قراءة في كتاب
محمود محمد علي: برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم
هناك سيل من الكتب قذفت بها المطابع إلى السوق، بعضها ولد ميتاً من دون أي انتباه، وبعضها قُرئ كالطعام البائت، وبعضها الآخر عاش قليلا من الوقت ثم اختفى، وبعضها أثار المعارك وظل عالقاً في مفاصل ثقافتنا العربية جيلاً بعد جيل، وبعضها لا يزال يلاحقنا حتى اليوم. وبعضها مر بسلام إلى القارئ، وبعضها أدخل صاحبها التاريخ بجدارة.
ومن الكتب التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب كتاب برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم للصديق الأستاذ الدكتور حسين هنداوي ولا شك في أن سيادته يمثل بحق قامة عراقية مشرفة في أرض الكنانة، ومن المفكرين العراقيين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة، ولا يمكن لأي دارس أن يتغافل دوره السياسي الفعال بجامعة الدول العربية كأمين عام لها.
علاوة على أنه في الأصل أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة. إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا أو ذاك.
وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الورقة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفلسفة الحديثة، وقد اخترت كتابه الذي بين يدي وهو بعنوان " برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم "، حيث يعد هذا الكتاب واحداً من تلك المؤلفات التي عني بها الدكتور حسين" بالدفاع عن قيمة وعظمة الفكر العراقي القديم.
وفي رأيي أن هناك نمطان من الكُتاب الاكاديميين، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش.
ولا شك في أن الدكتور حسين الهنداوي من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل.
إن البحث الفلسفي في نظر الدكتور حسين الهنداوي تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة. وعلاوة علي ذلك فإن جدية الدكتور حسين الهنداوي وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية ذات الطابع التراثي، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموما، والمجتمع العراقي القديم خصوصا، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.
وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الوريقات القليلة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفكر العربي المعاصر، وقد اخترت كتبه بعنوان" برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم " ؛ حيث تأتي المكانة العلمية الاستثنائية للمؤرخ وعالم الفلك والرياضيات العراقي البابلي المشهور في الغرب كما يقول المؤلف باسمه اللاتيني "بيروسسBerossus "، وبالعربية برعوشا، من وضعه لنظرية مبتكرة لتفسير حالات القمر المختلفة أثناء دورانه حول الشمس، استفاد منها علماء الفلك اليونانيون، باعتراف واسع، في تطوير تقاويم احتساب حركة الأيام والأشهر، وأيضا وخاصة، من ابتكاره ما نسميه بـ "الكرونولوجيا الشاملة"، وتعني منهج تحقيب مجمل الأحداث التاريخية وفقا لتسلسل وقوعها في "الزمن التاريخي" الفعلي، ما يسمح بالتالي بتقسيم هذا الزمن التاريخي، إلى فترات متعاقبة بانتظام، بموازاة تحديد أحداث كل منها بدقة وكذلك تأثيراتها على سيرورة تاريخ العالم ككل.
هذا المنهج الجديد الذي اخترعه واعتمده بيروسس في كتابه الموسوعي ذي الأجزاء الثالثة والمعروف باسم الـ "بابلونيكا Babyloniaca"أي "التاريخ البابلي"، من التسمية اليونانية Βαβυλωνιακά، والذي اشتهر باللاتينية أيضا ً بهذا الاسم، كما عرف أحيانا بالتسمية التوراتية "كلدايكا" Kaldaica ( أي " بلاد الكلدان" )، والمنتهي من تأليفه باللغة الإغريقية بين عامي 290، 270 قبل الميلاد، على الأرجح. وهو منهج سرعان ما انتشر بشكل واسع لدى الكتاب اليونانيين والرومان، ما أفضى عالميا إلى نقل الكتابة التاريخية من مجرد تعداد لأسماء الدول وأحداثها وتسجيل لسير السلالات الحاكمة والملوك وأعمالهم وغزواتهم، كما كان المؤرخون بمن فيهم هيرودوت يفعلون من قبل، إلى وضع مدونة شاملة عن كل التاريخ البشري وحضارته بدءا من بدء الخليقة وانتهاء بموت الإسكندر المقدوني في عام 323 قيل الميلاد، المتزامن عمليا ُ مع عصر بيروسس نفسه.
فالمنهج الذي أبدعه هذا المؤرخ الذي تقتصر معلوماتنا عنه لحد الآن كما يقول المؤلف على ما دونته المصادر الكلاسيكية الهلنستية (اليونانية والرومانية) عنه، يقودنا إلى الاهتمام، ضمن المادة المعرفية المتاحة، بمعرفة مراحل ومظاهر انبثاق وتطور الحضارة في التاريخ ممثلة بظهور الكتابة والدين والمدن والشرائع التي تنظم الحياة العامة بموجبها إلى هذا الحد أو ذاك فضلا عن فهم أحوال الدول والإمبراطوريات والملوك الذين تعاقبوا على حكم بلاد بابل والأحداث والتطورات السياسية التي اقترنت بعهودهم كما تصورها بيروسس الذي تميز في عصره، بالاعتماد الدؤوب على مصادر ونصوص مسمارية أصلية وموثقة تمكن من الوصول إليها بفضل موقعه الخاص ككاهن بابلي مرموق.
إن ما يهم الدكتور حسين الهنداوي بشكل خاص في الصفحات التي تلي هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والمستخلصة كما يقول من مصادر مبعثرة في الغالب وبجهد جهيد، هو تكوين فكرة وافية وموضوعية قدر الإمكان عن هذا المؤرخ والعالم البابلي وعن مدرسته الخاصة وآثاره وتأثيراته الكبيرة في تطور كتابة التاريخ وعلم الفلك وكذلك حول ما يقدمه من تصورات ومعلومات قيمة، ومجهولة إلى حد كبير، عن تاريخ العالم القديم بحقبه وإمبراطورياته الرئيسية لا سيما تلك التي كانت عاصمة العالم القديم بلا منازع بابل، عاصمة لها على مر العصور. فخلال الفترة الهلنستية وما بعدها لقرون، اشتهر بيروسس لدى الكتاب الغريق والرومان واليهود والمسيحيين الأوائل، بكونه المؤرخ الرئيسي للحياة السياسية التي عرفتها الدول والإمبراطوريات السومرية والآشورية والبابلية المتعاقبة على مدى نحو خمسة آلاف سنة منذ ما قبل الطوفان، وخاصة فترات ما بعد الطوفان التي تبدأ مع إنشاء ّخين الذين كتبوا بالإغريقية واللاتينية، وخصوصا أولئك مدينة إريدو في عام 5400 ق.م. وقد ظهرت تأثيراته الكبيرة على المؤرخين المشغولين بتاريخ اليهودية والمسيحية.
بيد أن فقدان كتابات بيروسس الأصلية وخاصة كتابه الـ "بابلونيكا"، جعل المؤلف يضطر إلى الاعتماد على ما أمكن العثور عليه أو فرزه من اقتباسات أو شذرات نقلها أو اقتبسها أو لخصها عنه بعض الكتاب أو المؤرخين الهلنستيين مثل أبيدنوس وأبولودوروس ويوبا الأمازيغي وبوليهستر وكلهم قبل التاريخ الميلادي، أو المؤرخين اليهودي يوسيفوس فلافيوس والمسيحي أوسيبيوس القيصري والعديد غيرهم بعد بدء التاريخ الميلادي.
والحال أن جميع ما تم العثور عليه إلى اليوم من نصوص منسوبة إلى بيروسس لا يتجاوز 22 اقتباسا أو رواية كما يقول الكاتب بتصرف أو شرحا لآرائه، تضمنتها بشكل عرضي مؤلفات أولئك الكتاب، وسميت هذه الاقتباسات أو الشروح بشذرات بيروسس التي قام الكاتب بترجمتها إلى العربية.
وكتاب (برعوشا – بيروسس حامل الفكر البابلي إلى العالم ) والذي نقدم له هنا يقع الكتاب في 146 صفحة من الحجم الكبير، وهو يمثل عصارة تفكير الدكتور الهنداوي، ولذلك لم أهدر الفرصة وحاولت أن أغتنمها لقراءة هذا الكتاب الرائع، وذلك لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه القراءة التي نتناولها في مقدمة وخمسة فصول وخاتمة وملحق، فجاء الفصل الأول بعنوان "برعوشا –بيروسس "، حيث ناقش المؤلف الولادة والنشأة، ونظرية عن حركة القمر حول الشمس، ومؤرخ ومفكر، وقراءة التاريخ بمعزل عن النص الديني، والعناية الإلهية تقود التاريخ. أما الفصل الثاني، فقد تناول " البابلونيكا أو التاريخ البابلي، وأما الفصل الثالث فقد ناقش أهم شذرات برعوشا –بيروسس، بينما جاء الفصل الرابع بعنوان برعوشا – بيروسس العراقي ومانيتون المصري، وأخيرا جاء الفصل الخامس بعنوان " العراق وأعباء مجد عظيم "، وأما الخاتمة فقد تناولت الإمبراطوريات وأقدارها، وأما الملحق فكان حوار مع عالم الآشوريات إرفنغ فنكل.
وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف من خلال عرضه لتلك المحاور في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:
الدافع الأول: نظري معرفي يقوم علي ضرورة إعادة النظر في الدور الذي يقوم برعوشا –بيروسس في حمل الفكر البابلي إلى العالم أجمع.
الدافع الثاني: عملي واقعي، حيث يعول الكاتب كما قال الدكتور الهنداوي في كتابه هذا الذي بين يدينا على اهتمام بيروسس باستعمال المنطق والأساليب اليونانية في إيصال أفكاره إلى اليونانيين. فمثلا جعل الإله الإغريقي زيوس يعادل الإله البابلي مردوخ. وبمواجهة التهمة الغريبة بأنه يوظف الأساطير في طرح أفكاره أوضح على الفور بأنه كان يتحدث من خلال الاستعارة، ما أدى غالبا إلى إفراغ نصوص الأساطير من أهميتها الدينية الأولية، لتصبح أمثلة أو تعبر عن وجهة نظر محايدة و"فلسفية وعقلانية على الطريقة اليونانية.
وفي النهاية أقول: تحيةً مني للأستاذ الدكتور حسين الهنداوي الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن تكون صدى أميناً لضمير، عراقي، وطني، يقظ ؛ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً. بارك الله لنا فيه قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.
***
د. محمود محمد علي
أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط