قراءة في كتاب

سناء عبد القادر: قراءة في كتاب سجين الشعبة الخامسة

كثيرون اللذين كتبوا عن حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في كردستان العراق في الفترة 1979-1985 ولكن في هذا الكتاب يطرح المؤلف تجربته الشخصية في خضم احداث هذه السنوات المريرة والصعبة من بدايتها وحتى نهايتها والتي أصبحت تاريخا يعتز به الرفاق اللذين عايشوها بمرارتها وصعوبتها وحتى حلاوتها إذا سمحنا لأنفسنا أن نطلق هذا التعبير عليها. توخى الكاتب قول الحقيقة كما هي بدون تزويق انطلاقا من الموضوعية الصادقة التي يتمتع بها وإيمانه بمبدأ النقد والنقد الذاتي الذي يبني ولا يهدم.

يأخذنا المؤلف في رحلة للتعرف على زنزانة رقم 3 التي قبع فيها 87 يوما (ص278).

" للذاكرة مساحات تتسع لحجم الحدث وقوته وهناك ثمً بشر ذاقوا طعم المرارة والخيبة في هذا المكان المخيف لكنهم لم يميطوا اللثام عن أفواههم عمًا جرى لهم خوفاً من قسوة النظام وطول لسان المفلسين والمهزومين للكشف ولو عن جزء بسيط من تفاصيله، ولا حتى عن أركان بنائه وشخوصه ومهرجانات الدم والموت فيه." (ص13).

ويستمر الكاتب " وثمً بشر آخرون انجرفوا مع مياه المستنقع نحو مياه نهر دجلة، فضاعوا تحت أمواجه. وضاعت معهم ذكريات المكان وآلام المشهد المرعب... انها الشعبة الخامسة، الاستخبارات العسكرية العامة، وأنا أحد الناجين، بل ممن كتب لهم التاريخ فرصة الإنقاذ بأعجوبة في غفلة تاريخية من الزمن القاتل " (ص13).

بهذه السطور والكلمات والتعابير يصف أبو بيدر في كتابه الموسوم سجين الشعبة الخامسة زنزانة سجنه في الكاظمية ببغداد في الشعبة الخامسة التابعة للاستخبارات العسكرية العراقية. كما يصف جلاديه اللذين عذبوه وطريقة تعذيبهم ومستواهم الأخلاقي وأسلوب انتزاع الاعترافات بالقوة ونزلاء هذا السجن من مختلف الأحزاب السياسية من أجل التعاون معهم، أما الذي يصمد تحت التعذيب فمصيره الموت أو الإعدام شنقا حتى الموت، هذا من جهة وكذلك يصف مدى تفهم ونظرة الرفاق والناس الآخرين للذي يعترف ويتعاون مع سلطة البعث من جهة أخرى.

" كانوا يستخدمون كل الأساليب لإجبارنا على الحبو أو تقليدنا لأصوات الحيوانات كأسلوب لتجريدنا من آدميتنا ولزرع عوامل الخذلان واليأس والإحباط فينا. حتى عندما تنتهي من حاجتك وفي الطريق الى الزنزانة تجدهم في طريقك واقفين ويتحينون الفرصة في توجيه الضربة تلو الأخرى مع سيل من السب والشتائم السوقية " (ص27).

بهذا المنطق والطريقة كان السجانين يتعاملون مع نزلاء سجن الشعبة الخامسة غير آبهين بما ستؤول لهم صحة أبدان المعتقلين حتى ولو استشهدوا تحت التعذيب.

يستعيد الكاتب ذكريات النضال اثناء العمل ضمن مفارز أنصار الحزب الشيوعي العراقي وهو في زنزانته حيث يقول: " وصلت الى قاطع بهدينان الفصيل المستقل الذي يعنى بتنظيمات الداخل وإعداد كوادر متدربة على العمل السياسي (السري) والذي يوجد فيه عشرات الكوادرالحزبية"(ص31). ويستطرد المؤلف في الكتابة حيث يقول: " في قاطع بهدينان كانت كل الطرق سالكة تقريباً بما فيها النزول الى بغداد طبعاً على الرغم من وجود بعض المخاطر الجدية" (ص 32). ومن خلال علاقات الرفاق في محلية الموصل مع القصبات المحيطة بالموصل ودشت الموصل تمكن الرفيق لطيف (الاسم الحركي لمحمد السعدي) من النزول الى بغداد مرتين في العام 1986 من خلال المحطات الحزبية. ويضيف

لطيف: " أود أن أذكر هنا أن صعودي الثاني الى كردستان أخذته على عاتقي الشخصي ربما في حينها كنت مضطراً لظروف طارئة وتطورات ميدانية لم تكن في الحسبان " (ص32). لم يفلح الرفيق لطيف في الوصول الى سلسلة جبال القوش وشيخان بسبب انتشار الربايا والمواقع العسكرية المحيطة بالقرية التي مكث فيها ثلاثة أيام مما اضطر للعودة الى بغداد. حيث تمكن من إيجاد عمل مناسب ومكان آمن بعيداً عن أعين الرقيب في العاصمة بغداد (ص33).

" كان عام 1986 عام حزن وضياع رفاق درب ومناضلين. عام بداية تحطيم تنظيم المنطقة الوسطى وتحديداً في بساتين (جديدة الشط) محافظة ديالى حيث تمكنت مجموعة بطلة من الشيوعيين العراقيين من التسلل من جبال كردستان وبناء قواعد حزبية في ريف ديالى، منطلقين من احدى بساتينها للعمل الحزبي " (ص34).

من المواضيع المهمة التي تناولها الكاتب في خضم الاحداث التي عاشها هي:

-    خروج عدد من قيادة الحزب الشيوعي العراقي في العام 1979 وعلى رأسهم سكرتير الحزب عزيز محمد الى الاتحاد السوفيتي (موسكو) والدول الاشتراكية مثل بلغاريا وهنغاريا وألمانيا. وهنا يتذكر كاتب هذه المقالة يوم دعي مع بقية الرفاق اللذين كانوا يدرسون في المعهد العالي للاقتصاد الوطني في مدينة أوديسا بأوكرانيا الى لقاء مع نائب عميد المعهد لشؤون الطلبة الأجانب الذي أخبرهم بأن عدد من قيادة الحزب الشيوعي العراقي موجودين في موسكو. قمنا وقتذاك بإخباره عن الوضع السياسي في العراق من اعدامات واعتقالات في صفوف الحزب الشيوعي العراقي منذ ربيع العام 1978على الرغم من وجود الجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي تضم حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي. وسبق وأن سمعت نفس خبر لجوء عدد من قيادة الحزب الشيوعي العراقي الى موسكو من أب زوجتي المرحوم ميخائيل بوغدانوف الذي كان يعمل في مصنع لإنتاج معدات الاتصالات السلكية واللا سلكية في مدينة أوديسا وكان عضوا في لجنة الحزب الشيوعي السوفيتي في المصنع. معنى ذلك أن هذه الاخبار كانت موجودة لدى جميع المنظمات الحزبية في الاتحاد السوفيتي حينذاك.

قامت الأجهزة الأمنية بحملة اعتقالات واسعة للكوادر الوسطية في الحزب الشيوعي العراقي وكان الهدف هو قطع الصلة الحزبية بين الخلايا والهيئات القاعدية والمحلية من جهة والهيئات الحزبية العليا على مستوى اللجان المنطقية والمركزية من جهة أخرى. كانت خطة ذكية ومدروسة لاسيما وأنه تم كشف الكثير من تنظيمات الحزب الشيوعي خلال أيام الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، ناهيك عن الاندساس من قبل عناصر الامن العراقي داخل الهيئات الحزبية على الرغم من كشف هؤلاء المندسين من قبل رفاق الهيئات الحزبية القاعدية واشعار الهيئات العليا بذلك ولكن دون جدوى وهذه اللأبالية من قبل قيادة الحزب الشيوعي العراقي أدت الى اعتقال الكثير من أعضائه وأصدقائه وتعرضهم الى أقسى العقوبات التي وصلت الى حد الإعدام.

يقول المؤلف في صفحة 174من الكتاب ما يلي: " في تلك السنوات عندما اشتدت الهجمة علينا، فتح النظام حدوده وأجواءه لأفواج من الشيوعيين لترك البلد والانتقال الى الخارج ومازال العديد يعتبرها بطولة حين استطاع الإفلات من قبضتهم غير مدرك أنها كانت واحدة من خطط النظام في إفراغ الشارع من وجودنا، لكن في المقابل أعتقل المئات وتمت تصفيتهم في زنازين الأمن والمخابرات. لو أرادت أجهزة الدولة في ذلك الزمن من سد الحدود والمنافذ أمامنا، لتعذر خروج الآلاف من الشيوعيين، لكن وعلى مدى السنوات اللاحقة كان أسلوب النظام هو الأجدر في محاربتنا وتهميشنا بهذه الطريقة والعديد من الرفاق أدركها متأخرا. وكنا نتساءل وبهمس لماذا هذا الهروب الجماعي؟ وترك الساحة لهم في الاستحواذ على مقدرات شعبنا في العيش والتطلع. وفي الصفحة 175 ورد ما يلي: "رويت واقعة عندما همً عزيز محمد سكرتير الحزب في الخروج من مطار بغداد للهروب، قدًم جوازه باسم آخر منتحل إلى ضابط المطار فقال له أهلا بالرفيق أبو سعود، متى تعود لنا ثانية؟ أجابه لمدة أسابيع، فالسلطات على علم كامل بهروبنا من العراق بل كانت واحدة من أساليبها ضدنا وحققت نجاحات كبيرة بها والمستقبل هو الكفيل بكشف تداعيات هذا الهروب ونتائجه السلبية المستقبلية على آفاق عملنا في مواجهة أساليب النظام".

من المضحك والمبكي في آن واحد أن الرفيق عزيز محمد أبو سعود معروف لسلطات الأمن والمخابرات العراقية منذ يوم خروجه على شاشة تلفزيون بغداد مع أحمد حسن البكر في شهر تموز العام 1972 حينما قام الاثنان بتوقيع ميثاق العمل الوطني والذي بموجبه تم إقامة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية بين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي.

- الخطوط المائلة والاندساس من قبل السلطة داخل فصائل الأنصار

قامت قوات الأمن والاستخبارات العراقية بدس أعوانهم داخل فصائل الأنصار مثل أبو طالب وقادر رشيد وأبو بهاء وشهاب ووحيد وراضي أخو وحيد وعلاء سفر وعادل موات وحسين من أهالي بغداد الجديدة. ص183- ص190.

" في العام 1986 تم اعدام الرفيق الحجي أبو جيفارا (محمد وردة) من قبل البعث وحكم على والدته البالغة من العمر 80 عاما بعشرين سنة والتي تولت حينذاك نقل السلاح والبريد من كردستان الى قيادة التنظيم في محافظة ديالى وبغداد في ظروف استثنائية وصعبة، كما حكم على أخيه سردار أيضا من قبل البعث. والذي قام بتسليم الحجي الى مديرية أمن دهوك هو شهاب العميل المزدوج، الذي نفذ طلب الجهات الأمنية في اغتيال الرفاق أعضاء محلية دهوك أبو رؤوف وأبو خالد ونصير آخر" (ص183).  " في واحدة من المرات توجه أبو بهاء الى بغداد عبر تنظيمات الموصل (هذا ما حدثني به الرفيق عامل)، وهم في دشت الموصل قرية دوغات، طلب الرفيق عامل من أبو بهاء التريًث بالنزول وذلك بسبب وجود ورود معلومات تفيد بوجود استنفار أمني وعسكري في المنطقة وسيطرات موزعة، لكن أبو بهاء أصرً على النزول والتوجه الى الداخل، فوقع في أول سيطرة أمنية ولحسن الحظ كان شهاب العميل المزدوج ضمن مفرزتها وشاهد السرعة والصفقة التي تمًت بين أبو بهاء وضابط الأمن في لملمة القضية بلمح بصر، وخوفا من تداعياتها بوصول الأخبار الى تنظيمات الحزب فقد تمً وفي نفس الساعة إخلاء سبيل أبو بهاء بل رتًبت بعناية طريق وصوله بسلام الى مدينة الموصل، مما دعا العميل المزدوج شهاب إلى ابلاغ التنظيم في الساعة واليوم عما جرى مع تحديد ملامحه وملابسه، وبقيت العملية محصورة وسرًية التكهنات في الهمس والعلن، لكن كلً التقديرات تشير إلى شخصية أبو بهاء، لكن أبو بهاء وصل الى بغداد ولم تعد الفرصة سانحة للتحقيق معه وذلك حتًى حلًت جلسة انعقاد المؤتمر الرابع للحزب في كردستان، هذا وقد دعي أبو بهاء ضمن مدعوًي المؤتمر من الداخل وكانت الفرصة مؤاتية لقدومه الى كردستان. وفي الأيام الأولى من وصوله فتح ملف تحقيق معه، لكنه كان يستبعد في حديثه ويتجاهل ما يسمعه بل أحيانا يستهزىء ممًا دعا قيادة التنظيم الى استدعاء العميل الى مناطق العمادية، بعد أن يئسنا في انتزاع أي معلومة تدلنا على ما حدث وذهبوا بحجة مفرزة استطلاعية مع أبو بهاء كلً من الرفاق أبو طالب الذي أعدم أيضاً لقضية مشابهة لارتباطه بأجهزة المخابرات وأبو برافدا والملازم آزاد وذلك بالتنسيق مع محلية دهوك، وعندما حدث اللقاء بساعة الصفر شخص العميل المزدوج شهاب أبو بهاء من بين رفاقه فخارت قواه سريعاً، وأدرك خطورة وأذية مهمته الحقيرة في العمالة، وفي حينها أصبح معتقلا وجرًد من السلاح وجاءوا به معتقلاً الى موقع الفصيل المستقل، وأخذ التحقيق معه مجراً آخراً بيًنته في صفحات أخرى. لكن في اليوم التالي علمت أجهزة الأمن بما جرى بالتفصيل الممل فاعتقلت السلطات العميل شهاب وعائلته وردا للاعتبار طلبت السلطات منه تصفية قادة دهوك وعلى وجه السرعة طلب العميل شهاب باجتماع مع قادة المحلية لأمر مهم وتمكن من اغتيال ثلاثة من الرفاق المذكورين أعلاه واختفى شهاب الى الأبد، هنا السؤال المحير والذي شغل بال الجميع وقتذاك في السرعة الخارقة لوصول الخبر إلى السلطات وسرعة تنفيذ العملية ودقًتها وسريًتها في اغتيال الشهداء الثلاثة " (ص183-184).

كانت توجد خيوط متشابكة تديرها الأجهزة الأمنية ومثال على ذلك التحاق علاء سفر وعادل موات وحسين من أهالي بغداد الجديدة بعد اعترافهم بذلك (ص186). يواصل الكاتب في صفحة 187 كيفية اكتشاف ارتباط وحيد بالأجهزة الأمنية حيث يقول:

" ومما عزز الشبهات حول وضع وحيد الأمني هو التحاق مجموعة تدًعي انًها من تنظيمات بغداد وذلك عن طريق وحيد وذلك بالتنسيق مع مجموعة من معارفه في قاطع بهدينان وتحديداً من الذين كانوا أكثر قرباً للأخ وحيد وهو الدكتور كريم دبش.

وقد كشفت مجريات التحقيق في كردستان مع الرفاق الملتحقين الجدد أن عملية الالتحاق تمت عبر وسطاء مشبوهين في قضاء العمادية، هنا حاول التنظيم التضييق عليً بسبب موقفي الواضح والصادق تجاه الأحداث، لكني دافعت عن قناعاتي وأسلوبي في العمل وطريقة تحركي في العمل الحزبي وعدت ثانية الى العاصمة بغداد بمعنويات أعلى لأني أدري جيداً بما يجري هناك"(ص187).

كان علاء سفر وعادل موات وثالثهم حسين من بغداد الجديدة جميعهم يدرسون في كلية الهندسة بجامعة بغداد ينحدرون من عوائل يسارية وهم شيوعيون سابقون. ونتيجة الاعتقال والتعذيب في العام 1979 جنًدوا في أجهزة الأمن مقابل الحفاظ على حياتهم وسمحت لهم الأجهزة الأمنية بمواصلة نشاطهم الحزبي ولكن تحت اشرافها ورعايتها وينسجم مع خطط هذه الأجهزة في محاربة الشيوعيين والنيل من سمعتهم.

كانت الأجهزة الأمنية تقوم باستنساخ جريدة طريق الشعب بعد حصولها على العدد الجديد وتقارير اللجنة المركزية وبياناتها من الخط الحزبي المصطنع الذي يضم في صفوفه شيوعيين يمارسون نشاطهم الحزبي بصدق وتفاني، ولم ينتبهوا لشبهات هذا الخط الحزبي وارتباطه بالأجهزة الأمنية، وحين تشعر بخطورتهم تقوم باغتيالهم (ص 188). 

كان راضي دبش الطالب في جامعة بغداد أخو وحيد أحد النشطاء في الخط الحزبي الموهوم، التقاه أبو بيدر (لطيف) في العام1987 وبات في بيتهم ليلة واحدة وتمت مفاتحته بمصير رفاقه لكنه لم يصدق بالأمر ودافع عنهم بكل صدق، فلو كان عميلا لقام بتسليمه الى المخابرات العراقية، وهو بذلك أي لطيف يسجل رأيه بكل أمانة وانصافا للتاريخ والضمير، لأنه كان يوجد رفاق داخل هذا الخط الحزبي واصل عمله بكل صدق وأمانة حزبية (ص 188-189).  في حين " وصل علاء ورفاقه عادل وحسين الى كردستان، قاطع بهدينان وحسب اعترافاتهم في التحقيق وتحت التعذيب في فصيل الدوشكا في منطقة زيوة وبعد أن مضت فترة على وجودهم وتًم تسليحهم وتنسيبهم الى الفوج الأول في بهدينان، كشف أمرهم صدفةً من خلال حديثهم حول آفاق عملهم ومستقبل وجودهم القلق وغير الآمن، لكنهم لم يفطنوا إلى أن أحد الرفاق كان متدثرً في فراشه وتحت البطانية في نفس الغرفة التي تمً الحديث بها فتمكن هذا النصير من تلقف جزء مهم من أطراف حديثهم وبلًغ عنهم الجهات المسؤولة وتم اعتقالهم فورا وتعرضوا الى وسائل تعذيب مرفوضة ولا تليق بنا وبمشروعنا السياسي، أجبرتهم على النطق والاعتراف بكل شيء. شملت اعترافاتهم إدانة وحيد وأخيه راضي ونفًذوا بهم الحكم بعد أن أنهوا التحقيق معهم"(ص189).

-    مسافات الحق والباطل، ص 250 -270

يلخص الكاتب في هذه الصفحات العشرين أحداث مهمة جدا عاشها بصعوبة ولكن برباطة جأش ساعدته على تخطي الصعاب والتي أولها ترك مواقع الأنصار (ص 250). كان وقتذاك أمامه خيارين أحدهما العودة الى بغداد أو التوجه الى ايران. اختار الخيار الثاني وتوقع بأنه سوف يتعرض الى حملة تشهير كبيرة، لأن تجارب الآخرين ترن كما يذكر في وجدانه وضميره " وهذا كان ديدن العمل الحزبي الذي كان يضم مجموعة من الضعفاء والمتخاذلين المكلًفين بأداء المهام الصعبة فخير وسيلة للدفاع عن ضعفهم هو شنً الهجوم على المناضلين، لكنها كانت مفضوحة وقصيرة وربما تمكنوا من التستر تحت الرذيلة المسلكية الحزبية التي كانت طاغية على عملنا الحزبي" (ص250).

كان قرار الخروج من كردستان ليس سهلا وكم حاول أبو ناصر أن يثنيني عن قراري هذا ولكن باءت محاولاته بالفشل أمام اصراي على الخروج فقال كلمته الأخيرة: " أتمنى لك الجوع والألم والضياع في ايران " (ص252). تحركت المفرزة في الشهر الأخير من العام 1987 والثلوج قد غطت قمم الجبال وغزارة الأمطار تملأ الوديان وتفيض النهران. تحت هذا المشهد الحزين قام النصير لطيف بتوديع أجمل الرفاق وقام بتسليم سلاحه في اللحظات الأخيرة حيث كان متوجساً من سلوك البعض في المفرزة. كانوا عشرين نصيرا يمشون في الليل وينامون في النهار بسبب حركة قوات السلطة في المنطقة. ولا يحمل لطيف وعلي السلاح حتى للدفاع عن أنفسهم. وصلوا في يوم ممطر الى قرية قزلر وجميع ملابسهم مبلًلة بسبب المشي المتواصل لساعات تحت زخات المطر الكثيف. تم استقبالهم من قبل سكان القرية بكل ترحاب وتعاطفا معهم. شعلوا لهم النار في المسجد للتدفئة وتجفيف الملابس من المطر. بعد تناول العشاء عادوا جميعهم الى المسجد وتناوبوا الحراسة حتى الصباح الباكر. بعد الانتهاء من تناول وجبة الفطور تم تبليغنا بأن مصاحبتنا معهم انتهت وكانت هذه تعليمات قيادة القاطع. تحركت المفرزة وتركونا في قرية قزلر وكنت ورفيقي علي كرادي لا نمتلك أية بوصلة تستدل بواسطتها على الطريق. مشوا لا على التعيين وسط الثلوج والمطر ينهمر حيث كانوا محاطين بالربايا العسكرية العراقية ومقرات حرس خميني وبازار الثورة الايرانية.( ص253).

بعد مسيرة شاقة وسط العواصف الثلجية وصلوا الى مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني في قرى (سركلوا- بركلوا) الذين استقبلوهم بودً على الرغم من أنهم كانوا أعداؤهم بالأمس القريب، لكنهم تعاطفوا معهم وتفهموا ما جرى لهما. وخلال تواجدهم في مقرات أوك التحقت مفرزة من ايران تضمً شيوعيين ماركسيين كانوا قد تركوا العمل بين صفوف أنصار الحزب الشيوعي وذلك مرورا وبالتنسيق مع أوك باتجاه كرميان. كانت هذه مجموعة من تنظيمات اتحاد الديمقراطيين بقيادة أبو مجيد. وقد تعرف لطيف على قسم منهم اذ كانوا أنصارا ومقاتلين من الحزب الشيوعي العراقي. المجموعة الثانية التي التقى بها لطيف في مقرات أوك جاءت من بغداد يحملون في جعبتهم مشاريع انقلابية. كانوا ثلاثة شباب أحدهم من بعقوبة الشاعر أحمد المانعي البعثي العبثي الذي حدثه عن وجود تنظيم سرًي في العراق ويعدً العدة للإطاحة بالنظام. جاء الى قيادة أوك للحصول على المساعدات والتنسيق مع قيادة أوك. عاد مع أحد رفاقه محملاً بما جاء من أجله (ص255).

الالتحاق بمجموعة سامي حركات والشهيدان منتصر وأبو أحلام

التحق لطيف ورفاقه فيما بعد بمجموعة سامي حركات التي كان مقرها لا يبعد كثيرا عن مقرات (سركلوا- بركلوا) وبعد العناق واستذكار تجربة الماضي ومرارة التآمر ونذالة التشهير وآلام التعذيب وقتل الشهيد منتصر، قاسموه معاناة حياتهم المرة وجراحهم التي لم تندمل ومازالت تنزف بحبهم للعراق من خلال صدق انتمائهم ومشاريعهم السياسية. ومن خلال معايشتهم لمدة شهور عديدة تعرضوا فيها للموت توصل لطيف الى أنهم شيوعيون عراقيون بحق (ص256). تكون هذا التنظيم من مجموعة من الشباب تمردوا على الواقع السائد آنذاك وشكلوا تنظيماً يهدف الى تصحيح الأساليب والممارسات في مسيرة الأنصار الشيوعيين العراقيين وكان ردا على أحداث بشتآشان في الأول من آيار العام 1983 (ص 257). طلبت منهم قيادة قاطع أربيل للحزب وقيادة الحزب بل وحتى أجبرتهم أن يقوموا بحل تنظيمهم الجديد ووضعه تحت أمرة الحزب وتوزيعهم على مواقع الأنصار وإلصاقهم بتهم تتعلق بتاريخهم السياسي والنضالي. فشلت كل المفاوضات معهم من خلال الرفيق أبو عامل، بل زادت من توتر الوضع باعتقالهم وسوقهم الى السجون في منطقة بارزان والسجن المذكور عبارة عن (مراحيض) قديمة مهجورة في المنطقة التابعة لقرى برزان. كان قرار قيادة القاطع من قبل أبو حكمت (يوسف حنا) الذي كان في ايران والمسئولية الحزبية موكلة الى الرفيق أبو سيروان (الحاج سليمان) والمسؤول العسكري ملازم خضر والإداري أبو ربيع. أدى هذا الأمر الى اعتقال الرفيق سامي حركات (ستار غانم) والشهيد منتصر (مشتاق جابر عبد الله) ومهند وأمين وآخرين. وقد تعرضوا الى تعذيب قاسي جدا. تم تشكيل لجنة تحقيق تألفت من مهند البراك (دكتور صادق مسؤولا) وعضوية مام كاويس وأزهر الكربلائي (حميد) ووليد حميد شلتاغ. أما المسؤولين عن التعذيب هم: سياميد أراربيلي وأبو أحلام الملقب بذي الفك المفترس (ص 259). هذا وقد شملت الإجراءات التعسفية كل من له علاقات رفقة وود مع سامي حركات ورفاقه الأشاوس وكذلك الذين استاءوا من الإجراءات التعسفية بحق مناضلي ورفاق الأمس. وقانت لجنة التحقيق بتقديم معطيات كاذبة وملفًقة تدًعي أن هذه المجموعة كانت على صلة بأجهزة النظام ومخابراته، وقام ضعفاء النفوس والمواقف الضعيفة والمهزومين والانتهازيين بترويج هذه الأخبار والمعطيات. كان الهدف الحقيقي هو لفت الأنظار عما تلقته حركة الأنصار من هزيمة سياسية وعسكرية وأخلاقية في مجزرة بشتآشان. وقاموا باعتقال أحد أصدقاء الرفيق سامي حركات منذ أيام الدراسة الجامعية والمعروف بأبو أحلام وتم إعدامه رميا بالرصاص كما أخبر سامي لطيف. كانت عمليات التعذيب مع سامي ورفاقه تجرى في كهوف جبلية بعيدة عن مواقع الأنصار في مناطق (بارزان)، امتدت أياما وشهور. ساهمت اللجنة التحقيقية في التعذيب واستخدموا أدوات تعذيب مختلفة وقاسية مثل (الكابلات) التي تتكون من أسلاك نحاسية. في يوم 3 آذار 1984 استشهد الرفيق منتصر (مشتاق جابر عبد الله) تحت التعذيب ومازال دمه ينزف ووصمة عار في تاريخنا الشيوعي(ص260).

بعد استشهاد الرفيق منتصر اختفى المجرم (سياميند). كان الرفيق سامي يتتبع أخباره ويعتقد أنه ربما منح زمالة دراسية تكريماً لبراعته في تعذيب الشيوعيين أو قد يكون قد سلًم نفسه الى سلطات البعث حيث لم يعد له أثر يذكر. ونتيجة لحملة الاستنكار الواسعة من قبل بعض الشيوعيين المخلصين والتي تمثلت في كتابة رسائل استنكار وتوضيح الى سكرتير الحزب عزيز محمد ومحاسبة مسببي الجريمة، تم إطلاق سراح الرفيق سامي ورفاقه وتمً إخراجهم من السجن وإبعادهم الى الأراضي الإيرانية مع توصية كما أكًدها للرفيق لطيف الشهيد سامي أنهم عملاء المخابرات العراقية.... واختفت جثة الشهيد منتصر، مضرًجة بالدماء الزكية ولاعنة بتاريخ الدم والاغتيالات وقتل رفاق الأمس (ص261).

ويجب الإشارة الى أن أغلب عناصر حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين كانوا من الرفاق الغرب الذي قدموا من الجنوب والوسط حاملين معهم حلم القضاء على الدكتاتورية بعد أن قضوا ردحاً من الزمن في أقبيتها وزنازينها الدامية أو عاشوا سراً بعيدين عن أهاليهم وأحبتهم (ص 261 ).

-    توضيح الى الأخ صباح كنجي في ما يخص رأيه بالدكتور خير الدين حسيب في صفحة 275 الذي ورد ضمن مقالة وردت في ملاحق الكتاب (ص 273- 328) يوضح فيها رأيه بخصوص الكتاب بعنوان: أيام الرصيف... في مذكرات الشيوعي لطيف. من الغريب أن يتكلم صباح كنجي بهذا الشكل عن المرحوم الدكتور خير الدين حسيب، وهنا أود أن أذكر بعض المعلومات عن الدكتور حسيب التي أعرفها جيدا.

1.  أن الدكتور خير الدين حسيب كان قد اعتقل في قصر النهاية في العام 1968 بعد استلام حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في العراق في تموز العام 1968 وبقي هناك لمدة سنة ونصف تحت التعذيب. وبعد اطلاق سراحه اعيد للعمل في الجامعة.

2.  قام المرحوم الدكتور خير الدين حسيب بتدريس مادة "اقتصاديات العراق والوطن العربي " لطلبة السنة الرابعة المنتهية في كلية الادارة والاقتصاد بجامعة بغداد للسنة الدراسية 1971-1972 وكنت من ضمن الطلبة اللذين درسهم بالإضافة الى نعيم عباس خضير الموسوي و شاكر حسون الدجيلي وعصام أدهم الزند وعبد المحسن راضي وحسن عبد الله بدر وعبد الكريم حمد القسام وصالح ياسر (رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة في الوقت الحاضر). كان مجموع عدد الطلبة يفوق 300 طالب وطالبة ومن مختلف مدن وقصبات العراق (عربا وأكرادا وتركمان ومن مختلف الديانات والمذاهب) بالإضافة الى طلبة من جميع الدول العربية، لم نسمع في يوما ما بأن الدكتور خير الدين حسيب كان طائفيا في علاقته مع الطلبة من أي طالب أو طالبة، وإنما على العكس كان أستاذا متمكنا من المادة وعلمنا طريقة البحث العلمي الصحيحة، دمث الأخلاق ومحبوبا من قبل جميع الطلبة. وفي إحدى زيارات زملاؤنا شاكر الدجيلي وعصام الزند وصالح ياسر في ربيع العام 1972 للدكتور حسيب في بيته حدثهم عن أساليب التعذيب الجسدية والنفسية التي تعرض لها المعتقلون في قصر النهاية السيء الصيت.

3.  وفي العام الدراسي 1973-1974 قام المرحوم حسيب بتدريس طلبة الماجستير- تخصص اقتصاد في كلية الادارة والاقتصاد بجامعة بغداد. كان من ضمن الطلبة اللذين أعرفهم: شاكر حسون عبد اللطيف الدجيلي وحسن عبد الله بدر وكذلك سناء العمري رئيسة اتحاد نساء العراق التابع للسلطة وهي بعثية من الموصل. لم يسمح خير الدين حسيب للطالبة سناء العمري بتأدية الامتحان النهائي لكثرة غياباتها. تم تشكيل مجلس تحقيقي حول الموضوع من قبل كلية الادارة والاقتصاد- قسم الدراسات العليا وقام المجلس التحقيقي باستدعاء جميع طلبة الماجستير حول القضية اللذين شهدوا لصالح حسيب ومن ضمنهم شاكر الدجيلي وحسن عبد الله بدر. كان بامكان حسيب أن يغض النظر عن غيابات سناء العمري كونها من الموصل وسنية المذهب ويسمح لها بأداء الامتحان ولكنه عمل العكس. تم اعفاء حسيب من التدريس في الدراسات العليا حينما كان في انتداب علمي في شهر شباط العام 1974 لإلقاء محاضرات عن الاقتصاد العراقي في معهد الاستشراق في موسكو آنذاك. وفي رده على هذا القرار قام بإرسال برقية من موسكو الى جامعة بغداد طلب فيها إعفائه من التدريس في الدراسات الأولية- البكالوريوس. وبعد عودة حسيب الى بغداد نقل الى العمل في مركز البحوث الادارية والاقتصادية التابع لجامعة بغداد. أنا أعرف هذه التفاصيل لأني عملت آنذاك معيدا في قسم الاقتصاد بكلية الادارة والاقتصاد بجامعة بغداد قبل سفري الى الاتحاد السوفيتي لتكملة دراستي العليا بزمالة من قبل الحزب الشيوعي العراقي.

4.  آخر دليل على عدم طائفية المرحوم الدكتور خير الدين حسيب هو تنظيمه لندوة مستقبل العراق حينما كان مديرا عاما لمركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في 25-28 تموز سنة 2005. وقد شارك في المؤتمر 108 من مختلف الطوائف والمذاهب والاتجاهات السياسية في العراق. ومن ضمن المشاركين: د. عبد الحسين شعبان ود. محمد جواد فارس وباقر ابراهيم أبو خولة وأنا كاتب هذه السطور. مع العلم أني أحتفظ لحد الآن بجميع وثائق المؤتمر.

وفي الختام أود أن أقول بأن كتاب " سجين الشعبة الخامسة " للرفيق محمد السعدي أبو بيدر كتاب مهم وجدير بالقراءة ويستحق الثناء وهو من الكتب التي من الضروري أن توجد في المكتبة العربية حتى يكون في متناول يد الباحث والانسان المتعطش لمعرفة صفحات كثيرة من تاريخ العراق وأحزابه الوطنية.

اسم الكتاب: سجين الشعبة الخامسة.

المؤلف: محمد السعدي

الناشر: دار الرافدين، لبنان - بيروت

الطبعة الرابعة: سبتمبر – أيلول، 2019 (1000 نسخة)

ISBN: 978 -9922-623-28-3

عدد الصفحات 382 صفحة.

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

في المثقف اليوم