قضايا

محمد صبي: رحلة في دروب القبح.. من فجر الخليقة إلى انكسارات الوعي

منذ أن خطت أول قدم بشرية على تراب الأرض، لم يكن القبح مجرد تشوه في الخَلق أو خلل في التناسق، بل كان يُتمًا وجوديًا، يصرخ بين طبقات النفس، ويُنذر بانكسار في الميزان الأخلاقي. القبح ليس نقيض الجمال فحسب، بل هو ظاهرة بشرية تحمل في طياتها فلسفةً مغايرة، ومأساةً قديمة، وأحيانًا، تمردًا على ما يُظن أنه حسن.

وهنا هل بالإمكان ان نسأل القبح هل انت وليد ام انت صاحب هوية؟:

الإنسان لم يولد حاملاً القبح؛ بل وُلد حاملاً القابلية له، كما وُلد حاملاً القابلية للخير والشر. القبح ليس جينًا وراثيًا، ولا لعنة بيولوجية، انما انعكاس لتشوّهات داخلية قد تنشأ من التربية الفاسدة، من بيئة لا ترحم، من مجتمع يُقصي، أو من عقيدة تُشوّه لا تُطهّر.

ونرجع لمثالنا وهو؟

حين قتَل قابيل أخاه، لم يكن قبح الفعل في الدم المسفوك، بل في الدافع: الغيرة، الحسد، غياب الإدراك. ومنذ تلك اللحظة، انقسم الإنسان إلى وجوه متباينة، بعضها يُضيء، وبعضها يعبس في وجه الحياة.

إذا هل للقبح ملامح: من هيئة إلى سلوك؟

القبح لا يستقر في الأنف أو العين أو الثياب الرثة، بل يسكن في الكلمة الجارحة، في النظرة المتعالية، في الفعل الجائر. هو طيف واسع يلبس قناعًا تارة، ويكشف وجهه دون خجل تارة أخرى. هو فردٌ يستضعف الآخر، هو سلطة تبتلع الحقوق، هو صمتٌ في وجه الظلم.

وهنا يطرح العقل أسئلته: هل للتربية دور؟ بالتأكيد. فكلما شُوّهت القيم، كلما تجرأ القبح على الهيمنة. هل للمعتقد أثر؟ نعم، حين يُحرّف الدين عن مقصده الروحي، يُنتج تديّنًا مشوهًا يخلط الجمال بالقبح دون تفرقة.

حين يصبح القبح ردًا... لا اختيارًا

هناك لحظات يُضطر فيها الإنسان ليقترف القبح، لا لأنه يرغبه، بل لأنه يُجبر عليه ليحمي حقه، ليصرخ، ليقاوم، ليُسمع. القبح هنا ليس فضيلة، لكنه صيحة وعي مكسور، حين تعجز أدوات الجمال عن استرداد العدالة.

لكن القبح قد يُغري أيضًا: حين يُستسهل، حين يتحول من رد فعل إلى عادة، من موقف إلى هوية، يصبح قناعًا دائمًا لا يُخلع. واليك أمثلة عن القبح عبر العصور: من الملوك إلى المفكرين، من نيرون الذي أضرم النيران في روما وهو يعزف، إلى ليوبولد البلجيكي الذي حصد أرواح الكونغوليين دون رحمة، ومن فرعون الذي قال "أنا ربكم الأعلى"، إلى هتلر الذي جسّد القبح في قالب عنصري دموي... تتعدد ملامح القبح، لكنها كلها تتغذى من الإفراط في الأنا وغياب الضمير.

أما الفلاسفة، فقد قاربوه كلٌ بطريقته:

أفلاطون اعتبره انحرافًا عن المثال الأعلى.

أرسطو رأى أنه اختلال في الاتساق الطبيعي.

نيتشه دافع عنه حين قال إن الحقيقة غالبًا ما تكون قبيحة والجمال يخفيها.

الصينيون فسّروه كتوازن مفقود في الروح، وليس في الشكل.

في الدين: أين يقف القبح؟

جاء الإسلام بمنظومة تُفرّق بين القبح الخارجي والقبح الباطني، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رفيقًا بالخلق، حتى قال: "إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه..."، رفضًا لربط القبح بخلقة الله. الإمام علي عليه السلام نثر حكمًا تلخص الفكرة كلها: "أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله"، إدانة لقبح النفاق، لقبح الازدواجية، لقبح الذين يرون أنفسهم فوق النقد. الدين لا يُجرّم القبح الشكلي، بل يرفض القبح الأخلاقي؛ وبهذا أُعليت قيمة النية والعدل والرحمة على أي مظهر أو هيئة.

القبح الفني: جمال من نوعٍ آخر

لوحات "غويا"، قصائد "بودلير"، روايات "دوستويفسكي"، كلها وظّفت القبح لا لتمجيده، بل لكشف الحقيقة وفضح الزيف. هنا يصبح القبح أداة جمالية، لكنه لا يتخلّى عن دوره النقدي، ولا عن وظيفته التحريضية.

القبح كمأساة إنسانية مستمرة

في مجتمعاتنا اليوم، ما زال القبح يُنتج ضحاياه بصمت: يُحتقر الفقير، يُهمّش المختلف، يُقصى ذو الإعاقة، ويُكرّم المتغطرس. القبح لم يمت، بل تطوّر، واكتسى ثوبًا مؤسسيًا يُشرعن التمييز.

خاتمة السرد: القبح ككاشف، لا كمشين

القبح، في النهاية، ليس شيئًا يُقصى فقط، بل يُفهم، يُواجه، يُكشف. هو مرآة للزيف، منبهٌ للضمير، وصفعة للذين اعتادوا النوم على وسائد الجمال المصطنع. ولعل أجمل ما يمكن أن يُقال عنه: أن القبح لا يخدع، وأن الاعتراف به أول خطوات التحرر.

***

بقلم: د. محمد صبي الخالدي - الكوفة

في المثقف اليوم