قراءة في كتاب

‏ أسعد عبد الرزاق: قراءة ومراجعة في كتاب الدرس الفلسفي في المدارس الدينية

الواقع وآفاق الانتظار

 للدكتور عبد الجبار الرفاعي

***

مدخل: التقيت الدكتور الرفاعي في معرض الكتاب بغداد بتاريخ 6/ 12/ 2024 وأهدى لي كتابه (الدرس الفلسفي في المدارس الدينية، الواقع وافاق الانتظار)، مع إشارة منه بأهمية الفصل الأول من الكتاب، ضمن فصول ثلاث، وبعد قراءة وافية للكتاب وجدت أن الفصل الأول يمثل مدخلا تعريفيا هاماً للدرس الفلسفي الاسلامي، فضلا عن إضاءات نقدية حول بعض مفاصل الفلسفة الاسلامية، وكيفية تعاطي بيئات العلم مع ذلك التراث.

ورغم عدم تخصصي الدقيق في الفلسفة فقد وجدت من المهم أن تتم الكتابة حول هذا المجال الذي يعاني من الإهمال على المستوى العام، لأننا أصبحنا في غير عصر الفلسفة، بل في عصر المعلومات الجاهزة، والقوالب المعدّة مسبقاً لإمضائها وترديدها في الأوساط العلمية والثقافية لا أكثر، لكن الجهد الذي بذله الرفاعي في كتابه هذا، يمثل محطة هامة لتشخيص مشكلات لا تخلو من أهمية في إطار تثوير العقلانية من جهة، والحس النقدي من جهة أخرى.

والملفت للنظر أنه تناول مشكلة مركبة من مشكلتين، الأولى: غياب شبه تام للدرس الفلسفي، والثانية: تشخيص مواطن الخلل في الدرس نفسه عبر قرون متعاقبة من الزمن.

ويعبر ذلك عن إدراك جدير باللحظة الراهنة التي تكاد تخلو من اهتمامات ممثالة على صعيد البحث الفلسفي المعاصر.

وفي هذه القراءة الموجزة - نسبة الى نوع الكتاب- سأتناول محاور ثلاث:

الوصف التحليلي للدرس الفلسفي في الكتاب.

الحس النقدي تجاه المنجز الفلسفي.

تقييم المنجز وما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة.

1- الوصف التحليلي للدرس الفلسفي وسؤال المنجز:

في المقدمة يتناول اشكال افول الفلسفة بتقدم العلوم الطبيعية والتقنيات التكنولوجية، ويؤكد أن الفلسفة لا يمكن ان تكون مرحلة من الوعي انتهت وانقضت، بل ينبغي أن تكون مصاحبة للوعي في كل مراحله التي شهدت انحاء من التطور المستمر.

والفلسفة الاسلامية باتت مقيدة بأطر كلامية، ومن ابرز مشكلاتها أن غايتها هي علم الكلام وقضاياه، التي جعلت من الفسلفة وسيلة تم توظيفها للإثبات فقط، من دون محاولات نقدية جادة، وفي سياق الفصل الأول – موضوع البحث في هذا المقال- يجيب الرفاعي ضمنا عن تساؤل مركزي:

هل هناك منجز فلسفي إسلامي؟

تناول الرفاعي المنجز الفلسفي الاسلامي في مستواه الكمي وحجم التطوير والاضافات التي حصلت بعد ترجمة فلسفات اليونان ومقولاتهم الفلسفية وذكر ان السيد الطباطبائي قد كشف عن عدد المسائل التي ورثتها الفلسفة الاسلامية من مدرسة اثينا والاسكندرية لا تتجاوز مئتي مسألة في حين بلغ رصيد الفلسفة الاسلامية في مدرستها الاخيرة (الحكمة المتعالية) لملا صدرا ما يناهز سبعمائة مسألة وهو ما يدل دلالة هامة في تقييم المنجز الفلسفي الاسلامي من خلال التوضيح والتطوير إذ لم تبق تلك المسائل على صورتها التي وصلت من خلال الترجمة بل خضعت للتطوير والنقد أيضا، مع ملاحظة الرفاعي عدم وجود دراسات تؤرخ لنشأة وتطور المسائل الفلسفية بغية مواكبة ولادتها ونشأتها وجذورها، وهو ما يعد حقلا هامة من وجهة نظرنا في سياق التحقيب التاريخي لمختلف المسائل والموضوعات الفلسفية.

وضمن المنجز الاسلامي تناول الرفاعي طبيعة الدرس الفلسفي في حوزة النجف الاشرف ووصف أعمال السيد محمد حسين الطباطبائي والشيخ مرتضى المطهري والسيد محمد باقر الصدر بأنها أعمال رائدة على مستوى تقديم إجابات فلسفية عن بعض المسائل الميتافيزيقية وعلى مستوى نقد الفلسفة المادية وما ينطوي عليه المنهج التجريبي من تهافت في ضوء المنطق الأرسطي.

وفي إطار تقييم المشهد الفلسفي في الدرس الحوزوي فإن الرفاعي أشار إلى أن الدرس الفلسفي في الحوزة قد أسهم في بناء فلسفة مثّلتها مدرسة الحكمة المتعالية التي كانت توليفاً اختلطت فيه عناصر ومقولات وأدوات فلسفتي المشاء والإشراق، فضلا عن العرفان والكلام، وبرغم شحة وضمور الانتاج الفلسفي عموما في العالم الاسلامي ومناهضة التيارات السلفية السنية والشيعية للفلسفة، فإن التأليف لم ينقطع في فضاء الدرس الفلسفي في الحوزة، وهو ما يحسب لها تماماً.

وأشار الرفاعي الى أهمية الكتب مثل (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي لمحمد حسين الطباطبائي) الذي ركز على ابراز الفلسفة الالهية ونظرية المعرفة وما يتصل بها مو مسائل الادراكات

و(الأسس المنطقية للاستقراء للسيد محمد باقر الصدر) وما أثمرت عنه رؤية الشيخ المطهري في منهج تعليم الفلسفة المادية عندما كان رئيسا لقسم الفلسفة في كلية الالهيات والمعارف الاسلامية في طهران، إذ طلب أن يستضيف استاذا لتدريس الفلسفة المادية شرط ان يكون ممن يقتنع باصول الفلسفة المادية حتى تسنح الفرصة للحوار معه وفق منهج اكاديمي موضوعي.

2- الحس النقدي تجاه المنجز الفلسفي:

أول ما أشار إليه الرفاعي في ملاحظاته على الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية هو اختزال الفلسفة في الاسلام بملا صدرا، وشيء من ابن سينا والسهروردي، ومازالت فلسفة صدر المتألهين محوراً للدرس الفلسفي في مدرستي قم والنجف، ومع كل ما تم رصده من اعتماد الملا صدرا على من سبقه من الفلاسفة (ابن عربي، والفخر الرازي وغيرهم)، فإن فلسفته تصدرت الدرس الفلسفي بالنحو الذي ألغى كل ما أنتجه غيره من الفلاسفة، وغالبية من درسوا الفلسفة لم يطلعوا تفصيلا على فلسفة (ابو يوسف يعقوب بن اسحاق الكندي260ه)، الذي عدّه كاردان أحد فلاسفة عصر النهضة، وكذلك الحال مع الفارابي339هـ الذي وصفه ابن خلكان بأكبر فلاسفة المسلمين، فضلا عن فلاسفة المغرب الاسلامي (ابن الطفيل، ابن باجة، ابن رشد) فيكاد يكونوا غائبين تماماً، ويصف الرفاعي هذه الابتعاد بالظلم الكبير لهم، وبالأخص ابن رشد595هـ الذي لاقى تهميشا عاماً، رغم مكانته البارزة في تطور الفكر الفلسفي الغربي في العصر الحديث، حتى ان بعض الدارسين ذهبوا الى أن الفلسفة ختمت بابن رشد، في حين لم يتم تجاهلم فحسب بل صدرت لكبار اساتذة الفلسفة تقدح بأولئك الفلاسفة، ومهما كان الامر  مجرد وجهات نظر، ربما لا يمكن أن يتفق عليها اثنان، الا أن إقصار الدرس الفلسفي على اتجاه واحد  او شخصية واحدة، يفقد الدرس كثير من مزاياه المعرفية.

ويشخص الرفاعي أحد أسباب الابعاد في طبيعة فلسفة ابن رشد من خلال تمركز العقلانية في طروحاته، واتخاذها مرجعية محورية في الحكم على القضايا، بخلاف الدرس الفلسفي في الحوزة الذي يعد تركيباً تلتقي فيه الفلسفة المشّائية والفلسفة الاشراقية وعرفان ابن عربي وعلم الكلام، فهي تبدأ بمقدمات عقلية منطقية وفلسفية وتنتهي بنتائج كلامية.

3- ما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة:

يؤكد الرفاعي على ضرورة حضور العقلانية النقدية في التفكير الفلسفي، فمشكلة العقل اللاهوتي هو التفكير بغيره (مسائل وحيانية دينية) في حين هو بحاجة الى أن يفكر بماهيته وطريقة تفكيره، وهو ما يعد من ضمن التفكير النقدي المعرفي الذي يستهدف النظام المعرفي بالنقد والمراجعة التي تجعله نظاماً حياً قبل أن يغالي في الإعلاء من قيمة منجزه ويتنكر لمنحز غيره.

ان الدرس الفلسفي يحتاج الى (التفلسف) وطرح الاسئلة بعيدا عن ترديد اتجاه واحد من التفكير الذي لا يرى غير نفسه، وهنا تبرز الضرورة الى الالمام بالفلسفات من اللغات الأخرى، لأن الاطلاع على فلسفة الغرب تجعل الأفق واسعا امام الطالب، وهو اليوم يجد صعوبة في فهم بعض نصوصها بسبب انتماءها الى فضاء معرفي مفارق للفضاء المعرفي الاسلامي، فضاء يفكر خارج اسوار المنطق الأرسطي الذي يشكل إطاراً مرجعياً للتفكير الفلسفي في الدرس الحوزوي.

من الضروري ان تكون للعقل مركزيته في الدرس الفلسفي، لان الفلسفة تعني حكم العقل لاغير، ولا يكون التفكير فلسفياً الا أن يقع خارج إطار المعتقدات والأيدلوجيات والهويات، وهو أمر في غاية العسر وفق معطيات بيئة الحوزة العلمية، فضلا عن الدرس العلمي الاسلامي الذي لا يمكنه مغادرة الهوية الاعتقادية بأي حال، وحينئذ ستكون لدينا مشكلة في بنية الدرس الديني عموماً، وهو عدم إمكان تجريده من الأطر العقائدية، نعم يمكن ذلك في الآفاق المحيطة بالدرس، مثل فضاءات الحوار وما يدون في الكتب والابحاث غير المدرسية..

يؤكد الرفاعي أن الفلسفة لا تقبل التجنيس الاعتقادي، لأن العقل الفلسفي عقل كوني عابر للجغرافية القومية والاعتقادية والدينية.

وهذا من حيث جوهر البحث الفلسفي، أما العقل اللاهوتي، الكلامي، فيجد نفسه في مهمة تقديم قراءة فلسفية أو أنموذج فلسفي من خلال الرؤية الدينية، وعلى هذا الاعتبار لا يمكن أن نطلق عليه درساً فلسفياً طالما يوظف الفلسفة لإثبات قضاياه الكبرى، بل هو فلسفة جاهزة يحاول البرهنة عليها، فهو ينتجها ويولدها، بخلاف الفسلفة كما ينبغي أن تكون، إذ هي التي تولد الأفكار، وتنتج معقولاتها بتجرد..

ويذكر الرفاعي بقوله (لقد وقعنا في حالة ركود، تحول فيها عقلنا الى صدى للنصوص المتلقاة، وطالت في حياتنا مرحلة الشروح، فأكلت من تاريخنا مدة ليست قليلة، وصارت مهمتنا النقل عن القدماء، من دون تحليل ونقد وتمحيص، واكتسبت نصوصهم سلطة تهيمن على مجمل نشاطنا العقلي وانتاجنا الفلسفي) -ص 61 من الكتاب-

يختصر هذا القول جلّ المشكلة، ويشخص موطن الخلل، ويكشف الرداء عن واقع التفكير المدرسي الذي لا يتجاوز الشرح والتعليق، ثم يشير إلى أهمية إعادة بناء منهج البحث في الفلسفة بما يحقق معالجات جادة للمشكلات العقائدية والمعرفية الراهنة، فالتحديات التي تواجه الإيمان، والاشكالات المثارة حول الدين، هي نتاج هذا العصر، ولا يمكن مواجهتها بالمنهج السائد مالم تتم مراجعة كل ما دوّن، والسعي إلى خلق مناخات تواكب مستجدات الحاضر، من خلال قنوات بحث جديدة، من داخل الحاضر لا من داخل التاريخ..

وينتهي إلى ضرورة الاطلاع التفصيلي على الدراسات الانسانية الحديثة التي تناولت قضايا الدين والانسان وفق منطق الحاضر، وهذه الضرورة تسري على مختلف محالات علوم الدين، لكن الذي يمكن أن يمثل وجهة نظري الخاصة في كل ما طرحه الرفاعي في كتابه، هو عدم إلغاء الدرس الفلسفي بصيغته المعهودة، والسعي إلى خلق مساحة لتكوين (ملحق) للدرس يفتح العقل فيه أمام النقد والمراجعة، وإعادة بناء نظام معرفي من شأنه أن يعالج المشكلات المعرفية الراهنة، بشيء من التجرد والعقلانية التي تسهم في إنضاج البحث الفلسفي على مستوى جاد وواعٍ لكل المستجدات.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

في المثقف اليوم