قضايا

ثامر عباس: احتضار الثقافة في العراق.. عزوف القارئ بعد كسوف المقروء!

لعل من أبرز الملامح التي يمكن رصدها في المجتمع العراقي في الوقت الحاضر، هي احتضار (الثقافة) وانحسار (الوعي) ليس فقط بين جمهور (العامة) من شرائح المجتمع (المنمطة) فحسب، وإنما بين جمهور (الخاصة) من نخبه وعلية قومه (المؤدلجة) كذلك. ومن أهم علائم هذا الاحتضار وأبرز تمظهرات هذا الانحسار، هو استشراء ظاهرة عزوف (القارئ) بعد أن لمس كسوف (المقروء). حيث انطفأت لدى القارئ العراقي جذوة الحب (للقراءة) التي كان شغوفا"بها، وخبى لديه وهج البحث عن المعرفة التي كان حريصا"على حيازتها، وذلك بعد أن لمس تراجع وتقهقر القيمة العلمية والمعرفية (للمقروء)، وتدنى من ثمة مستوى التحليل والتأويل والتأصيل للقضايا والمسائل الملحة التي كانت ولا تزال تؤرق الإنسان العراقي وتقض مضاجعه، سواء أكان ذلك على صعيد (الجغرافيا)، أم على صعيد (التاريخ)، أم على صعيد (السياسة)، أم على صعيد (الاقتصاد)، أم على صعيد (الدين)، أم على صعيد (الأخلاق)، أم على صعيد (الحضارة).

ولما كان ازدهار (الثقافات) ورقيّ (المعارف) مقترنا"بشكل عضوي بعوامل التحرر والتغير والتطور، فإن العدول عن مسايرة وملاحقة هذا السيل الهادر من التحولات العاصفة والانزياحات الجذرية، ومن ثم الإبقاء على ذات الإيقاع المكرر والرتيب من التعاطي مع الأحداث السياسية الساخنة والوقائع الاجتماعية الصادمة والانعطافات التاريخية الحادة، لابد وأن ينعكس سلبا"على حالة (الثقافة) العامة للمجتمع، مثلما على نمط تفكيره ومستوى وعيه. ولهذا فليس من المستغرب أن نشهد ظاهرة (العزوف) الجماعي للعراقيين عن ممارسة القراءة الجادة، والإقلاع عن تتبع كل ما يصدر من جديد في مجالات العلم والفكر والثقافة والآداب بالمعنى التنويري والإنساني، وليس بالمعنى التقليدي والتراثي كما هو سائد الآن.

فبعدما كانت في السابق صيغة القول الشائع ؛ ان المصري يؤلف واللبناني يطبع والعراقي يقرئ، تحايث الواقع وتلامس الحقيقة أضحت اليوم تلك الصيغة بعيدة عن الأول ونائية عن الثانية. ليس فقط على خلفية الأوضاع السياسية الملتهبة، والظروف الاقتصادية الصعبة، والعلاقات الاجتماعية المضطربة، والتوجهات الإيديولوجية المتقلبة فحسب، بل وكذلك لما لحق بالثقافة من خراب وما أصاب المثقفين من يباب !. إذ رغم كثرة التأليف وغزارة النشر، لم يعد السرد الفكري والثقافي الذي تنتجه (الانتلجنسيا) العراقية، يعكس هموم الواقع الطافح بالمشاكل والفائض بالإشكاليات، مثلما لم يعد يعبر عما يجيش في رحم المجتمع الضاجّ بالتناقضات والصراعات. وإنما تحولت النصوص المقروءة – يستوي في ذلك الأكاديمي منها أو غير الأكاديمي - الى سرود (مكررة)، لا تحتوي مضامينها على أية أفكار جديدة أو تصورات مبتكرة، بقدر ما أدمنت عملية (الاجترار) لذات الإشكالات التي سبق وان كانت مطروحة على بساط البحث والنقاش من قبل.

والملاحظ على غالبية النصوص (المقروءة) التي أجادت بها قريحة (المثقفين) العراقيين، لاسيما تلك التي صدرت وتكاثرت بعد عام السقوط 2003م، والتي حملت مضامينها الرثة كل ما من شأنه (عزوف) القارئ العراقي عن متابعتها باهتمام ناهيك عن قراءتها بجدية. أنها تميّزت بمجموعة من السلبيات والمآخذ التي يمكن إيجاز أبرزها على النحو التالي:

أولا"- رغم ان معظم النصوص التي صدرت خلال هذه الفترة تمحورت حول قضايا المجتمع العراقي، التي لا يخفى على (القارئ) مدى خطورتها وحساسيتها بالنسبة لحياة المواطنين، إلاّ أنها تحاشت - قدر الإمكان - الاقتراب من الخلفيات التاريخية والمرجعيات الدينية لتلك القضايا الملتهبة، مثلما تجنبت الغوص في أعماق الظواهر السوسيولوجية والانثروبولوجية المتمخضة عنها على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، بحيث تركز همها حول كل ما أضحى مشاعا"من هموم ومعاناة ومكابدات.

ثانيا"- أن هذه النصوص حين تدرس ظاهرة من الظواهر الاجتماعية والإنسانية الطاغية في المجال السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديني أو الثقافي، لا تتناولها في إطار علاقاتها البنيوية وتفاعلاتها الجدلية مع بقية الظواهر الأخرى المحايثة لها والمتزامنة معها، بحيث تبدو كشبكة متعاضدة ومتخادمة على صعيد المعطيات والتأثيرات. كما أنها لا تأخذ بعين الاعتبار مجمل السياقات الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والثقافية التي تسهم بتكوين تلك الظاهرة وتمنحها الخاصية النوعية التي تميّزها عن سواها.

ثالثا"- إذا ما صادف ووجد نص (شاذ) يخرج عن هذا النمط النسقي من الكتابة التقليدية، من حيث مراعاة تجنب الوقوع في مطب مثالب وعيوب الفقرتين الأولى والثانية، فإنه غالبا"ما يختار لمتنه حقبة تاريخية معينة (عثمانية، ملكية، جمهورية) يتحصن فيها ويتمترس خلفها دون أن يبدي أية جرأة على تخطي تخومها وتجاوز حدودها، والتي لم يكن ممكنا"للظاهرة موضوعة البحث فرصة للوجود ضد شروطها وخارج مجالها. أي انه يتعمد تجاهل خلفيات (الماضي) ويتغافل عن احتمالات (المستقبل)، بحيث تبدو الظاهرة المعنية كما لو أنها نبتة برية انبثقت الى الوجود الاجتماعي في غفلة من الزمن.

من هنا لم يعد أمام (القارئ) العراقي ما يغريه ويجعله متحمسا"في سيل النصوص المتهافتة، سوى أنها تعيد وتكرر عليه ما سبق له قراءته والاطلاع عليه في العشرات – إن لم تكن المئات – من المصادر الثقافية والإعلامية ووسائط التواصل الاجتماعي، التي باتت تعج بالكثير من (التحليلات) و(التأويلات) من كل صنف ونوع، دون أن تضيف الى رصيده الثقافي ومخزونه المعرفي ما يجعله أكثر إدراكا"وأكثر وعيا"!.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

في المثقف اليوم