك ثورو Kuuk Thaayorre التي يتم التخاطب بها في بعض مناطق استراليا. المتحدثون يستعملون الاتجاهات الاساسية (مثل شرق، غرب، شمال، جنوب) بدلا من كلمات مكانية نسبية مثل يسار ويمين. فمثلا، هم يقولون ان الملعقة جنوب غرب السكين. الاتجاهات الاساسية هي جزء مكمل للغتهم اليومية.

بوروديتسكي وجدت ان جميع المتحدثين بلغة كوك ثورو لديهم قدرات استثنائية ليبقوا موجّهين مكانيا في كل الاوقات والاماكن بطريقة لم يعتقد العلماء انها ممكنة بشريا. هي اوضحت ان لغتهم درّبت وطوّرت هذه المهارة المعرفية المهملة.

العديد من الدراسات حول فهم الوقت، القوة، السببية، اللون؟، وحتى النوع الاجتماعي، كانت صدى لإستنتاج بوروديتسكي: "اللغة تلعب دورا سببيا في صياغة التفكير" (بوروديتسكي، 2011). كل لغة توفر أدوات معرفية متفردة وتشكل طريقة مختلفة في تصوّر وفهم العالم.

السؤال هو: من بين 7000 لغة يتم التحدث بها حاليا، ماهي اللغة التي يحب المرء ان يرى بها هذا العالم؟

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم