قراءة في كتاب

عبد الجبار الرفاعي: كتاب دروب المعنى

لم أكتب هذا الكتاب كتابة متواصلة، ولم أخطط لإصدار كتاب بهذا العنوان. كنت، كلما ولدت في ذهني فكرة، أو ألهمتني مطالعاتي، أو حاولت تقديم تفسير لظاهرة معينة، أدوّن رأيي في دفتر خاص، وبعد شيوع الهاتف الذكي، اتخذته وسيلة لتدوين هذه الأفكار. قبل استعمالي لهذا النوع من الهواتف، كانت بعض الأفكار تولد قبيل النوم، وأنا في الفراش، فأعمل لها صياغة لغوية في الذهن، وأقرر تدوينها صباحًا، غير أن ذهني يخذلني، وأنا أبحث بلا جدوى عنها، وعن أية ومضة لكلمة ترشدني إليها، مما دعاني إلى المبادرة بتدوينها قبيل النوم، وإن كنت أحيانًا، لفرط الإرهاق، لا أجد في نفسي القدرة على النهوض من الفراش والكتابة في الهاتف. هربت من ذهني أفكار وتفسيرات لظواهر، أظن كان تسجيلها مفيدًا لي وللقراء، لو تم تدوينها لحظة انبثاقها كضوء قبل أن ينطفئ. حاولت بعد عدة سنوات تنظيم ملفات لكل مجموعة، وبعد مضي عشرين عامًا تراكم لدي ما يقرب من مئة وخمسين ملفًا، يتسع كل ملف إلى مئة فقرة أو أكثر. كنت أعود إليها أحيانًا حين أتذكر، وأنا أكتب، أنني تناولت هذه القضية وكتبت عنها بإيجاز يومًا ما، عساني أقرأ ما يمكنني من العثور على مفاتيح تهديني إلى الحديث عنها. وكلما رجعت إلى هذه النصوص، رأيت فيها ما هو جدير بالنشر.

بعد تنقيح هذه النصوص وتصفيتها وغربلتها، اخترت منها مجموعة ضمها هذا الكتاب، واستشرت في نشرها بعض القراء ممن أثق بذكائهم ومواهبهم، فاتفق كل مَن اطلع عليها على ضرورة نشرها، بل حثني بعضهم على إصدارها، لأنهم رأوا أنها ستكون مقروءة أكثر من مؤلفاتي الأخرى، لكونها تتناغم مع إيقاع القراءة في عصر يكاد كثير من القراء يغادرون فيه الكتب الكبيرة، ويبحثون عن شذرات ونصوص وفقرات صغيرة، تقدم فكرة ذات صلة مباشرة بحياة الإنسان.كان بعض القراء، ممن لا أعرفهم، يستحثني على الاختزال والتكثيف في الكتابة، وتقليل عدد كلمات المقالة، حين يطالعون مقالاتي الأسبوعية التي أنشرها منذ سنوات في الصحف والمجلات. أدركت أننا نعيش مع قراء مختلفين في العصر الرقمي، الذي يفرض علينا إيقاعه المتعجل، ويلزمنا أن نواكبه بما نمتلك من طاقة واستعداد، لئلا يسحقنا قطاره إن تباطأنا أو توانينا عنه. القراء من الجيل الجديد أشد استعدادًا منا للتناغم مع إيقاع سرعة قطار الذكاء الاصطناعي المذهلة. حفزني ذلك على مراجعة هذه النصوص، وعندما طالعتها بمجموعها، قلت: لمَ لا أعمل منها كتابًا يعكس خلاصة رؤيتي للإنسان والدين والعالَم، ويتعرف فيه القارئ على دعوتي لتجديد الفكر الديني، ويقدم أفكاري في نصوص صغيرة لا تتجاوز بضع كلمات، وتكون مقالاتي فيه بمثابة "مقالة في فقرة"، مقالة تستوفي ما أريد قوله بكلمات قليلة، تحاول التخلص من فائض الألفاظ، وتبتعد ما أمكن عن المحسنات البلاغية، والتفاصيل والجزئيات، لتعرض للقارئ رأيي ورؤيتي بصورة مكثفة. وأخيرًا، اقتنعت بضرورة نشر هذا الكتاب، لمن يبحث عن خارطة طريق واضحة، تدله على المفاهيم المحورية في تفكيري الفلسفي والديني، وفهمي للإنسان والحب والدين والحياة.1790 refqei

كما استحثتني أكثر الطلبات التي تصلني على الدوام من طالبات وطلاب دراسات عليا يكتبون عن أعمالي، تدعوني لإنارة مصابيح تضيء لهم طريق البحث، وهم في أول دروب اكتشاف رؤيتي، والأفكار المحورية في أعمالي. خاصة أن رؤيتي وأفكاري مبثوثة في هذه النصوص، بتعبيرات وتنويعات كثيرة. حين ينشد أحد التعرف على فهمي للفلسفة وضرورة حضورها اليوم، وكيف أن الحاجة المعرفية لها تتجدد وتتعمق وتتضاعف بازدياد الأسئلة الكبرى في عصر الذكاء الاصطناعي، تلك الأسئلة التي عجز العلم عن الجواب عنها، كما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يجيب عنها، هذا الذكاء لا يتوقف عند تعميقها فقط، بل يجعلها تتوالد ولادات متواصلة لإنتاج أسئلة أعقد وأعمق منها، تواجه العقل والدين والقيم، ولم يطرحها العقل والعلم والمعرفة البشرية من قبل. وحين ينشد أحد التعرف على تفسيري لحاجة الإنسان إلى الحب والدين، بوصفهما من أغزر منابع المعنى لحياة الإنسان، في زمان تبددت فيه معاني الحياة، وخسر الإنسان بفقدانها السكينة والطمأنينة والأمان، وأصبح يعيش في عالم تتكدس فيه الأشياء المادية، وتتلاشى فيه معاني الحياة.

لا يلتقي القارئ في هذا الكتاب برؤى وتفسيرات غريبة عمّا ورد في مؤلفاتي، أو رؤى تتنكر لما كتبته في سلسلة مؤلفاتي عن الإنسان والحب والدين والفلسفة، وإنما يقرأ أفكاري ذاتها، بلغتي وكلماتي ذاتها، وما أضيفه هنا هو شروح ومزيد من التوضيحات لتلك الأفكار. لا حاجة للقول إني مدين لكل كتاب أحدث انعطافة في طريقة تفكيري، ودعاني للعودة إلى المفاهيم الأساسية في ذهني، وتفحصها وغربلتها وتمحيصها من جديد، واختبار عقلانيتها، وقدرتها على الصمود عند النقد العقلاني الصارم. وهذا ما يدعوني لأن أعترف بأني تلميذ لكل معلم كبير من الكتّاب الذين قرأت لهم. فقد أنفقت حياتي في القراءة، وقرأت كل ما وقع تحت يدي من كتب. حاولت أن أقرأ الكل، وأنسى الكل، كي أنتج قراءتي الخاصة للإنسان والحب والدين والعالم.

مكثت مدة أفتش عن عنوان يتناسب ومحتوى هذا الكتاب، بوصفه يتسع لسيرة كاتب، وتطور فهمه لحياته وقراءته وكتابته، وكيفية تشكّل فهمه وتفسيره للإنسان، وطبيعته المتضادة في ذاتها، واغترابه الميتافيزيقي، وظمئه الأنطولوجي، واحتياجاته العميقة للمعنى، إثر هذا الاغتراب والظمأ، مما يفرض ضرورة حضور العقل والحب والدين في حياته، ليحدث توازن بين العقل والروح والقلب، ويظل العقل مرجعية نهائية في الحكم نفيًا وإثباتًا. لم يولد العنوان إلا بعد انتخاب مجموعة عناوين، واستبعاد أخرى، والتردد، وانتقاء أحدها لأشهر، والانصراف عنه لاحقًا، واختيار غيره، وهكذا. أخيرًا، في يوم الإخراج النهائي للكتاب لدى الناشر، وقع اختياري على عنوان: "دروب المعنى في الفلسفة والدين والحب والحياة". عنوان "دروب المعنى" يعرّف حياتي بأنها رحلة للبحث عن المعنى، والسعي للكشف عن منابع إنتاجه في الفلسفة والدين والحب. وبما أنه العنوان الأساسي للكتاب، فهو يستوعب أكثر مضامين النصوص الواردة فيه.

 في عنوان هذا الكتاب فضلت استعمال مصطلح "الدروب" وفقًا لمارتن هايدغر، بدلاً من "الطرق". في الدروب، يسير الإنسان بلا خارطة مسبقة، تتكشف له الخارطة تدريجيًا وهو يسير، وكأنه يسير في غابة بحثًا عن معنى وجوده وحياته، بخلاف الطرق التي تكون فيها الخارطة واضحة قبل السير.

يرى القارئ أن هذه النصوص تتحدث عن أسئلتي وتأملاتي واعترافاتي، وشيء من إجاباتي المقترحة عن الأسئلة، فقد كنت وما زلت أبحث في الفلسفة والدين والحب عن المعنى لوجودي كإنسان، والمعنى لوجود العالم الذي أعيش فيه، ولوجود كل شيء فيه. ويلاحظ القارئ الذي يواكب صدور مؤلفاتي هذا الخيط الناظم لما انشغل فيه عقلي من أسئلة وتفسيرات ورؤى واقتراحات لأجوبة عن أسئلة المعنى المتنوعة والمتوالدة. عنوان "دروب المعنى" يعكس ما ورد من نصوص ترسم خارطة لطريقة تفكيري الفلسفي، وكيفية تذوقي للحب، وحضوره في قلبي بوصفه أعذب معاني الحياة، وكيف صيّرني الحب مستثمرًا أبديًا فيه، بعد أن تذوقت فيه ما لم أتذوقه في سواه. من صنائع الحب في حياتي أنه أسهم بفعالية عالية في خلاصي من ارتداد الآثار الموجعة للشر الأخلاقي على حياتي، وأسهم في تهذيب أخلاقي، وتطهير سلوكي، وجعل كل إنسان في مأمن مني، مهما كان مشاكسًا، أو مختلفًا عني في آرائه ومعتقده ومواقفه وسلوكه. ومن صنائع الحب ظهور أثره في حمايتي من شرور الإنسان، وخفض أثر النزعات العدوانية له في العبث بأمني الشخصي. وصار الحب مرآة يتجلى فيها الإيمان بالله في حياتي، بما هو منبع لسكينة الروح وطمأنينة القلب، عساني أستطيع أن أصيّر حب الله دينًا، ودين الله حبًا.

وردت نصوص هذا الكتاب متنوعة، ولم تنتظم في مجموعات تترتب موضوعيًا. أظن أن هذا النوع من الكتابة الحرة يعكس رؤية جمالية في تنوع الموضوعات، بكيفية تتيح لمن يقرأ هذا الكتاب أن يقرأ أية صفحة في نهايته، أو وسطه، أو بدايته، فيتلذذ فيها بمتعة القراءة، ولا يعاني من الرتابة والملل،كما يحدث عادة في الأعمال المنتظمة منطقيًا، والمكتوبة بلغة جافة.كنت أنشد من عدم تسلسل نصوص الكتاب وانتظامها موضوعيًا أن يشعر القارئ أيضًا بتفاعل وحيوية في التنقل من نص في الحب مثلًا، إلى نص في الفلسفة، إلى نص في الدين، إلى نص يتناول موضوعًا آخر، وكأن القارئ سائح في مدينة تتنوع الأنماط المعمارية لمبانيها، أو حديقة تتنوع أشكال وألوان وعطور أزهارها. ومن أجل تيسير البحث في الكتاب، بادر الأخ عبد العاطي طلبة، مشكورًا، بوضع كشاف للموضوعات في خاتمة الكتاب، يشير إلى الأرقام المتسلسلة الواردة فيها موضوعات النصوص، حسب موقعها في الكتاب.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

..................

* مقدمة كتاب: "دروب المعنى في الفلسفة والدين والحب والحياة"، لعبد الجبار الرفاعي، يصدر الكتاب في جزئين قريبا عن: دار خطوط وظلال في عمّان – الأردن.

 

في المثقف اليوم