قضايا

كاظم لفتة جبر: ثقافة النقد ونقد الثقافة

إن الحديث عن النقد يقتضي الإشارة إلى الثقافة بوصفها القاعدة التي تمنح النقد أهميته، وعلينا أن نفرق بين معنى النقد والانتقاد، فالأول يرتبط بالموضوع ويرجع إلى المنهج العلمي، أما الثاني شخصي ويعتمد على العادات والتقاليد الاجتماعية.

كما أن الثقافة نسبية ومتفاوتة بين المجتمعات، بل حتى داخل المجتمع الواحد، وبما أن النقد مرتبط بها من خلال الأفراد، فإن وجهات النظر النقدية تتعدد بتعددهم، فالثقافة هي التي تمنح النقد هويته، اي بمعنى تحدده بمحددات السلطة، وتبرز أدواته في مناقشة الأمور الحياتية والعلمية.

فقد نجد مجتمعاً موهوماً بالنقد لكنه غير منتج، مستهلك للأفكار لا للسلع فقط، مجتمعاً متصنع للفكرة غير محي لها. يسعى إلى إيجاد ثغرة في الموضوع المعروض للنقد، يهدم ولا يبني، يشخصن ولا يشخص. والجيد في النقد ان الكل يخضع للفحص، ولا يقدس الأفكار، غير أن توجيه النقد للذات يعد تجاوزا للنقد إلى الانتقاد، باعتبار ان فعل الذات شأن خاص بالإنسان، أما ما يطرحه من أفكار فهي تؤثر على الفرد والمجتمع. وبذلك فالنقد نوعين: سلبي خاضع لمحددات الثقافة والسلطة، أما الإيجابي هو الذي يتجاوز الثقافة ويفكر فيما وراءها.

كما أن الفيلسوف او العالم أو المبدع، أو الفنان هو في الأصل إنسان له مشاعر وحاجات ورغبات، ويمتلك من الأمراض النفسية ما يمتلكه اي إنسان عادي، ألا إن الفرق بينهما في استثمار تلك المواقف الحياتية والرغبات النفسية، فالأول: اي المفكر يبحث عن إنتاج صورة راقية لنفسه، أما الثاني: اي الإنسان العادي يبحث عن ما يستهلك نفسه، فالأول ينال الاحترام بين الناس، لأنه مارس النقد على ذاته وبحث عنها في ذاته، فأبدع صورته من خلال افكاره، أما الثاني فقد ذاته، وأخذ يبحث عن ذاته في الأشياء. ومن هنا يمكن أن نستشعر الفرق بين المبدع والمجرم. بين المغترب والتائه. بين سعي الإنسان ومسعاه.

ويمكن أن نجد في تعريف الثقافة، كما عرفها الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند بانها " ميزة شخص متعلم، وكان قد طور بهذا التعلم ذوقه، حسه النقدي وحكمه، تربية يترتب عليها توليد هذه الميزة ".

فثقافة النقد ترجع لنوعية البيئة التي تنشأ فيها، ونوعية الثقافة السائدة، اي سلطة تفرض نفسها على محركات الثقافة وتفكير المجتمع، سواء كانت سلطة الدين، أو الأعراف والتقاليد الاجتماعية، أو السلطة السياسية، أو سلطة العقل، وبهذا يمكن تحديد نوعية النقد السائد للموضوعات الفكرية والإبداعية. فكل نقد لا يخلو من الذاتية، لكنه يتجاوزها اذا اعتمد منهج العلمي.

أما نقد الثقافة فهو يقوم على التفكير ما وراء الثقافة، ولا يخضع لأي غرض أو سلطة دينية أو سياسية أو ثقافية أو نفعية، وهذا لا يتحقق إلا في الفلسفة التي تبحث عن الحقيقة لذاتها، لا لمصلحة ما.

فجل الفلاسفة الذين مثلوا انعطافات كبيرة في تاريخ الفكر الإنساني، وليس في مجتمعاتهم فقط، لأنهم فكروا خارج الصندوق، وخارج البيئة التي نشأوا فيها، إذ ان نمو وعي الأفراد لا ينفصل عن الثقافة التي تربوا في كنفها. ويمكن أن تجد امثله كثيرة على من فكروا خارج صندوق عصرهم وثقافتهم، بدءاً من السفسطائيين، إلى كوبر نيكوس، وفردريك ونيتشه، وماركس، وفرويد. فكل منهم وجد ضالته في نقد الثقافة السائدة آنذاك، من خلال تقديم قراءة مغايرة لما موجود في عصره فكوبر نيكوس رفض النظرة السائدة عن مركزية الأرض، وماركس قدم لنا النقد الاجتماعي، ونيتشه نقد الثقافة الغربية ورفض الفكر التقليدي، وفرويد قدم لنا النقد النفسي. إذ أخضع المتبنيات الثقافية للمجتمع والافراد إلى التحليل النفسي.

وعندما يخضع اي عمل أدبي أو فني أو فكري للتحليل النفسي، فإنه يفسر من حيث تأثير اللاشعور على إبداع الموضوع، اي يتم تناول أفكار المفكر واعماله، لا حياته الشخصية في تحليل شخصيته، وعلى هذا، يجب أن نفرق بين النقد العلمي والفضيحة في فهم الأفكار ومبدعيها.

***

كاظم لفتة جبر

 

في المثقف اليوم