قراءة في كتاب

جمال العتّابي: نزار حمدون.. رحلة حياة دبلوماسية (1)

كتابة المذكرات مسؤولية وعبء أخلاقي

تعدّ المذكرات والسير الشخصية مصدراً مهماً من مصادر كتابة التاريخ، على الرغم من اختلاف وجهات النظر بين الباحثين بين مؤيد ومعارض لموثوقية محتواها، والجميع يتفق على ضرورة توخي الحذر عند الاعتماد عليها بوصفها مصدراً توثيقياً.

وشهد تاريخنا العراقي المعاصر أمثلة عديدة لكتابات من هذا الجنس لقيادات وشخصيات سياسية وحزبية وعسكرية ومدنية أسهمت بمستويات متعددة في تشكيل الأحداث أو المساهمة والتأثير فيها . هؤلاء استهوتهم هذه الظاهرة التي وجدت قبولاً واسعاً لدى الباحثين والمتابعين، وبقدر ما تتسم المذكرات بالصدق والموضوعية، أو التزييف، فان جمهور القرّاء يُقدم عليها بحماس، كما تهتم فيها دور النشر ووسائل الاعلام والصحافة، لأنها تكشف جوانب عديدة ليست معلنة من وجهة نظر كاتبها كشاهد على الحدث، وهي في كل الأحوال لا تندرج تحت تصنيف الكتابات التاريخية، ولا ترتقي الى مستوى الوثيقة، فالوثائق بحكم صدورها من جهات ومؤسسات رسمية تعدّ مادة تاريخية مهمة، وهناك فرق بين كتابة المذكرات وبين كتابة  التاريخ، على الرغم من أن المؤرخ يعتمدها محللاً، ومفسراً، وناقداً.

في ضوء ما تقدم يمكن القول ان أغلب المذكرات الشخصية التي صدرت منذ خمسينات القرن الماضي وتحديداً بعد سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958 وحتى الآن، كانت موضع جدل وخلاف بالرغم بما تضمنته من بوح وأسرار، وكشف لأحداث ظلت غامضة لمرحلة ملتبسة بالصراع، الأهم في ذلك ان بعض كتّاب المذكرات تحرروا  من عقد السلطة والايديولوجيا،  والكبت النفسي، متجاوزين التردد والخوف، بينما ظل البعض الآخر صامتاً مازال يعاني من عقد الماضي وهيمنته بإرثه الثقيل. وأعني بذلك تحديداً قيادي الاحزاب السياسية، منهم من رحل وهو يدفن تاريخه معه، من دون أن يترك أثراً واحداً كاشفاً ومضيئاً ؟ وبتقديري، ليس من السهل على الشخصيات المترددة الإقدام على هذا العمل، فكتابة المذكرات مسؤولية ثقيلة وعبء أخلاقي.

لكن من بين (كمٍ) واسع لمذكرات السياسيين العراقيين، يتقدم البعض على رفاقه الآخرين في الكتابة بمقدار (الجرأة والشجاعة) في مراجعة الذات أولاً، ومراجعة التجربة السياسية ثانياً، بوضوح وصراحة لم تتوفر لدى الغير، (من دون الاشارة الى القلّة القليلة منها، فهي معروفة لدى المتابعين)، إذ تبرز الحاجة دائماً للكتابة وفق هذ النمط، بشرط توفر شروطها الأساس، وهي الصدق والأمانة والحرية، والتجرّد من ظلال الماضي القاتمة.

ضمن هذا السياق صدر مؤخراً 2024 عن دار الحكمة في لندن كتاب (رحلة حياة دبلوماسية) للدبلوماسي نزار حمدون. حرّره وجمع مادته، وأشرف على طبعه صديقه (عودة أبو ردين) الفلسطيني الأصل، والأمريكي الجنسية الذي تعرف عليه أثناء عمله كسفير لبلاده في الولايات المتحدة.

تصدّرت الكتاب مقدمة قصيرة كتبها (د. عودة  أبو ردين)، عدّ فيها نزار أفضل سفير عربي في واشنطن استطاع أن يلعب دوراً محورياً في اعادة العلاقات العراقية - الأمريكية بعد انقطاع دام خمسة عشر عاماً " كان دائم الحضور، شديد الوضوح، مستمعاً رائعاً" .

لكن نحن لا نعلم على وجه الدقة أسباب تأخر صدور الكتاب لغاية هذا التاريخ، أي بعد وفاة حمدون بعشرين عاماً أو أكثر (ت 4 تموز 2003)، ما يدعو الى التساؤل عن مقدار الصدق والموضوعية في مذكرات لم يطّلع عليها كاتبها بعد الطبع، واذا افترضنا ان المراجعة قد حصلت قبلها، فلا بد من التحري والانتباه في التعامل مع الموضوعات والاحداث التي وردت في المذكرات بحذر وانتباه. ولا نعلم كذلك الظروف التي ساعدت (أبو ردين)، و مكّنته بسرعة وبشكل مفاجئ لبناء علاقة متينة ومتلازمة مع حمدون، حسب وصفه لها: (أصبحت لا أستغني عن رأيه ونصيحته في معظم فعالياتي ونشاطاتي، كنا كلينا نفكر على نفس الموجة، ص 51).

إزاء ذلك، فالمذكرات تمدّنا بمعلومات واسعة معززة بالتقارير اليومية ومحاضر الاجتماعات والرسائل المتبادلة بين المسؤولين، اسهمت في بناء ثقافة جديدة في العلاقات الدبلوماسية،  فأفضل النظريات وأعمقها، وأكثر الافكار والرؤى صدقاً هي التي تقول وتنجز، وتحقق وتمارس فعلها الحي، والا كانت مجرّد كلمات خيالية بلا معنى.

ان مذكرات حمدون بحق أقول يمكن أن تكون درساً لدبلوماسيينا الآن، وخاصة لأولئك الذين تنقصهم الخبرة، أو  الذين شغلوا المواقع من دون جدارة أو مؤهل مهني أو أكاديمي، انما قفزوا عليها عبر الأحزاب والطوائف والقوميات.

يشعر نزار حمدون بالأسى لأنه لم يحتفظ بما ينبغي من مدوّنات ويوميات عن مختلف مراحل تجربته، وخاصة  مرحلة وجوده كسفير لبلاده في واشنطن 1983- 1987،ومن بعدها كوكيل لوزارة الخارجية، وكممثل للعراق في هيأة الأمم المتحدة، وشهدت حقبة التسعينات أسوأ أنواع الدبلوماسية التي عاشها حمدون.

ومن أهم الوثائق التي تضمنها الكتاب تلك التي تتعلق بمحاضر الجلسات مع القائم الاعمال الامريكي في بغداد من 2 آب الى منتصف كانون الثاني1991، كانت فترة سوداء، داكنة، قاتمة في تاريخ العراق والدبلوماسية العراقية كما يصفها نزار، كان الجو السائد ينبئ عن كارثة كبرى قادمة لا محال: " كنت أتحدث مع القائم بالأعمال وأنا أتمزق من داخلي، لأنني كنت أرى ونتيجة للمنطق الأعوج أننا سائرون نحو الدمار والكارثة" .

نزار حمدون من مواليد بغداد، والده كان ضابطاً عسكريا في الحرس الملكي، أكمل دراسته الثانوية في كلية بغداد، وتخرج من القسم المعماري في كلية الهندسة، كانت البيئتان المنزلية والمدرسية أحد العوامل التي بسببهما اختار الانتماء لحزب البعث في عام 1959، وتركز نشاطه في المجال الطلابي، ثم انغمس بشكل سريع في العمل الحزبي، وكان عضواً في تشكيل حزبي خاص منتقى للأعمال الصدامية التي تقتضي المواجهة، اسمه (لجان الانذار)، ثم شارك في تشكيلات الحرس القومي بعد انقلاب شباط 1963، ويشير حمدون بوضوح الى وضع الحزب الحاكم انه كان يتردى بشكل متواصل، وسمعته الشعبية تتراجع بسبب الممارسات الدموية ضد أعدائه السياسيين(ص25).

يعد أحد مؤسسي الاتحاد الوطني لطلبة العراق، وأصبح رئيساً للمكتب التنفيذي فيه عام 1967،وتم اختياره كأحد عناصر جهاز (حنين) في منتصف عام 1964، تكون مهماته خاصة وصدامية في التصدي للخصوم من الأحزاب السياسية الأخرى، شغل مسؤوليات قيادية حزبية بعد انقلاب 17 تموز 1968، وكان عضواً في مكتب التنظيم السوري، الذي لم يكن مقتنعاً بجدية العمل فيه. الذي كان بمجمله أقرب لعمل المخابرات وأحياناً بعمل العصابات التي لا تتورع من ممارسة العنف عندما تجد إليه سبيلا.

كان اغتيال حردان التكريتي عام 71 صدمة كبيرة له اذ يقول: " تعرفت على أول أساليب المخابرات العراقية واستهتارها بالأعراف العربية والدولية بعد ان علمت ان منفذي الاغتيال من جهاز مكتب العلاقات تم تهريبهم من الكويت الى العراق بصناديق السيارات"، حين ذاك كان حمدون مسؤولاً للتنظيم العسكري في البصرة، واستقبل بالمساء نفسه الوفد القادم من البصرة برئاسة رفيقه وزير الخارجية عبد الكريم الشيخلي (ص30).

كان حمدون مختلفاً في رؤاه للأمور والقضايا السياسية قبل أن يفهم العالم كما ينبغي منذ نهاية عام 1983، يقول: لم أكن متطرفاً في أي وقت من حياتي، وربما لأسباب ذاتية وتربوية، ولكني مع ذلك لم أكن قد أدركت. كما أدرك صديقي فاتك الصافي، منذ وقت مبكر جداً أننا نسير بطريق لا يؤدي إلاّ الى المزيد من الديكتاتورية والدموية والفردية.

كما كشفت العديد من الرسائل التي كتبها الى صدام حسين عن مقدار الوضوح و(الشجاعة) التي تعطي انطباعاً عن جرأته في التنبيه للمخاطر والتحديات، نشير الى امثلة منها: رسالته التي تتعلق بأحداث خان النص، وأخرى يسأل فيها الرئيس " لماذا توضع صورتكم يومياً في الجرائد الثلاث، لم أفهم فعلاً ما المقصود بذلك، وأية نظرية اعلامية ناجحة تقتضي ذلك؟؟"

كان حمدون أنذاك وكيلاً لوزارة الثقافة والأعلام بمعية الوزير لطيف نصيف جاسم، ويبدو ان العلاقة المهنية بينهما غير طيبة، لم تترك لديه ذكرى حسنة أو إيجابية تدعوه لاحترام منهجه وسلوكه الاعلامي، كان مختلفاً معه،  وعارضه في أكثر من موقف، كانا من بيئتين وثقافتين  متناقضتين، لذا لم يتورع من وصفه بما يعتقد من أوصاف .

كتب (للرئيس) بعد 14 شهراً من اندلاع الحرب مع ايران (ص39):

أكدتم في كل المناسبات بان الحرب لم تكن ارادتنا، نحن اضطررنا لمحاربتهم في اراضيهم ومدنهم خيراً من اراضينا ومدننا، بعد ذلك يبرز في الاعلام العراقي قول يؤكد ان الحرب ذات أبعاد آيديولوجية وفكرية!! انه حديث خطير كما أرى.

معركة ضخمة، تضحيات فذّة تعرفونها جيداً، تراجع اجباري لابد منه، ألوف الأسرى العراقيين، مع ذلك والاعلام يتحدث كطاحونة هواء يستمر بالحديث عن تقدم وانتصار مزعوم للجيش، ماالذي كنا نعنيه عندما كنا ننتقد ما سُمي بإعلام 5 حزيران؟

هذه المذكرات بصفحاتها (الستمائة) قدمت إضافة نوعية في الكتابة عن الحياة السياسية والعمل الاعلامي والدبلوماسي لفترة دقيقة من تاريخ العراق، وهي خلاصة لتجربة متفردة يصعب اختصارها بقراءة واحدة، انما يقتضي البحث فيها والإحاطة بأهم محاورها، المزيد  من  الضوء للكشف عن  المحطات الدبلوماسية في حياة وتجربة نزار حمدون المهنية. (الحلقة الثانية: مرحلة الدلال الأمريكي).

***

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم