قراءات نقدية

ناظم القريشي: الذي رآه الحلم.. تأملات في قصيدة "حيرة"

للشاعر مبارك وساط

حين تحلم اللغة، تولد "حيْرة" - قصيدة لا تُقرأ كلمات، بل تُعاش كحلم ينبض في الظلال والضوء، حيث تتبدّد الحدود بين المعنى واللا معنى، ويصير الشعر حياة من نوع آخر. في عالم تنطفئ فيه الكلمات عن الإرشاد، تبزغ هذه القصيدة ككيان حيّ يتردد بين الظلال، حيث لا مرسى للحقيقة ولا قرار للمغزى، وفي عتمة اللغة تتفتح أزهار الحيرة التي لا تزهر إلا في صمت الروح.

يكتب مبارك وساط من عتبة الوعي الأخيرة، حيث تتحول اللغة من وسيلة إلى كائن حي يفكر ويحلم ويتوه. في "حيْرة" لا يُمسك الشاعر القصيدة بل تصيبه، لا يطارد المعنى بل يُضلّله، مؤمنًا أن اللحظة التي يُمسك فيها المعنى تموت فيها الحياة الشعرية.

هذه ليست قصيدة تُشرح، بل أثر يُترك، صمت يتكثّف. "حيْرة" نعبرها لنتحوّل، لا تفتح الطريق بل تُربك البوصلة، تردنا إلى أنفسنا في مرايا تفتح ولا تعكس. الشعر هنا حياة بلا أرض، بلا يقين… لكنها مشعّة بالحضور، كأن الحيرة ذاتها ضوء غير مرئي وارتجاف في قلب اللغة.

الشفرة الإبداعية

في قلب هذه التجربة الشعرية، تكمن شفرة إبداعية، فالقصيدة تبدأ من دون تمهيد، كأنها جاءت بعد احتراق سابق، كأن اللغة لا تبدأ، بل تُكمِل شيئًا انكسر ولم يَرَه أحد:

"لم أنصب فخًّا لطائر / نمتُ قليلاً جنب شجرة / وانغرس حلم الطائر حتى أسافل جذورها"

هنا، لا الطائر طُرِد، ولا الشاعر اصطاد. بل الحلم نفسه هو الذي حفر في الجذر، واستقر في لغة لا تصف، بل تُخفي.

القصيدة تعمل وفق شيفرة خاصة، لا تعتمد على التوالد المنطقي، بل على القفز، التناقض، والانخداع الجميل. كما لو أننا في حلمٍ لشجرة حلمت بطائر، أو طائر نام داخل شجرة. من سبق؟ من حلم بمن؟ لا يهم. ما يهم أن القصيدة فتحت دائرة صفر جديدة:

"وثمّة عين تجوس دائرة الصّفر نفسه الذي رسمته أنفاسي"

لا مركز هنا، ولا أمان، ولا بداية، ولا قرار.

اللغة ككائن حي – الهندسة الشعرية للحيرة

في هذا النص، يشتغل وساط على هندسة الحيرة، لا بوصفها ضعفًا معرفيًا، بل كقيمة شعرية خالصة. يبدو وكأن الكلمات خُطّت في حلمٍ نصف يقظ، أو كما لو كان هذا الكائن اللغوي يكتب نفسه من مكانٍ لا يراه الشاعر.

يُعبّر عن هذا بمشهد سقوط/بعث متكرر:

"وإذا ما تعثّرت وسقطت / يبعثني الضّحك واقفاً حتى الغيمة / التي كانت أمّي قد سلّمتها إلى سماء الأيتام"

هذا الضحك ليس خلاصًا، بل دورة داخلية من السقوط/الاستعادة، حيث اللغة تضحك وهي تنكسر.

لذا كانت الجملة التي ظهرت لاحقًا في النص موجزة لكنها مكثفة:

"القصيدة لا تُكتب، بل تتنفّس."

وبعد تكرارها بفوارق دلالية طفيفة، صيغت لاحقًا كخلاصة مكثفة:

"لا تُكتب اللغة، بل تتنفّس. لا تُنتج المعنى، بل تتخلّق كما تتخلّق الحياة من جزيئاتها الأولى."

هذا ليس تكرارًا اعتباطيًا، بل تمويج صوتي وفكري متدرج.

اللغة المتحركة – قصيدة تُغيّر جلدها

قصيدة "حيْرة" ليست ثابتة في جنسها، إنها تتحرك مثل الماء:

- تتكلم بلغة الحلم ثم تنزلق إلى لغة التيه

- تقترب من السرد ثم تتراجع إلى الحذف

- تُلمّح أكثر مما تُصرّح

- تتوالد من صور مألوفة وتحوّلها إلى رموز معطوبة

"حَبلٌ ينْزلُ من ثُقْبٍ في مرآة"

صورة واحدة، كفيلة بتفكيك منطق الإدراك البصري. فالثقب في المرآة ليس كسراً، بل نافذة لواقعٍ مُعاكس، والحبل ليس وسيلة نجاة بل تعلّقٌ لا واعٍ بمصدر لا يُعرف.

القصيدة كسينما داخل الوعي

ليست هذه القصيدة نصًّا يُقرأ، بل فيلمًا داخليًّا، بلا شاشة، بلا حوارات، تُعرض مشاهده في عتمة الدماغ لا على جدار. رجل يسير في ضباب حلمه، يدٌ تبحث عن حبلٍ يتدلّى من مرآة، ومرآة أخرى ينطفئ فيها الضوء، لكن الذهب يظل يلمع – لمعان الحيرة، لا اليقين. إنها سينما اللاوعي، مشاهدها لا تحتاج تفسيرًا، بل استسلامًا.

لكن هذه السينما التي تتقدّم على حواف الإدراك لا تقوم على الحركة وحدها، بل على الصمت الداخلي أيضًا. فمشهدٌ مثل:

"وثمّة عينٌ تجوس / دائرةَ الصّفر نفسه / الذي رَسَمَتْهُ أنْفاسي"

هو لقطة ثابتة بامتياز، لكنها مشبعة بالحركة الباطنية، أقرب إلى ما يقدّمه أندريه تاركوفسكي في لحظاته الساكنة ذات التأمل الزمني.

فـ"دائرة الصفر" ليست مساحة فارغة، بل بؤرة وجودية تدور حول نفسها، والعين ليست بَصَرًا بل بصيرةٌ تتلمّس ما بعد العالم المرئي. هنا تدخل القصيدة إلى ما يمكن تسميته بـ**"السينما السوداء للوعي"**، حيث كل شيء جامد، لكنّ الروح تتحرّك في صمتٍ كثيف. فهذه السينما الشعرية، لا تُشاهد بالعين، بل تُرى من الداخل… كالحلم حين يُقرأ.

إيقاع الحيرة

في خلفية النص، هناك إيقاع لا يُسمع بل يُحسّ. الترجيع، التقطيع، والتشظي تصنع موسيقى خافتة تُشبه الجاز الحرّ أو موسيقى الغرفة الحديثة.

التكرارات مثل:

"أمضي في طريقي الوعر / أمضي في سبيلي الوعر"

ليست تكرارات سردية، بل نبضات تيه. في "حيْرة"، اللغة تتنفس لا لتُطمئن بل لتُربك… إيقاع الحيرة يعلو على التفسير.

لوحة من شعر – الرؤيا العاطفية في "حيْرة"

القصيدة هنا ليست كلمات، بل لوحة شعورية مرسومة بالألوان لا بالأكريليك أو الزيت، بل بالإحساس الخام. ألوانها ليست زينة، بل كاشفة عن طبقات الوعي واللاوعي. قصيدة "حيْرة" لا تُقرأ فقط، بل تُرى – من الداخل – من الحلم – من ثقوب المرآة – من بريق الذهب الذي لا يُضيء.

تحليل المنظومة اللونية:

1- رمادي / فحمي (العزلة – التيه – الانطفاء)

"أحلامي أنا مُشَتتة في الآبار"

"وثمّة عينٌ تجوس دائرةَ الصّفر"

"أمضي في سبيلي الوَعْر / وإذا ما تعثّرت وسَقطت"

اللون هنا لا يعني حيادًا بل اختلالًا، كأن الذات فقدت لونها الشخصي ودخلت في حيّز الغياب.

2- أخضر داكن / أزرق باهت (الذاكرة العضوية – الأم – الغيمة)

"نِمتُ قليلاً جنْبَ شَجرة"

"الغيمة التي كانت أمّي قد سلّمَتْها / إلى سماء الأيتام"

الأخضر هنا ليس حياة، بل حياة منطفئة في الجذر. الأزرق ليس سماويًّا، بل قديمٌ مطويٌ في الذاكرة، كأنه ظلّ عاطفةٍ لم تكتمل.

3- ذهبي باهت (الخاتمة المؤجلة – الحقيقة الملغّزة)

"وقد بدأ الضّوء يتخفّى في الذّهب"

إنه ذهبٌ لا يُضيء، بل يلمع كتذكيرٍ بما لم يتحقّق. هذا اللون هو مجاز الحقيقة حين ترتدي قناع الالتباس.

التقاطع مع التشكيل:

- مارك روثكو: بألوانه التي توصل شجنًا غير منطوق، كما تفعل القصيدة. لوحته No. 61 (Rust and Blue) تتقاطع تماماً مع المزاج البصري لـ"حيْرة".

- إدوارد هوبر: يرسم الوحدة داخل الفراغ اليومي، كما تفعل القصيدة حين تقول:

"لا آبَهُ حتّى بصورتي التي / بدأتْ تُـثـقـِّـبُ المرآة"

الوجود كحلم مؤجل

منذ السطر الأول، لا يعود الشاعر سيّد العالم، بل يتحوّل إلى كائن جانبي، ينام لا ليحلم، بل ليحلم به الطائر. تُستبدل سلطة الذات بسكون الطبيعة، وتصبح "الحيرة" موقفًا فلسفيًّا من الوجود لا يحتاج إلى تفسير.

- الذات مشتّتة،

- الطريق غير محدد،

- الضوء ليس يقينًا بل وهمٌ يلمع ولا يُنير،

- الضحك ليس خلاصًا، بل موقف عبثي ضد السقوط.

ليست الحيرة هنا مشكلة تُحل، بل حالة وعي بلا أرض. شكلٌ من حياةٍ تُبنى على اللايقين، على ما لا يمكن إدراكه، وعلى سؤالٍ لا يبحث عن إجابة، بل عن تأمّلٍ دائم.

في قلب القصيدة، ينبض خيط صوفي:

الطائر الذي لا يُصطاد، بل يحلم في الجذر، هو الروح التي تتجاوز الصيد الحسي وتلتحق بمصدرها في الظلمة.

الشجرة لم تعد "موضوعًا طبيعيًّا"، بل مقام وجود، والمطر المؤجّل ليس تأخرًا زمنيًّا، بل تعليقٌ في الظهور.

"حيْرة" ليست قصيدة تُفهَم، بل تُعاش – كحلم، كهاجس، كضوءٍ يتخفّى في الذهب.

الشعر كتنفّس طبيعي: حين تختل طقوس الطبيعة

القصيدة في "حيْرة" لا تُكتب، بل تتنفّس. فهي ليست نصًّا، بل حياة. لا تُكتب اللغة، بل تتنفّس. لا تُنتج المعنى، بل تتخلّق كما تتخلّق الحياة من جزيئاتها الأولى. تتحول القصيدة إلى نظام حيّ، يتجاوب مع تغيرات الداخل والخارج، كما تتجاوب الطبيعة مع فصولها.

كل عنصر فيها كائن يتفاعل بيولوجيًّا مع الآخر:

- الطائر = الغريزة

- الشجرة = الزمن العضوي

- المطر = التوازن البيئي

- المرآة = الإدراك الحسي

- الغيمة = الذاكرة المتحركة

لكن في "حيْرة"، هذه المكوّنات تتعطل فجأة، كأن الطبيعة نفسها تفقد طقوسها:

- المطر تم تأجيله

- الغيمة بلا أم

- الطائر يحلم في الجذر

- الضوء يتخفى لا يسطع

كل هذه الصور ترسم عالماً مقلوباً، كأن الكوكب دخل في اضطراب شعريّ. القصيدة ليست فقط عن الشاعر، بل عن الأرض وهي تفقد توازنها الداخلي. يصبح الحلم فعلًا مقاومًا في وجه هذا الخراب، والضحك ليس سخرية من السقوط، بل صرخة حياة في وجه الاختلال.

الخاتمة: "حين تنظر القصيدة إليك"

القصيدة هنا لا تُشبه مرآة، بل ثقبًا أسودَ صغيرًا في قلب اللغة، من يسقط فيه لا يعود كما كان.

"حيْرة" ليست قصيدة نُمسك بها، بل حالة تُمسك بنا.

الحيرة ليست سؤالًا، بل هي الصورة التي يُطلّ بها الشعر على العالم، ويُوقظ بها ما نظنّه مستقرًّا.

في 'حيْرة'، لا نغرق لنفهم، بل لنُعاد توليدنا من رحم الغموض. القصيدة ليست مرآة تعكس ذاتنا، بل ثقب أسود يسحبنا في عتمته، ليعيد تشكيلنا، ويحفر فينا الحيرة نفسها… حيرة الحياة التي لا تهدأ.

***

ناظم ناصر القريشي

....................

حَـيْـرة

مبارك وساط

لَمْ أَنصُبْ فخّاً لطائر

نِمتُ قليلاً جنْبَ شَجرة

وانْغرسَ حُلمُ الطّائر

حتّى أسافلِ جذورِها

أحْلامي أنا مُشَـتـتـة

في الآبار

وثمّة عينٌ تجوس

دائرةَ الصّفر نفسه

الذي رَسَمَتْهُ أنْفاسي

أمضي في سبيلي الوَعْر

وإذا ما تعثّرْتُ وسَـقَـطْت

يَبْعـثُني الضّحكُ واقفاً حتّى الغيمة

التي كانتْ أمّي قد سلّمَتْها

إلى سماء الأيتام

أمْضي في طريقي الوَعْر

لا أقلقُ إنْ كانتْ قدماي المارقتان

تنبُشان المثلَّثات تنفُشان ريشَها

ولا آبَهُ حتّى بصورتي التي

بدأتْ تُـثـقـِّـبُ المرآة

فما الذي يُمْكن أنْ أفعله

بكلّ تلك الحبال التي ستتدلّى

من هاتيك الثـقوب

-أنا الذي رأيْتُ يوماً

جدولاً

يتسلّل

من فتق في ستارة

وقلت: جاء لِيتحصّن -

وماذا يُمْكن أن يرى طائر

في حُلم

ما الذي تستطيعُه الشّجرة

بعد أنْ تمّ تأجيلُ المطر

وأين طريقي، الآن

وقد بدأ الضّوء يتخفّى

في الذّهب؟

 

في المثقف اليوم