قضايا

حسام الدين فياض: الحقيقة المفقودة قراءة نقدية لمقولة علي الوردي الحقيقة بنت البحث والمناقشة

يقول علي الوردي " العقل الجبار الذي لم يفهمه العرب " (1913-1995): ” الحقيقة هي في الواقع بنت البحث والمناقشة “ (كتاب، مهزلة العقل البشري، ص:7).

يبدو المشهد المعرفي في العالم العربي المعاصر كفضاء تتقاطع فيه الحقائق مع التفسيرات المتنوعة، وتتزاحم فيه الروايات على شرعية المعنى، بينما تخوض المجتمعات العربية تحولات فكرية واجتماعية تعيد تشكيل رؤيتها لنفسها وللعالم من حولها. وفي خضم هذا الواقع المعقد يطرح سؤال جوهري: كيف تنتج الحقيقة؟ هل هي إرث ثابت تتناقله الأجيال، أم بناء معرفي ينشأ عبر الحوار والبحث والتفكير النقدي؟ هنا تكتسب مقولة عالم الاجتماع علي الوردي أهميتها، فهي لا تعد مجرد تأمل نظري، بل دعوة لإعادة النظر في مفهوم الحقيقة ذاته، وفي الطرق التي تصاغ بها داخل مجتمعات يغلب عليها الثبات على حساب حركة السؤال والتفكير الحر. ومن هذا المنطلق يبدو الواقع العربي كساحة تتصارع فيها التقليدية مع الحداثة، واليقين مع الشك، والصمت مع النقاش، صراع تحدد نتائجه مصير الحقيقة وإمكان ولادتها من رحم البحث والمناقشة النقدية.

في واقع الأمر، تبدو مقولة علي الوردي: " الحقيقة هي في الواقع بنت البحث والمناقشة " أشبه بمحاولة لانتشال الوعي من سلطة المسلمات، ودفعه نحو فضاء تتشكل فيه الحقيقة عبر الاحتكاك الحي بالأفكار. حين نضع هذه الفكرة في سياق المجتمعات العربية المعاصرة، تظهر المفارقة بوضوح، فالمجتمع الذي يحتاج إلى النقاش لتوليد الحقيقة، هو نفسه المجتمع الذي يخشى النقاش لأنه يهدد ما اعتاد عليه.

في العالم العربي اليوم، تكاد الحقيقة تعامل كتراث ثابت لا كنتاج معرفي متغير. ما يأتي من الماضي يقدم بوصفه كاملاً، وما ينتجه الواقع ينظر إليه بحذر، أما ما يختلف مع المتعارف عليه فيحاصر بالشكوك وسوء الظن. وهكذا يصبح الحوار فعلاً استثنائياً لا ممارسة يومية، ويغدو الباحث عن الحقيقة أشبه بمن يسبح عكس تيار طويل من الطاعة الفكرية والتقليد.

تظهر أزمة هذه المقولة في البنية الاجتماعية ذاتها، حيث ينظر إلى النقاش غالباً بوصفه تهديداً للاستقرار، فالدولة تخشى أن يقود الجدل إلى اضطراب، والمؤسسة الدينية تخشى أن يفتح باب التشكيك، والعائلة تخشى أن يولد الاختلاف تمرداً، والجامعة تخشى أن يحول النقد طلبتها إلى مشاغبين أكثر منهم دارسين. في مثل هذه البيئة، يفقد النقاش وظيفته الجوهرية، ويتحول إلى طقس شكلي أو إلى مبارزة كلامية خالية من المنهج والمعرفة.

وإذا كان الوردي يرى الحقيقة بنتاً للبحث، فإن البحث ذاته يعاني من التهميش. فالمؤسسات التعليمية لا تزال تكرس التلقين بدل التفكير، والفضاء الإعلامي يضخ الآراء أكثر مما ينتج المعرفة، ووسائل التواصل الاجتماعي تمنح الصوت للجميع لكنها لا تمنح القيمة للجودة. وفي ظل هذا الضجيج، تتناثر "حقائق" كثيرة، لكنها لا تنشأ من نقاش عميق، بل من انفعال لحظي أو من خطاب هوياتي لا يرى إلا ذاته.

ومع ذلك، لا يمكن القول إن الحقيقة غائبة تماماً عن عملية البحث والمناقشة في العالم العربي. هناك تيارات فكرية جديدة تسعى إلى تفكيك الموروث وفحصه، ودوائر بحثية تحاول استعادة دور الجامعة في إنتاج المعرفة، ونقاشات عامة تتجرأ على طرح ما كان مسكوتاً عنه. لكنها لا تزال محاصرة بثلاثة حدود وهي (حدود السلطة، وحدود المجتمع، وحدود البنية الذهنية)، التي ترى في السؤال تجاوزاً لا ضرورة.

إن نقد مقولة الوردي في السياق العربي يقود إلى نتيجة مهمة أن المشكلة ليست في المقولة بل في شروط تحققها. الحقيقة لا يمكن أن تكون بنتاً للبحث في مجتمع لم يعترف بعد بأن السؤال أقل خطراً من الجهل، ولا بنتاً للمناقشة في فضاء يجرم الاختلاف أكثر مما يشجعه. إنها مقولة تنطوي على مشروع نهضوي كامل، مشروع يتطلب إعادة بناء علاقة المجتمع بالمعرفة، وإصلاح مؤسسات إنتاج الفكر، وتحرير الجدال من وصاية السلطتين الرمزية والسياسية.

وفي الختام، يمكننا القول إن الحقيقة في العالم العربي تبدو مفصولة عن أسس إنتاجها المعرفي، فهي تحتاج إلى بيئة مؤسسية وفكرية تتيح لها التشكل والنمو عبر البحث والنقاش النقدي. فالمجتمع يطالب بالحقيقة لكنه لا يمنح أدوات بنائها، والناس يرغبون بالنقاش لكنهم يخافون نتائجه، والمؤسسات ترفع شعار الحرية لكنها تضيق ذرعاً بممارستها. ما يقوله الوردي ليس وصفاً لواقع قائم بقدر ما هو تذكير بواقع ينبغي أن يكون، حقيقة تولد من البحث لا من التكرار، ومن الحوار لا من الإملاء، ومن الجرأة لا من الخضوع.

وهكذا، يتضح أن مقولة علي الوردي ليست مجرد تعريف لطبيعة الحقيقة، بل مرآة تعكس أزمة العقل العربي في علاقته بالبحث والنقاش. فالمجتمعات التي تعلّق شرعيتها على الثبات، وتهاب السؤال بوصفه تهديداً، وتخضع الحوار لسطوة الأعراف والسلطات، لا يمكن أن تنتج حقيقة قابلة للتطور، بل تعيد تدوير نفس القناعات التي تعيق حركتها. وفي المقابل، يظل الأمل معقوداً على تنامي الوعي النقدي وتحرر المعرفة من قوالبها التقليدية، رغم بطء التحولات وكثافة القيود. إن نقد واقع الحقيقة في العالم العربي هو في جوهره نقد لبنية اجتماعية لا تزال تفاوض نفسها بين الرغبة في التجدد والخوف من تبعاته؛ بنية تحتاج إلى شجاعة الاعتراف بأن الحقيقة ليست هبة تمنح، ولا إرثاً يورث، بل ثمرة لجدل حي لا يكتمل إلا حين يصبح السؤال ممارسة يومية، ويغدو النقاش طريقاً للمعرفة لا تهديداً لها.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- تركيا

..............................

- المراجع المعتمدة:

1.  علي الوردي: مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، ط2، 1994.

2.  علي الوردي: وعّاظ السلاطين، دار كوفان، لندن، ط2، 1995.

3.  حسام الدين فياض: نظرية الإصلاح الاجتماعي عند عالِم الاجتماع العراقي علي الوردي (رؤية سوسيولوجية – نقدية)، موقع الحوار المتمدن، العدد: 7662، بتاريخ 04/04/2023. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=797961

في المثقف اليوم