قضايا
جمال محمد تقي: الشعر والسياسة وجهان ابديان من وجوه العراق
ومضات ثقافية (3)
نستهل المدخل بمستهل صموئيل كريمر "التاريخ يبدأ في سومر" وما ورد في ترجمة طه باقر لكتابه " من ألواح سومر " حيث اول شاعر وشاعرة واول مدرسة واول مؤرخ واول قانون واول دستور واول كتابة ووو واول برلمان، والاخير مكون من مجلسين، للاعيان والعامة، من الحكماء الشيوخ، والمحاربين الشباب، وكان ينعقد للتداول في شؤون الدولة والمخاطر المحدقة بها، وقتها لم تكن هناك احزاب، ولا ادلجة للافكار، ترادف الاديان، وتسعى لتقفيص الثقافة عامة والشعر خاصة باقفاصها، كانت رئة الشعر نقية من ملوثات التجنيد والتنابز الاقصائي، فقلوب الشعراء الشعراء تضيق باقفاص صدورها، لتنفلق حرة مغامرة، فكيف باقفاص الايديولوجيات ؟
الشعراء واقفاص الاحزاب في العراق
في العراق الذي صك بعد الحرب العالمية الاولى 1914 – 1918، بعد ان احتلته القوات البريطانية صعودا من البصرة الى بغداد، التي دخلتها جحافل الجنرال "ستانلي مود" قائد الحملة البريطانية على بلاد الرافدين، 1917، والذي خاطب البغداديين حينها، قائلا " اننا لم ندخل بلادكم اعداء فاتحين بل دخلناها محررين . . " وحتى استكمال الزحف على البقية الباقية من بلاد الرافدين، كان الترقب المشوب بالتبرم الحذر سيد الموقف والذي ما لبث ان انفجر بثورة العشرين، فلم يكن اهل العراق يوما من اتباع مذهب من "يتزوج امي اقول له عمي "، ومثلما كانوا اصحاب موقف من العثمانيين وإستبدادهم كانت وقفتهم ضد الانكليز اسرع واقوى واشمل !
محمد سعيد الحبوبي، شاعر نجفي وثائر قاد مقاومة مسلحة ضد احتلال الانكليز للبصرة واستشهد 1915 متأثرا بجروح اصابته، وهذا محمد مهدي البصير احد شعراء ثورة العشرين يقول: ان ضاق يا وطني علي فضاكا – فالتسع بي للامام خطاكا، بك همت او بالموت دونك في الوغى - روحي فداك متى اكون فداكا !
بعد الثورة فصل الانكليز نظاما سياسيا بوجهين، حكام عراقيون، واجندة انكليزية حاكمة، وخير من عبرعن حالة الرياء هذه شاعرنا العظيم معروف الرصافي في قصيدته المشهورة " أنا بالحكومة والسياسة اعرف "، اما زميله جميل صدقي الزهاوي، وبتفلسف الحكمة الراقية يؤشر على العلة: يقولون ان الدهر يصلح فاسدا - فما حيلة الانسان ان فسد الدهر، لنا قدم في الحكم تعوزها الخطى – وحرية في القول يعوزها الجهر. وبنفس المقام كتب الملا عبود الكرخي: قيم الركاع من ديرة عفج
اتشوفة هيبة وعنده لحية مسرحة - يشتم وبلا خجل وبلا مستحة
. . .
من يحس المقعد اشوية اندحج – قيم الركاع من ديرة عفج .
وعلى ذات الوتر يعزف الحاج زاير قائلا: دار الملوك أظلمت عكب الضيا بسروج
وتميت اكت الدمع اعله الوجن بسروج، والزين دنك على جف الزنيم اوباس
والشهم لو عاشر الانذال ما هوباس، من جلة الخيل شدوا على الجلاب سروج !
من الرومانسية الوطنية الى التقفيص الايديولوجي !
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتصارات الاتحاد السوفيتي وقيام دول الكتلة الشرقية وانتشار صيت الفكر الاشتراكي والاممي، ازداد تعلق الاحزاب العراقية وخاصة السرية بهذه الموجة، لدرجة انه حتى سعد صالح جبر المحسوب على رجالات الانكليز في العراق كان قد اسس حزبا يحمل اسم الامة الاشتراكي، كانت وزارة الداخلية هي المسؤولة عن ترخيص الاحزاب بحسب قانون اقر منذ 1922 وكانت الانتقائية سيدة الموقف، فكلما كان الحزب نخبوي وبملامح غير انقلابية كان الترخيص واردا، ورخص حزب كامل الجادرجي ومحمد مهدي كبة، وجمعية مكافحة الصهيونية، التي اسسها الحزب الشيوعي 1946، وبقي الحزب الشيوعي محظورا، ومثله حزب البعث !
1956 قامت جبهة سرية بين خمسة احزاب " جبهة الاتحاد الوطني " مكونة من الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، وحزب البعث، والحزب الديمقراطي الكردستاني، احزاب هذه الجبهة لعبت دورا خطيرا في تاريخ العراق السياسي وعلى مدى عقود مضت، ورغم اختفاء اغلبها اوتقزمه لكن ظلال التأثير مازال حاضرا !
بعد قيام الجمهورية 1958، اصبح الجيش فوق الميول والاتجاهات وبين اياديها! جيش العراق ولم ازل بك مؤمنا – وبأنك الامل المرجّى والمنى
عبد الكريم وفي العراق خصاصة - ليد وقد كنت الكريم المحسنا.
"الجواهري"
وطن، شعب، بعث - تشيده الجماجم والدم – تتهدم الدنيا ولا يتهدم، قيل ان هذا البيت لصالح مهدي عماش، واعني به بعث، لكني واثق من ان، شعب دعائمه الجماجم والدم – تتحطم الدنيا ولا يتحطم، هو للجواهري من قصيدة كردستان موطن الابطال!
يقول نيتشة:
"حذار وانت تحارب الوحوش ان تتحول الى وحش مثلهم تماما"
بعد ان وقعت الفأس بالرأس، صار من النادر ان تجد شاعرا له صدى، وهو بعيد عن تأثير الاحزاب، وأن وجد فلا بد أن يكون سياسيا على طريقته، حتى شعراء التمرد، والصعلكة، والعبث، هم ايضا سياسيون، ولكن على طريقتهم الخاصة، وهنا لا تمييز بين شعراء الفصحى من عبد الامير الحصيري الى حسين مردان، وشعراء العامية، او الشعبية من امثال مظفر النواب وعريان وناظم السماوي وكاظم اسماعيل الكاطع، لا الشعبوية، التي غلب على نظمها، طابع الرواديد والقوالين، وحتى هؤلاء، لفحتهم سخونة السياسة، وسبح الكثر منهم في متونها، ولمع بينهم من اجاد الجمع بين القوالب الثابتة للترديد البكائي الموروث، والتورية في اسقاطاتها على الحالة السياسية القائمة، وطعم الطقس الزاخر بالتنوع البيئي والاجتماعي العراقي كل اجناس الفنون من غناء وايقاع وازياء ولهجات بطعمها وفي المقدمة منها الشعر بكل اصنافه، ففي الحواضر غير الحواف وغير الارياف وغير البادية وغير الاهوار وغير الميناء وغير العاصمة وغير سفوح الجبال والتلال وغير مدن النفط وغير مدن الحدود وغير مدن العتبات !
الحواضر: من بويب في البصرة ومن النجف وكركوك والموصل والسليمانية وو الى بغداد الى حيث الصقل، بغداد غربال لا يفوت المجرور والمكسور، يضم المرفوع ويهادن المسكون، بغداد تكاسر الحداثة بالاصالة، تقطر النفحات من محمود البريكان الى بلند الحيدري الى يوسف الصايغ وهاشم الطعان وفاضل العزاوي ورشدي العامل ولميعة عباس عمارة وحسب الشيخ جعفر وسرجون بولص الى جنة الوطن عند كريم العراقي .
شعراء تجاوزوا الاحزاب وشعراء بلعتهم الاحزاب !
احزاب - حزب تخوزق بمحض ارادته لا اكراه ولا بطيخ " مظفر النواب "
الجمود العقائدي يؤدي بصاحبه الى التعصب على حساب القيمة الشعرية والانسانية، والاحزاب تريد إعلام لا ثقافة حرة وبالتالي لا شعر خارج تراتيل صلواتها، تريد اناشيد بحمدها، والاحزاب عندنا مشاريع للسلطة الكلية، او سلطة لا تريد ان تنتزع عنها، وهنا للاعلام دور فيه للشاعر نصيب الاسد، واذا كان لكل قبيلة شاعر، صار في العراق لكل حزب كتيبة من الشعراء والمسوقين، علي الحلي شاعر البعث، صاحب شعلة البعث صباحي، انتفض لشاعريته فاستقال من الحزب واعتكف لانه فر بحلاوة الروح من حضرة الحزب الذي لم يعد غير وكر للاقارب والعقارب، وامام عينه كان مصير رفيق الدرب شفيق الكمالي كمصير عبد الخالق السامرائي وعزيز السيد جاسم، فلما البقاء ؟ ربما للتقية عذريشفع للزملاء، كمحمد جميل شلش وشاذل طاقة، واما عبد الرزاق عبد الواحد فظل يداهن بحب ونبل قرين بنبل يوسف الصايغ، حتى تملص وبقي وفيا لحالة كان يريدها هو ليس كفلاح عسكر وداود القيسي ضحايا الانتقام المعاكس، وليس تكسبيا، كعباس جيجان، ولامدعيا ولا ناقص شاعرية، انما هو مشمول بتبعية المثقف للسلطة، فنحن في عربة يقودها ملاك وشيطان !
بين حماسة الشيوعي والبعثي تشظت حماسة اجيال من الافذاذ عقولا وضمائرا وشعرا وتلثمت شاعرية الكبار منهم قبل الصغار!
الشيوعي الاخير كان متمردا مغردا خارج سرب المأدلجين والمغربين والتابعين، وكان بإعلانه المتوهج قبس للتغيير فهو الاحق بحمل راية الخير، هو وليس غيره من سيلاقي كلكامش اولا، انه سعدي يوسف، اما البعثي الاخير فهو كعلي الحلي او محمد جميل شلش بانتظار يوم البعث حيث نهاية مواسم الهجرة الى زمن الآخرة، اما زمن الطائفي الاخير فهو قادم لا محال، حيث يتطهر العراق من رجس التبعية، ليحل زمن الشاعر الانسان، الشاعر الثائر ابدا !
كل الجلال لمن ظلمتهم ظلمة الاحزاب وفي المقدمة منهم الافذاذ: بدر شاكر السياب ومظفر النواب ويوسف الصايغ وعبد الرزاق عبد الواحد!
***
جمال محمد تقي