أقلام فكرية

من نصوص الفلاسفة.. دفاعا عن منزلة الفلسفة وضرورة تعلّيمها

ترجمة وتعليق: عبد الوهاب البراهمي

(فالفلسفة؟ قال: كلام مترجم، وعلم مرجم، بعيد مداه، قليل جدواه، مخوف على صاحبه سطوة الملوك وعداوة العامة)... الجاحظ (أورده الثعالبي في اللطائف والظرائف)

"إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً غرقوا به فماتوا" ابن رشد " فصل المقال .."

مدرسة أثينا - رافائييل

"لا ينحت الخطاب الفلسفي تماثيل جامدة، بل يريد أن يجعل ممّا يلامسه، شيئا نشطا فعّالا وحيّا ؛ إنّه يستثير زخما حركيا، وأحكاما لأفعال نافعة واختيارات لصالح الخير ".

بليتارخوس (Plutarque).

"جاء (ماندرات دي بريين) احد تلاميذ طاليس يوما إلى معلّمه وسأله:" أي مكافأة تريد، معلمّي، كي أعبّر لك بها عن امتناني لكل التعاليم الحسنة التي أدين لك بها؟" فأجابه:" حينما تتاح لك الفرصة لتعليم تلاميذ آخرين، عرّفهم بأنّي أنا صاحب هذا المذهب؛ فسيكون ذلك بالنسبة إليك تواضعا جديرا بالثناء، وبالنسبة إليّ، مكافأة ثمينة".

***

"ما هي المنزلة التي يحتلها الفيلسوف في المدينة؟ ستكون منزلة نحات، ينحت البشر، منزلة صانع يصنع مواطنين صالحين ومحترمين . لن يكون له إذن من مهنة، سوى تطهير نفسه وتطهير الآخرين كي يحيوا الحياة المتوافقة مع الطبيعة، تلك التي تلاؤم الإنسان. سيكون أبا مشتركا وبيداغوجيا لكل المواطنين، مُصلحهم ومرشدهم وحاميهم، يهب نفسه للجميع حتى يشارك في استكمال كل خير، فرحا مع أولئك الذين تغمرهم السعادة، متعاطفا مع أولئك الذين أصابهم الحزن ومواسيا لهم ".

" إيبكتات " الدليل المختصر" 32- سطر 154 نشر " هادو"، لايد، بريل 1996.

***

" ليس الفيلسوف وحيدا، فهو لا ينفصل عن تلاميذه وعن أتباعه وخصومه. وهو لا يتوصّل إلى الأشكال المكتوبة والقارّة لعمله إلاّ في نهاية السّباق. نحن في النهاية إزاء مسرح أكثر منه مقالة، وإزاء حوارات أكثر منه مناجاة وإلى درس أكثر منه كتابا. إنّ النموذج البدهي هو سقراط وأفلاطون، اللذان استطاعا أن يضمنا للفلسفة، بتأسيسها كحقل معرفيّ، وجوب أن تشيّد في أيّ مكان، في المتعدّد من العالم. نعم، تقريظ الفلسفة بوصفها إبداعا عموميّا لفكرٍ، بابتكاره نفسه وانتقاله إلى أيّ مكان، متحدّثا إلى أيّ كان عنّ أيّ شيء مشتغل عليه من جديد، يبتكر مَسْرَحَةَ الكائن، بما هو كائن." آلان باديو (تمهيد كتاب" تقريظ الفلسفة ") .

***

* لن يكون للفلسفة من شرعية ولا نفع ولا حتّى وجود خارج مجرّد المحافظة على شبه البقاء

الجامعي الأكاديمي، إن هي اكتفت بأن تكون محض تمرين لا طائل من وراءه للتفكير النرجسي

في ذاتها، تطرح استنادا إلى ذاتها المواضيع التابعة لتراثها الخاص، تلوكها وتجترّها بكيفيّة

غير محدودة". هابرماس "لم تصلح الفلسفة ؟" ملامح فلسفية وسياسية.

مقدّمة المترجم:

يقول برتراند رسّل بأنّ " الفلسفة لا تستطيع أن تبرّر مشروعية وجودها وقيمتها بالنسبة إلى الآخرين، وفق منطق النفع والمصلحة "، فليس لها من مشروعية سوى ما يخصّها كقول، كمعقولية مخصوصة، مشروعية داخلية بوصفها تفكيرا أو بالأحرى "استخداما شخصيا للعقل" أي حرّا يستخدم الشك والنقد والتساؤل ... في مواجهة ما يوجد. ولأنه كذلك، فمن العسير أن يقنع " الآخرين" بقيمته، بالرغم من انشغاله بوضع البشر أساسا، بالإنسان موضوعه المميّز والممتاز. من هنا فليس من الغريب أن يكون للفلسفة أعداءها وخصومها وهي التي لا تكفّ عن أن تكون " تفكيرا نقديا" في مواجهة واقع " اضطهاد البشر واستعبادهم "، تسعى إلى فضحه وكشف آلياته وصور إمكان التحرر منه . الأمر الذي يجعلها في خصومة دائمة مع " النظام القائم"، مع كلّ أشكال الهيمنة على البشر تدافع عنهم وتدافع عن وجودها من أجلها و أجلهم باعتبارها " أفقا " لخلاصهم بالرغم من علاقتهم الصعبة بينها وبينهم. ولعلّ ما تعيشه الفلسفة اليوم داخل " المؤسسة التعليمية" وخارجها وما تتعرّض له من تبخيس لبضاعتها، وسعي إلى إقصائها بدعوى " لاجدواها"... شاهد على ذلك. ولأنّ هذا" الوضع الصعب"كان دوما من قبل وإلى يوم الناس هذا من صنع " أعدائها" وهم كثير ومن كل صوب، ولأنه في جانب منه ناتج عن سوء فهم " للفلسفة لمعناها ودورها ومهمة تعليمها للناشئة ..."(والمرء عدوّ ما يجهل)، نسوق هذه النصوص إلى القارئ، نصوصا لفلاسفة يشهدوا على حقيقة قيمة الفلسفة، وهم منتحلوها وصناعها، وعلى ضرورة وجودها وضرورة تعليمها مقوما من مقومات التمدّن. ذلك وانه مثلما قال ديكارت " يقاس تمدن شعب بمقدار شيوع التفلسف فيه" .قاصدين بذلك المساهمة في تصويب آراء الناس عنها وإدراك منزلتها الحقيقية وحاجتهم الملحّة إليها.

" تقريظ الفلسفة"

شيشرون

" الفلسفة، هي وحدها القادرة على أن توجّهنا! أنتِ من يعلّمنا الفضيلة ويُخضع الشرّ ! ماذا سنفعل، وكيف سنَضْحَى من دون مساعدتك؟ أنت من يُنْشأ المدن، كي يعيش الناس في مجتمع، بعد أن كانوا شتاتا. أنت من يوحّدهم، أوّلا بقرب المُقَام، ثمّ بروابط الزواج، وأخيرا بالخضوع للغة والكتابة. اخترعتِ القوانين، وكوّنت الآداب وأسّست الشرطة. ستكونين ملاذنا؛ ولعونك سوف نلجأ؛ وإذا ما كنّا قد اكتفينا في أوقات أخرى بإتباع بعض دروسك، فنحن اليوم ننقاد لك كلك ودون تحفّظ..

إنّ يوما واحدا ننقاد فيه لتعاليمك هو أفضل من الخلود لأيّ شخص يبتعد عنها. أيّ قوّة أخرى نناشد غير قوّتك، تلك التي وهبتنا سكينة الحياة، وطمأنَتْنَا بشأن الخوف من الموت؟ ومع ذلك، فنحن أبعد عن أن نعطي للفلسفة التقدير الذي تستحقّ. لا يأبه لها كلّ الناس تقريبا: وكثير منهم يهاجمها حتّى. نُهاجم من نَدِين له بالحياة، من ذا الذي يتجرّأ على أن يلوّث يديه بجريمة قتل الآباء؟ هل بلغنا من النكران للجميل حدّا نُهِين فيه معلّمًا، وَجَبَ علينا على الأقلّ احترامه، حتى لو لم نكن قادرين على فهم دروسه؟ أعزو هذه العداوة إلى عدم استطاعة الجهلة، من خلال الظلمات التي تعمي أبصارهم، الرجوع إلى أقدم الأزمنة، كي يروا فيها أن أوّل من شيّد المجتمعات البشرية كانوا فلاسفة. أمّا عن الاسم، فهو حديث، لكن بالنسبة إلى الشيء نفسه، فنحن نرى أنّه قديم جدّا".   شيشرون "الأعمال الكاملة، الكتاب الخامس "عن الفضيلة".

- ابن رشد: ضرورة النظر العقلي

" إذا تقرّر أنّ الشّرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.

وبيّن أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحثّ عليه، هو أتمّ أنواع النظر بأتمّ أنواع القياس، وهو المسمّى برهانا...

وإذا كان هذا هكذا، فقد وجب علينا إن ألفينا لمن تقدّم من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم. فما كان منها موافقا للحقّ قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه . وما كان غير موافق للحقّ نبهنا عليه وحذّرنا منه وعذرناهم .

... فنقول إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها. وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكأن الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع، وإما مندوب إليه....

....إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً غرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالغرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري." ابن رشد " فصل المقال فيما بين الحكمة و الشريعة من اتصال". ص23-24-25-26 دار المعارف مصر دراسة وتحقيق محمد عمارة - الطبعة الثالثة.

- كانط: وفق أيّ منهج يجب أن تدرّس الفلسفة؟

" بما أنها (أي الفلسفة) ليست في الحقيقة انشغالا للراشد، فليس من الغريب أن َتقوم صعوبات حينما نريد مواجهتها بالكفاءة الأقلّ ممارسة للشباب. فالطالب الذي قد فارق التعليم المدرسي كان معتادا على التعلّم . و يعتقد الآن بأنه سيتعلّم الفلسفة، وهو ما يستحيل مع ذلك إذ عليه من الآن فصاعدا أن يتعلّم التفلسف. وسأوضّح ما أقول أكثر: يمكن لكل العلوم التي بإمكاننا تعلّمها حرفيا أن تردّ إلى جنسين: العلوم التاريخية والرياضية . تنتمي إلى الأولى (التاريخية) بخلاف التاريخ تحديدا، وصف الطبيعة والفلسفة والحق الوضعي الخ. بيد ان التجربة الشخصية أو الشهادة الخارجية تمثّل، في كل ما تاريخي،، - وفي كل ما هو رياضي، شيئا معطى في الواقع والذي هو بالتالي كسب وليس له إذن إلاّ أن يقع استيعابه: فهو إذن ممكن حال تعلّم هذا أو تلك، أي أن يرسّخ إمّا في الذاكرة أو الفهم، ما يمكن أن يقدّم بوصفه تخصّصا مكتملا بعدُ. إذن ولكي يمكننا تعلّم الفلسفة، وجب أوّلا أن تكون موجودة فعلا بما هي كذلك. يمكننا تقديم كتاب، والقول:" انظروا، هذا من العلم و المعارف الموثوقة ؛ تعلمّوا فهمه وحفظه، وابنوا فيما بعد عليه وستكونوا فلاسفة": حتى يُقدّم لي كتاب ما لفيلسوف، أستطيع أن أعتمد عليه تقريبا مثل بوليب، لعرض حدث تاريخي، أو اوقليدس لتفسير قضية هندسية، وان يسمح لي بالقول بأننا نسيء لثقة الجمهور حينما، بدل توسيع كفاءة الذهنية للشباب الذين هم في أمانتنا، وتكوينها بغرض إكسابهم معرفة شخصية مستقبلية، في نضجها، فنحن نخدعهم بفلسفة يزعم أنها مكتملة، والتي قد وقع تخيلها لهم من آخرين، والتي يخلص منها علم وهمي، ليس له قيمة إلاّ في مواضع معينة ولدى بعض الناس، لكنها لا تتداول في مواضع أخرى لفقدانها أي قيمة.

إنّ المنهج المخصوص للتعليم في الفلسفة هوبحثي zététique، مثلما يسميه بعض القدماء (من zétein أي بحث)، بمعنى هو منهج البحث، وربما لا يكون دغمائيا في بعض المجالات إلا في استخدام عمومي، أي منهجا تقريريا . فلا يجب على المُؤلِّف الفلسفي الذي يُستند إليه في التعليم أن يعتبر بالمرة نموذجا للحكم، بل بوصفه فحسب مناسبة للحكم على الذات استنادا إليه، ويكون منهج التفكير والاستدلال الشخصي هو المنهج الذي يسعى الطالب بالأساس إلى اكتسابه".

(كانط، إعلان عن برنامج دروس منتصف الفصل الدراسي شتاء 1765-1766 ترجمة ميشيل فيشان، فران، 1973ن ص 69-70).

- هيجل: بيداغوجيا تعلّم الفلسفة

" إنّ التمشي المجسّد في الاستئناس بفلسفة غنيّة في محتواها ليس شيئا آخر سوى التعلّم. يجب على الفلسفة بالضرورة أن تدرّس وتُتعلّم، إضافة إلى كلّ علم آخر. إنّ البائس المتأكّل الذي يدعو إلى التربية بغرض التفكير بأنفسنا وبإنتاج الخاص، يكون قد قذف بهذه الحقيقة إلى الظلمة- كما لو، حينما أتعلم ما هو الجوهر، والعلّة أو أي شيء آخر، لا أفكّر بنفسي، كما لو لا أنتج بنفسي هذه التحديدات في فكري، كما لو قذف بها فيه مثل حجر!- كما لو، أيضا حينما أحدّد حقيقتها، لا اكتسب بنفسي هذا التحديد، ولا أقنع نفسي بنفسي بهذه الحقائق!- كما لو، إذا ما عرفت جيدا يوما ما نظرية فيثاغورس وبرهانها، فلن أعرف بنفسي هذه القضية ولا أبرهن بنفسي حتّى على حقيقتها!، وبالمثل فإن الدراسة الفلسفية هي في ذاتها نشاطا شخصيا، في نفس الوقت الذي هي فيه تعلّم- تعلّم علم موجود بعدُ، مُكوّن. إنّ هذا العلم هو كنز يتضمن محتوى مكتسب، مبنيّ تماما، مشكّل؛ يجب على هذه المادة الموروثة الموجودة بعدُ أن تكتسب من الفرد، أي أن تُتعلّم. المعلّم يملك هذا المحتوى، ويفكّر فيه أوّلا والتلاميذ بعد ذلك . تتضمن العلوم الفلسفية، في موضوعاتها، الأفكار الكونية الحقيقيّة ؛ وهي ثمرة إنتاج عمل العباقرة المفكّرين لكلّ الأزمنة. و تتخطّى هذه الأفكار الحقيقيّة ما يتوصّل إلى إنتاجه بفكره شاب غير مثقف، بقدر ما يتجاوز هذا الكم من الجهد العبقريّ جهد مثل هذا الشابّ . إنّ التمثّل الأصلي، والخاص الذي يملكه الشباب عن موضوعات جوهرية هو من جهة، ما يزال فقيرا وفارغا، ومن جهة أخرى ليس في جانب كبير منه، سوى رأيا ووهما، ونصف فكرة وفكر أعرج غير محدّد. وبفضل التعلّم تحلّ الحقيقة محلّ هذا الفكر الذي يتوهّم".

هيجل . رسالة إلى نيثامر بتاريخ 23 أكتوبر1812، ضمن نصوص بيداغوجية، فران 1990 ص142-143.

- نيتشه: منزلة مدرّس الفلسفة في المجال العمومي

(...) تختار الدولة بنفسها من يخدمها من الفلاسفة وتنتدب منهم قدر ما تحتاج لمؤسساتها: فتعطي الانطباع إذن بأنّها تعرف التفريق بين الحسن والسيئ من الفلاسفة، بل أكثر من ذلك إنها تفترض أنّه يجب أن يوجد ما يكفي من الفلاسفة الجيّدين كي تشغل كَراسي التدريس. (...) وتلزم أولئك الذين اختاروا الإقامة في مكان محدّد، وفي بيئة محدّدة، بأن يمارسوا فيه نشاطا محدّدا: أن يدرّسوا، كلّ يوم، في وقت محدّد، كل الطلبة الذين يرغبون في سماعهم . وإني لأسأل: هل يمكن لفيلسوف أن يلتزم عن طيبة خاطر بأن يكون له شيئا ما يدرّسه كلّ يوم ؟ وأن يدرّسه لكلّ من يريد سماعه ؟ ألا يكون مكرها على الكلام أمام حضور مجهول عن أشياء لا يمكن له الحديث عنها دون مخاطر إلاّ أمام أكثر أصدقاءه حميميّة ؟ ثمّ، ألا يتخلّى، في النهاية هكذا، عن حريّته مصدر فخره، حريّة الانقياد لعبقريته حينما تدعوه، وإتباعها إلى حيث ما تريد؟- وذلك بموجب أنّه مدعوّ إلى أن يفكّر عموميا، في ساعات محدّدة مسبقا في أشياء مقرّرة مسبقا ؟ وإذا ما شعر يوما ما بأنّه لا يمكن له يومها أن يفكّر في شيء، وأنّه لا يستحضر أيّ فكرة في ذهنه- و كان عليه مع ذلك، أن يسجّل حضوره ويتظاهر بالتفكير؟

ولكن، قد يعترض عليّ، بأنّ المدرّس ليس محمولا على التفكير، وبخاصة على التفكير في فكر إنسان آخر، أو إثراءه؛ عليه أن يكون قبل كل شيء راسخ المعرفة بكل المفكّرين السابقين، فسيحسن القول فيهم بشيء يجهله تلاميذه.(...) غير أنّ المعرفة الراسخة بماضي التاريخ لم يكن أبدا شأن الفيلسوف الحقيقيّ، لا في الهند ولا في اليونان؛ ولو اضطلع أستاذ فلسفة بهذا العمل، فهو ملزم بتحمّل ما يقال عنه بأنّه " فيلولوجي جيّد، وعالم آثار جيد وألسني جيّد ومؤرّخ جيد "، ولكنّه ليس " فيلسوفا جيّدا" بالمرّة. (...) وفي النهاية أيّ شيء في تاريخ الفلسفة قد يعني شبابنا؟ هل نريد أن نثنيهم عن أن يكون لهم رأي شخصي بأن نظهر لهم التكدّس الغامض لكلّ الآراء؟ هل نريد أن نعلّمهم أن ينضمّوا إلى جوقة المهللّين على شرف الأشياء الجميلة التي صنعناها؟ هل نريد أن يتعلمّوا كره الفلسفة وازدراءها ؟ (...) فنحن لم ندرس يوما نفس المنهج النقدي، و الشيء الوحيد الثابت، والذي يمكن أن نطبّقه على فلسفة، يتمثّل في التساؤل إذا ما كان بإمكاننا أن نعيش وفق مبادئها؛ نحن لا ندرس سوى نقد الكلمات بالكلمات. والآن ونحن نتمثّل روحا يافعة، دون خبرة كبيرة في الحياة، قد حُبس فيها خليط جنبا إلى جنب من خمسين نقد لنفس هذه الأنساق- أيّ فوضى، وأي ّ بربرية، وأيّ سخرية بالنسبة إلى أيّ تربية فلسفية! " (نيتشه، شوبنهاور مربّيا) .

- ميشيل فوكو: واقع تدريس الفلسفة ودور مدرّسيها*

"إنّ الفلسفة هي هنا في نهاية التعليم الثانوي من أجل أن تحقّق لمن استفادوا منها، الوعي بأنّ لهم الحقّ من هنا فصاعدا في رؤية الأشياء في مجموعها . نقول لهم:” لا، أنا (بوصفي مدرسا للفلسفة) لا أعلمك شيئا: ليست الفلسفة علما إنما هي تفكير، طريقة في التفكير، تسمح بوضع كل شيء موضع السؤال ومجابهته. لقد آمنتم طيلة خمس أو ستّ سنوات بجمال “إيفيجينيا” وبانقسام الخلايا الجنسية و” الإقلاع الاقتصادي économique take off ” لأنقلترا البورجوازية . كل هذه المعرفة ها أنتم أمام حقّ فحصها من جديد – لا في دقتها، بل في حدودها، وفي أسسها وأصولها. وما ستحصلونه من معرفة، حينما تصبحون أطباء ومديري تسويق أو كيميائيين، فلابدّ أن تخضعوه لنفس المَحْكمة . أنتم تتجهون إلى أن تكونوا مواطنين أحرار في جمهورية المعرفة ؛ لكم أن تمارسوا حقوقكم. ولكن بشرط: أن تستخدموا فكركم وفكركم فقط. أن تفكّروا أي أن يكون لكم حسّ سليم مؤيّد قليلا، وحكم نزيه يستمع إلى المع والضدّ، وفي النهاية حريّة. لأجل ذلك، يواصل الأستاذ، قائلا، وبغضّ النظر عن حَرْفِية برنامج لا يلزمنا تماما، سأحاول أن أعلّمكم الحكم بحريّة . الحرية والحكم- ذاك ما سيكون شكل خطابنا ؛ وهو إذن ما سيكون عليه بالطبع محتواه: فزميلي في القسم المحاذي، وهو الستيني، سيؤكّد على الحكم بالرجوع إلى آلان. بينما أريد أن أتكلّم عن الحرية خاصّة – وعن سارتر لأنّني أربعيني . لكن لا أنتم ولا رفاقكم خارجا سيخسرون في المشاركة . فسارتر و آلان، هما قسم الفلسفة وقد أصبح فكرا.”

* تعرفون أنه لا توجد الفلسفة. وما يوجد هم " فلاسفة"، أي صنف من البشر أنشطتهم وخطاباتهم تغيّرت كثيرا من مرحلة إلى أخرى. وما يميّزهم مثل جيرانهم الشعراء والمجانين هو أن التقاسم هو الذي يعزلهم وليست وحدة الجنس أو استمرارية المرض.

فهم لم يصيروا فلاسفة إلاّ منذ وقت وقصير، ربّما هي مرحلة، وربّما لن نظلّ طويلا. وعلى أيّ حال فإنّ اندماج الفيلسوف في الجامعة لم يحدث بنفس الطريقة في فرنسا و في ألمانيا. ففي ألمانيا كان الفيلسوف مرتبطا، منذ عصر فيخته وهيجل بمؤسّسة الدولة: من هنا كان معنى هذه المهمّة العميقة، ومن هنا، هذه " الجدية لـ" موظّفي التاريخ" fonctionnaires de l'histoire، ومن هنا، هذا الدور الذي لعبوه من هيجل إلى نيتشه، للناطق باسم، القادح للدولة invectiveur de l'état.

أما في فرنسا، فقد كان أستاذ الفلسفة مرتبطا بأكثر احتشام (بصورة مباشرة في المعاهد، وبصورة غير مباشرة في الكليات) بالتعليم العمومي، بالوعي الاجتماعي بشكل محسوب بدقّة من " حرية التفكير"، ولنقل، حتى نكون صرحاء: بالمؤسسة التقدمية للاقتراع المباشر. من هنا، كان هذا الأسلوب للمدير، أو الرقيب، ومن هنا دور المدافع عن الحريات الفردية وتقييد الأفكار، الذين يفضلون لعبه؛ ومن هنا كان ميلهم إلى الصحافة، وانشغالهم بالتعريف بأفكارهم وحرصهم الشديد على الإجابة في المحادثات.

....على أيّ حال، نفهم أنّه، مع الدور الذي أرادوه (أي أساتذة الفلسفة)، فإنّه يجب أن يكون ما يدرسونه فلسفة للوعي، و الحكم والحرية. ويجب أن تكون فلسفة تحافظ على حقوق الذات أمام كلّ معرفة ـ وتفوّق كل ّ وعي فردي على كلّ سياسة. بيد انّه، وتحت تأثير التطوّرات الأخيرة، ظهرت مشكلات جديدة: ليست بالمرّة ما هي حدود المعرفة (أو أسسها)، بل من هم العارفون؟ كيف يحدث تملك المعرفة وتوزيعها؟ كيف تحتلّ معرفة ما موقعها في المجتمع، وتتطوّر داخله، وتحشد مصادرها وتكون في خدمة اقتصاد؟ كيف تتكوّن المعرفة في مجتمع وكيف تتحوّل داخله؟ من هنا كانت سلسلتان من الأسئلة: بعضها نظري حول العلاقات بين المعرفة والسياسة، وبعضها الآخر، أكثر نقدية، حول ما هي الجامعة (الكليات والمعاهد)من حيث فضاء في الظاهر محايد حيث يفترض توزيع معرفة موضوعية بإنصاف .وإذا ما كانت هذه الأسئلة قد طرحت في قسم الفلسفة، فمن الواضح أن وظيفتها التقليدية لابد أن تتغيّر جذريّا. لقد تصنع السيد قيشار الدفاع عن الفلسفة ضدّ اندساس طلبة لم يكونوا قد كوّنوا للتعليم، وفي الواقع فهو يحمي شغل قسم الفلسفة القديم ضدّ طريقة في طرح الأسئلة تجعلها مستحيلة.

من محادثة مع ميشيل فوكو (حَاَدَثُه باتريك لوريو ” نوفال ابسارفاتور” فيفري 1970).

* نص من محادثة جاءت في سياق قرار وزاري (فيفري 1970) بحذف قسم الفلسفة من جامعة " فانسان" حيث يشغل فوكور ئيس خطة رئيس قسم الفلسفة فيها. (المترجم).

- فوكو: معنى الفلسفة اليوم

"ماذا تعني إذن الفلسفة اليوم- أعني النشاط الفلسفي - إذا لم يكن فعل نقد الذات لذاتها؟ وإذا لم يتمثّل، بدل تشريع ما نعرف بعدُ، في الانصراف إلى معرفة كيف وإلى أي حدّ يكون ممكنا التفكير على نحو آخر؟ يوجد دوما في الخطاب الفلسفي شيء ما سخيف، حينما يريد هذا الخطاب، من خارج، أن يملي القانون على الخطابات الأخرى، وأن يقول لها أين تكمن حقيقتها، وكيف تعثر عليها، أو حينما يظهر بمظهر الحازم في دراسة قضيتها في وضعية ساذجة ؛ غير أنّ هذا حقّه في استكشاف ما يمكن أن يتغيّر، في فكره بالذات، بالتمرين الذي يجريه على معرفة غريبة عنه. إنّ " المحاولة" التي يجب أن تُفهم بوصفها دليلَ تغيير الذات لذاتها في لعبة الحقيقة لا بوصفها تملّكا تبسيطيا للآخرين، لغايات تواصلية - هو الجسد الحيّ للفلسفة، لو ظلّت هذه على الأقلّ إلى الآن على ما كانت عليه من قبل، أي " تزهّدا" ascèse، تمرينا للذات في الفكر. "

فوكو" تاريخ الجنسانية ج 2 - استخدام المتع -غاليمار 1984 ص14-15

- جيل دولوز: صورة الفيلسوف

" إنّ صورة الفيلسوف هي أيضا أقدم الصور . إنّها صورة المفكّر الماقبل -سقراطي،" الفيزيولوجي" والفنان والمؤّول والمقيّم للعالم.. كيف نفهم التقارب بين المستقبل والماضي؟ إنّ فيلسوف المستقبل هو المستكشف للعوالم القديمة، للقمم والكهوف، والذي لا يَخْلُقُ إلاّ من حيث يتذكّر شيئا قد نُسي بالأساس.

ليكن هذا الشيء، حسب نيتشه، هو وحدة الحياة والفكر. هي وحدة مركّبة: خطوة من أجل الحياة، وخطوة من أجل التفكير . تُلْهِمُ أنماط الحياة طرائق التفكير. و تَخْلُقُ أنماطُ التفكير أنماطَ الحياة. وتُنَشِّط الحياةُ الفكرَ و يؤكّد الفكرُ بدوره الحياةَ. ليس لدينا أدنى فكرة عن هذه الوحدة الماقبل- سقراطية. فليس لنا الآن سوى حالات حيث يُلْجِمُ الفِكْرُ ويبْتُرُ الحياةَ، بجعلها بلا معنى، وحيث تنتقم الحياة لنفسها وتجعل الفكرَ مجنونا، يضلّ الطريق.

ليس لنا الآن سوى أن نختار ما بين حيوات تافهة وبين مفكّرين مجانين . حيوات منصاعة كثيرا للمفكّرين و أفكارٍ كثيرة الجنون للأحياء: إيمانيول كانط وفريديريك هولدرلين.

لكن تظلّ الوحدة الدقيقة التي يكف الجنون فيها عن أن يكون كذلك، شيئا علينا اكتشافه- وحدة تحوّل قصّة الحياة إلى قول مأثور للفكر، وتقييمَ الفكرِ إلى منظورٍ جديد للحياة".

" جيل دولوز "محض محايثة" 2002 " 66ف. Pure Immanence (2002) p. 66f)

- أندريه كونت سبونفيل: معنى التفلسف.

التفلسف هو التفكير أبعد ممّا نعرف؛ هو أن نطرح على أنفسنا أسئلة لا يمكن لأيّ علم أن يجيب عنها. مثلا:" لماذا يوجد شيء بدل لاشيء؟"، "هل يوجد الإله؟"، " ماذا يمكنني أن أعرف؟"، " ماذا يجب عليّ أن أفعل؟"، " ما العدالة؟"، " ما السعادة؟"، " كيف ندركها؟"...أو أن نطرح أيضا هذا السؤال الذي يلخّص كل الأسئلة الأخرى:" كيف نحيا؟" ولكن ما الفائدة من أن نطرح على أنفسنا أسئلة، إذا لم يكن إلا من أجل أن لا نجيب عنها؟ وعلى خلاف ما نعتقد أحيانا، يجيب الفلاسفة عن الأسئلة التي يطرحونها، و هذه الأجوبة هي التي تكوّن فلسفتهم. من هنا تظهر الحاجة إلى الثقافة بأكثر وضوح. يمكن لطفل مثلا أن يطرح أسئلة فلسفية، تقريبا مثلما يكتب السيد جوردان نثرا. لكن أجوبته، إذا ما وجدت، ستكون تقريبا لا محالة ساذجة، بالمعنى السلبي للكلمة، لا بل فعلا حمقاء، سطحيّة أو غير متناسقة. التفلسف، نتعلّمه! كيف؟ بالاحتكاك بالفلاسفة الكبار السابقين. يقول مالرو:" في المتاحف نتعلّم الرّسم" . وفي كتب الفلسفة نتعلّم التفلسف.

...والتفلسف هو البحث عن أجوبة عن الأسئلة الجوهرية التي نطرحها على أنفسنا. نحن في حاجة إذن إلى التفلسف بقدر ما يقلّ إيماننا بالأجوبة الجاهزة . وهذا ما يفسّر ما نسمّيه، منذ عدّة سنوات،" عودة الفلسفة" . أمام انهيار الأجوبة الجاهزة التي تحملها الأديان الكبرى (وبالخصوص المسيحية في بلدنا) و الايديولوجيات الكبرى (لنُفَكِّر في ثقل الماركسية، في فرنسا في السنوات 50أو 60)، يحسّ معاصرونا بشيء من الضياع. وبما أنهم قد انتهوا إلى فهم أنّ العلوم الإنسانية، مهما كانت جدارتها، لا تجيب عن السؤال:" كيف نحيا؟" (لا تقوم مقام الميتافيزيقا ولا الإيتيقا)، فهم يبحثون عن أجوبتهم الخاصّة عن الأسئلة التي يطرحونها على أنفسهم. وهذا ما يسمّى تفلسفا، وسرعان ما يكتشفون، على هذا الطريق، عددا معينا من الكتاب يمكن أن يرشدوهم وينيرون سبيلهم ويرافقوهم..   من حوار مع: أندري كونت سبونفيل- حاورته: كارولين راكابي

مجلة "لوبوان:LePointعدد2 جويلية-سبتمبر2010ص6--13

- ميشيل أونفري: نحو فلسفة خارج التقليد

" وجب على الفلسفة أن تعود إلى الشارع وتخرج إلى الناس حيث تنتمي، وحيث كانت تنتمي في العصور القديمة. لاحظ كيف تزدحم أعمال افلاطون بالناس، السمّاكين، الاسكافيين، المومسات المارات الخ. الفلسفة لا تخص مشرعين يقرأون الكتب المعينة ويتفلسفون خلال وقت دوامهم. أن تكون فيلسوفا يعني أن تتفلسف طوال الوقت: هذا هو التقليد الأنتيكي الذي أود العودة إليه والذي للأسف أخذ في التلاشي بعد صعود المسيحية. يجب القول إنني لا أعتبر أن المسيح كان شخصية تاريخية على الاطلاق- المسيح هو شخصية تبلورت في خيال الإنجيليين الذين لم يعرف كتّابها يوما المسيح، وبهذا خنق آباء الكنيسة الفلسفة التي دارت حول لحم هذا الشخص ودمه فصارت تمرينا وبحثا مجنونا في تفاصيل عجيبة، حيث تأتى عليهم إثبات تلك العجائب مثل الثالوث، القيامة والولادات العذرية. هكذا نحصل على ما يزيد عن عشرة قرون من الفلسفة رُسمت انطلاقا من الرغبة في إضفاء الشرعية على شيء لا يمكن إقراره. فلسفة الجامعات التي نعرفها هي تطوير لتقليد علم المسيحية لذا عندما تتحدث عن فيلسوف فرنسي- النظرية الفرنسية كما يقول الأمريكيون، وأعني فلاسفة مثل دولوز، غاتاري، ديريدا وليوتار الخ – فذلك له علاقة بأصحاب التنويم المغناطيسي تماما. مازلت أبحث عن زميل لي في الفلسفة او أي شخص آخر يمكنه أن يشرح لي مؤلف دولوز «آنتي أوديبوس/أوديب المضاد/الضد أوديب» . كتب فوكو عن الجنون انطلاقا من قراءاته في الأرشيف فهو لم يعرف حقيقة المجانين وواقعهم. وفي عودة أبعد إلى الوراء لدينا سارتر الذي أراد أن يحشد عمال السيارات في بيلانكور، لكن لا أحد منهم فهم ما قال هذا «المثقف الذكي صاحب النظارات» الذي لم يختلط يوما في حياته بعمال حقيقيين. إنه ليس التفكير، بل تمارين التكرار المستغلقة التي تعيد استخدام ذات الطروحات القديمة. أريد عوضا عن ذلك توفير هذه المدرسية، والتقليل من شأن النقاش بأجمله المليء بالمصطلحات الضمنية والثقيلة. لهذا أسعى في فلسفتي التاريخية القبض على التفكير الفلسفي الذي قام خارج هذا التقليد وعاداه."

ميشال أونفري ترجمة: دنى غالي (نظرات فلسفية).

***

 

في المثقف اليوم