قراءة في كتاب
صلاح الدين ياسين: قراءة في كتاب "الفتنة والانقسام" لعبد الإله بلقزيز
كتاب الفتنة والانقسام من تأليف الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، وهو بمثابة استكمال للجزء الأول من الدراسة التي أعدها الباحث والموسومة ب "النبوة والسياسة"، صدرت الطبعة الثانية المنقحة من الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2012، إذ يقع في قسمين رئيسيين وعشرة فصول، بحيث يتناول أبعاد وخلفيات الصراع المسلح على السلطة الذي نال من وحدة المسلمين خلال عهد الخلافة الراشدة، وتحديدا أثناء حكم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. وسنضيء فيما يلي على أبرز محطات ذلك الصراع الدامي، فضلا عن الخلاصات التي يسعنا استنباطها حول المسببات الفعلية لتلك الأحداث.
أولا: حروب الردة: تمرد سياسي من قبائل الأطراف على دولة المدينة
عرفت فترة حكم الخليفة أبي بكر الصديق وقائع صادمة اصطلح على تسميتها ب "حروب الردة" بعد وفاة الرسول (ص)، والتي هددت مصير الجماعة الإسلامية في وقت مبكر من اجتماعها السياسي بحيث طال التمرد أجزاء واسعة من الجزيرة العربية حينئذ (اليمن، البحرين، عمان... إلخ)، ويمكن إيجاز أهم أسبابها وخلفياتها كما يلي:
* لقد كان إسلام القبائل المرتدة في معظمه بعد فتح مكة إسلاما صوريا أو مصلحيا أملاه الخشية من فشو وتوطد سلطان دولة المدينة بعد إسلام قريش، وليس إسلاما عن قناعة وتصديق، بل حتى إسلام قريش كان – عند الكاتب - إسلاما سياسيا بمعياري توقي الضرر واستجلاب المصلحة.
* آذن حدث وفاة النبي عند القبائل المتمردة بانهيار دولة المدينة وانفراط عقدها، وهو التقدير السياسي الذي أثبتت وقائع الصدام المروعة بأنه بُني على حسابات خاطئة، إذ تصدى أبو بكر الصديق بكل حزم وغلظة لتمرد القبائل، مما أفضى إلى سحقه ومن ثم الحفاظ على وحدة الجماعة الإسلامية في حدودها الدنيا.
تأسيسا على ما تقدم، يرى الكاتب بأن حروب الردة انطوت على دلالات سياسية أكثر منها دينية بحتة، بحيث عكست صراعا بين منطقين متقابلين: الدولة/ القبيلة، وخاصة في ظل حداثة عهد العرب بفكرة الدولة التي لم تنضج بعد في أذهانهم: "ولذلك ما حسب (أبو بكر) حربه على المرتدين حربا دينية وإنما سياسية هدفها إخضاعهم للدولة، لا حملهم على اعتناق الإسلام من جديد"، لكنه توسل بخطاب ديني (اتهامه لمانعي الزكاة بالردة والخروج من الإسلام رغم معارضة كبار الصحابة له ومن بينهم عمر بن الخطاب في ذلك الاتهام) لضمان التفاف واسع حول استراتيجيته السياسية.
ثانيا: الصراع المسلح على السلطة في عهدي عثمان وعلي
عرف العهد الثاني من فترة حكم عثمان بن عفان ظهور معارضة سياسية قوية للخليفة ارتكزت على مجموعة من المطاعن: إسناده المناصب السياسية والامتيازات المالية إلى بني أمية والمقربين منه وإقصاء الهاشميين (آل البيت) من السلطة، مخالفته سنة الرسول (ص)... إلخ، وهي المعارضة التي ما لبثت أن تحولت إلى ثورة مسلحة على الخليفة انتهت بحصاره ثم اغتياله في ظروف تراجيدية.
كما شهدت فترة حكم علي بن أبي طالب عددا من الحروب الأهلية المسلحة بين كبار الصحابة على السلطة، بدءا من تمرد البصرة الذي قاده حلف طلحة والزبير وعائشة وانتهى بانتصار علي في معركة الجمل، مرورا بانشقاق الخوارج عن جيش علي وإقدام الأخير على تصفيتهم في معركة نهروان، وصولا إلى الصراع الأكثر كلفة من حيث الخسائر في الأرواح والتداعيات السياسية بين علي ومعاوية بن أبي سفيان، والذي حسمه الأمويون وممثلهم معاوية لصالحهم دون أن يؤذن ذلك قطعا بنهاية الانقسام الحاد.
وإجمالا، شكلت تلك الأحداث مؤشرا واضحا على سقوط هيبة الخلافة وفقدانها لمضمونها ووظيفتها السياسية المفترضة كأداة لحفظ وحدة وتماسك الجماعة الإسلامية. وفي هذا المضمار، ينبه الباحث إلى بعض الروايات التاريخية الذاهبة إلى أن عليا لم يتمتع بسلطة فعلية لأنه كان سجين إرادة الثوار (على عثمان) من القراء والقبائل الطرفية (بدليل إجباره على قبول التحكيم من طرف قادة جيشه في معركة صفين التي دارت بين علي ومعاوية رغم معارضته له)، إذ نشأ واقع سياسي جديد يتمثل في رجحان ميزان القوى لصالح الأطراف في علاقتهم بالسلطة المركزية للخليفة.
ثالثا: استنتاجات عامة
من خلال التمعن في مضامين الكتاب، في وسعنا تلخيص أهم العوامل التي أفضت إلى انفجار الصراع التراجيدي بين كبار الصحابة على السلطة من منظور تحليلي شامل دون الإمعان في تفاصيل وجزئيات الأحداث كما يلي:
1. عدم وجود قواعد سياسية واضحة لعقلنة وتنظيم الصراع على السلطة وأساسا غياب نص تشريعي ديني (من القرآن أو السنة) قاطع بشأن مسألة خلافة النبي، وبالتالي ادعاء كل فريق من المتنافسين بأنه الأحق بالخلافة تحت مبررات مختلفة: امتياز النصرة (الأنصار من أهل المدينة)، امتياز السابقة والقُدمة في الإسلام (المهاجرين)، امتياز القرابة من النبي (ص) (آل البيت وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب)، الاستناد إلى العصبية الأقوى في قريش (بني أمية)... إلخ.
2. هشاشة المجال السياسي الإسلامي، وعدم رسوخ فكرة الدولة وما تقتضيه من خضوع للسلطة المركزية في ظل واقع تمرد الأطراف على سلطة المركز.
3. جدلية الديني – القبلي: ولعل أجلى مظاهرها الصراع الممتد بين الفرعين الأقوى في قريش (= بني أمية وبني هاشم)، الشيء الذي يدل على انبعاث العصبيات القبلية وخروجها من عقالها بعد وفاة النبي (ص).
4. عامل الصراع على السلطة والثروة الذي برز على نحو صارخ في أعقاب لحظة الفتوح وما أسفرت عنه من تدفق هائل للثروة. وبرغم بعض النتائج الإيجابية المتولدة عن الفتوح كاتساع رقعة دولة الإسلام التي عرفت نوعا من المأسسة والتطور الذي طال أجهزتها، فإن لحظة الفتوح – بالمقابل – أفرزت تفاوتا طبقيا واجتماعيا نتيجة تركيز الثروات لدى فئات بعينها، وظهور طبقة جديدة (من كبار الصحابة) مالكة للأراضي والثروة نتيجة سياسة الإقطاعات والأعطيات، دون إغفال ما تمخض عن ذلك من تغير قيمي طرأ على تلك الفئة من أوضح تعبيراته: الانتقال من الفقر المدقع إلى الغنى الفاحش، من الزهد والتبسط في العيش إلى البذخ والإسراف، من التآزر والتراحم إلى التحاسد، مما سيفضي بالمحصلة إلى انفجار الخلاف الدموي على السلطة والثروة.
***
بقلم: صلاح الدين ياسين