قضايا
وليد كاصد الزيدي: متلازمة الخوف والعبودية في المجتمع العراقي
(كما أن الناس هم مصدر السلطة فهم أيضاً مصدر العبودية).. ايتيان دولا بويسي - كتاب مقالة في العبودية الطوعية
تعد ممارسات وتوجهات الخوف والخنوع والخضوع والطاعة العمياء المبنية على الخوف لدى الجماهير مسارات حالكة تؤدي الى قبو العبودية المظلم، وهي جسور لعبور الطغاة نحو قلعة العبودية، وركائز أساسية لبناء الدكتاتوريات التي تتسلط على الشعوب الخانعة والخاضعة والطّيعة، ليوغل الطغاة في استعبادها بشتى أنواع الظلم والجور والتعسف.
يرى الفيلسوف سقراط (469-399 ق.م) في الخوف بأنه يخلق الطاعة العمياء في نفوس الجماهير ومن ثم تسهل قيادتها وعبوديتها، في حين يقول ايتيان دولا بويسي ( 1530-1563م) الكاتب والمفكر الفرنسي الشهير في مقالة له صدرت لاحقاً في كتاب حمل عنوان (العبودية الطوعية): " كما أن الناس هم مصدر السلطة فهم أيضاً مصدر العبودية ". كتب "لا بويسي" هذه المقالة، في وقت كانت فيه فرنسا تمر بمرحلة عصيبة تميزت بالظلم والإستبداد، هاجم "لا بويسي" في هذه المقالة النظام الملكي المطلق والطغيان بوجهٍ عام، حيث أكّد أن الطغاة لديهم السلطة لأن الشعب أعطاهم إياها، وقد تم التخلي عن الحرية لأول مرة من قبل الشعب وبقيت بعد ذلك مُتخلى عنها، ففضل الشعب الرق على الحرية، والرضوخ إلى الهيمنة والإنصياع. (إيتيان دو لا بويسي. ويكيبيديا)
ولعل الشعوب الخائفة تبقى أسيرة في ظل العبودية يعيش أبنائها كالرقيق ونسائها كالإماء، تجلدهم سياط الطغاة والمستبدين، لتُركن تلك الشعوب في ما بعد على هامش التأريخ.
الخوف هو منبع العبوديّة لدى هيجل، في حين يراه نيتشه أساس أخلاق العبيد، وهو أم الرذائل عند أغلب فلاسفة اليونان، وكانت غاية المعرفة عند أبيقور تحرير النفس من الخوف، وهي نفس المفهوم لدى سبينوزا في حكم الدولة، وبشكل عام،انتقد اغلب الفلسفة والمفكرين الخوف واعتبروه عدواً رئيسياً، بدءاً من سقراط، وأبيقور، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، ونيتشه، وإميل شارتييه وغيرهم،إذ وجدوا أن الخوف يعيق العقل، ويقّيد الإرادة، ويقتل الحرية، بل ويثلم الإنسانية، وهكذا فإنّ الخوف والعبودية متلازمان يكمل أحدهما الآخر، فإذا لم تغادر الشعوب الخوف فإنها ستدخل لا محالة في قبو العبودية المظلم.
كثيرون يقللون من أهمية "الكلمة" التي تعّبر عن التجرد من الخوف، رغم أن لها تأثير كبير في توعية الجمهور وتنظيم إعدادات المجتمع من أجل تقويم مسار بوصلته نحو الاتجاهات الصحيحة، فقد كان وقعها عظيما على مّر العصور، فمنذ أن خرج الإمام الحسين(ع) ليقول كلمة الحق بوجه طغاة بني أمية، أصبحت مقولته" إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة …" ترددها الملايين وتعتبرها نهجهاً سليماً لمبادئ الحرية والتحرر من الخوف ومن ثم عدم الرضوخ للعبودية.
في عصرنا الحديث، كان تأثير روبسبير المحامي وخطيب الثورة الفرنسية كبيراً في تأجيج روح الثورة الفرنسية من خلال الخطب التي غّيرت المسارات في فرنسا، فضلاً عن دول كبرى نحو الحرية والتحرر من الظلم والعبودية، وفي فترة لاحقة، ومع بداية النزعة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، لم تكن مصادفة أن تتفق بدايات نهاية العبودية الغربية زمنياً مع مؤتمر برلين 1885م، الذي أقر القضاء على تجارة الرقيق والعبودية. مع ذلك، فقد تّحولت الحركة المناهضة للعبودية إلى أداة لتبرير الهيمنة وظهور النزعة الإمبريالية الجديدة.
انتقل المجتمع في العراق مباشرةً من العيش في ظل جمهورية الخوف الأولى (1968-2003)، التي كتب عنها كنعان مكية كتابه الشهير "جمهورية الخوف" عام 1989، إلى جمهورية الخوف الثانية (2003- ؟؟؟)، بعد أن عاش فترات زمنية طويلة تحت نير العبودية والخوف إبان نحو أربعة قرون من الحكم العثماني وما أعقبه من إحتلال بريطاني. ولم يقم بثورة سوى ثورة العشرين ضد الانكليز، وكانت بقيادة دينية وعشائرية في النجف التي سبقتها إنتفاضة عام 2018، وفي عام 1991 حصلت انتفاضة شعبية بعد حرب الكويت، أما بقية التغييرات في أنظمة الحكم منذ 1958-2003، فقد كانت عبارة عن انقلابات داخلية أو خارجية ولا يمكن تسميتها ثورات لأن رجالات من العسكر هم من نفذها دون مشاركة شعبية من الجماهير المضطهدة (1958-1963-1968). أما تغيير النظام عام 2003، فقد نفذته الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها،عندما كان العراقيون ينتظرون المُخّلص، ويمكن تسميته بـــ "الانقلاب الخارجي".
ولابد من الإشارة إلى احتجاجات وتظاهرات 2019 الشعبية، رغم أنها لم تحدث تغييرات سياسية كبيرة شاملة، سوى تحقيقها لمطالب ليست ذات شأنٍ كبير، مع أن أكثر من 800 متظاهراً ومحتجاً قُتلوا فيها.
لذا نجد أن متلازمة الخوف والعبودية طاغية في أغلب فئات المجتمع العراقي، فهي تمتلك طاعة عمياء لمن يمسك بالسلطة وتعده قائداً أوحداً، ولكن ما تلبث أن تتخلى عنه حال سقوطه بل وتشارك في قتله والتمثيل بجثته إن وقع بين أيديها (كما حدث مع الملك وعائلته عام 1958، وعبد الكريم قاسم عام 1963).
خلاصة القول : رغم أن هنالك مقولة تشير إلى " أن العبيد يتلذذون بطعم العبودية كما يتلذذ الأحرار بطعم الحرية" !! ولكن متى ما تخلص المجتمع - الذي جثمت على صدره صخرة العبودية - من الخوف والخنوع والخضوع لمن يمسك بزمام السلطة من الحكام الطغاة، حينها تستطيع أن ترتقي قمم الجبال وتهجر الوديان لتخرج من أنفاق الظلام الحالك الى فضاءات شمس الحرية المشرقة فتنعم بالسلام والأمان والكرامة المنشودة.
***
د. وليد كاصد الزيدي