قراءة في كتاب

جمال العتّابي: شخصيات قلقة في تاريخ العراق المعاصر

مرّت كتابة التاريخ منذ ثمانينات القرن الماضي بتحول اجتماعي في عدّة أجزاء من العالم، وسواء أصطلح عليه " التاريخ من الأسفل " .. التاريخ الاجتماعي، أو دراسات عهود ما بعد الاستعمار : مفهوم الهامشيين والمهمشين، فقد كان هدفه تأهيل الأفراد الذين عانوا من التمييز والتجريم والتهميش، أو أن محاولاتهم للوصول لعلاقات السلطة قد قمعت من قبل النخب الحاكمة.

في حالات أخرى، لم يترك المهمشون آثاراً خطية تمكّن المؤرخين من إعادة تأهيلهم، غالباً بسبب عدم معرفتهم بقواعد القراءة والكتابة، أو إدراك أهميتهما في تسجيل الأحداث، وبغياب هذا النشاط من الممكن البحث عن مصادر أخرى في آرشيف الوثائق والآثار الخطيّة حتى لو كانت هذه المصادر تعكس منظور النخب الحاكمة.

انطلاقاً من هذا الواقع جاءت محاولة الباحثة السويسرية (الدكتورة ألين شليبفر) لإعادة قراءة تاريخ العراق المعاصر من زاوية أخرى، تبتعد فيها عن التاريخ الرسمي الذي فرضته النخب السياسية الحاكمة والقوى الاستعمارية ممثلة في بريطانيا التي حاولت الترويج لرؤيتها في فهم المرحلة التأسيسية لتشكيل الحكم الوطني في العراق الملكي في عهود الاحتلال والانتداب والاستقلال، وما تلاه من من مراحل جمهورية عاصفة بعد سقوط الحكم الملكي في عام 1958 وتشكيل النظام الجمهوري.

الباحثة (شليبفر) أستاذة في جامعة بازل السويسري، صدر لها عام 2016 كتاب (المثقفون اليهود في بغداد)، ونشرت عدداً من الدراسات المتعلقة بتاريخ الأقليات في البلاد العربية، كما درست التأثيرات العثمانية في الفضاءات العربية. ويأتي كتابها (شخصيات قلقة في تاريخ العراق المعاصر...طالب النقيب وعبد المحسن السعدون) الصادر عن دار نشر ومكتبة عدنان 2024، ضمن حقل اهتماماتها البحثية، في دراسة شخصيتين جدليتين في تاريخ العراق المعاصر، هما النقيب والسعدون، اللذان شكّلا ركناً أساساً في النظام الملكي، وكانا منافسين رئيسين للنخبة الحاكمة الهاشمية عشية تأسيس الدولة العراقية الحديثة. ولابد من الإشارة الى الجهد الكبير الذي قدمه الدكتور محمود القيسي في ترجمة الكتاب والتقديم له بإضافة علمية أنارت جوانب مهمة في سيرة الشخصيتين بفضل  تخصصه في التاريخ الحديث، وخبرته الطويلة في هذا الميدان.250 elin

كان طالب النقيب منافساً عنيداً للعرش العراقي، وشكل مصدر قلق للإدارة البريطانية في العراق، ومنها النخبة الهاشمية الوافدة من (موروثات الثورة العربية) بحاضنتها البريطانية، في حين شكّل السعدون موروثاً آخر من التراث العثماني القبلي الذي ظل متمسكاَ فيه على الرغم من تناقضاته مع العهد الهاشمي الجديد، فتعرّض كلاهما للإقصاء: الأول بالنفي المتكرر والإبعاد عن المشهد السياسي العراقي، والثاني بالانتحار في 1929 الذي أدان فيه الاستعمار البريطاني، وما زال الحدث يكتنفه الغموض في دوافعه وحدوثه المفاجئ، في الوقت الذي كان فيه السعدون رئيساً للوزراء على رأس هرم السلطة. ومن المفارقات أن يكون هذا العام هو عام وفاة طالب النقيب كذلك، الوفاة سجلت غياباً لشخصيتين مؤثرتين في المشهد السياسي العراقي.

في دراسة التاريخ تشكل مجموعة الوثائق مصدراً يكتسب أهميته من كونه يسلّط الضوء على مجريات الحياة المختلفة من وجهة نظر أصحاب العلاقة بتلك المجريات، وقدر تعلق الأمر بالمصادر، تركت الشخصيات المهمشة في بعض الحالات آثاراً خطية، مثل اليوميات والمذكرات والوصايا، إلا ان غياب بنى تحتية للتراث قادرة على الحفاظ على هذه الآثار، فان المصادر تتعرض للضياع او الإهمال في أفضل الحالات، وتتلف بالكامل في أسوء الحالات.

يحدث أيضاً أن الأفراد المتعلمين لم يتركوا آثاراً، أو تركوا القليل جداً، فيما إذا كانوا أقل ميلاً للكتابة من الكلام، على سبيل المثال : نذكر أن النقيب كان واحداً منهم، كان مفاوضاً سياسياً ووسيطاً أكثر من كونه كاتباً، ولحسن الحظ، فأن تفاصيل نشاطاته وحياته وجدت لها من يحفظها ويدوّنها ويصونها في أعمال كاتب غزير الإنتاج، الصديق المقرب للنقيب هو سليمان فيضي، في مذكراته الصادرة في 1952 .

على نحو مغاير للضعفاء أو المهمشين والأفراد الذين همّشوا من المجتمع خلال حياتهم، تم ابعاد الآخرين إلى هوامش التاريخ بعد مماتهم، أعني بذلك ان التاريخ وليس المجتمع هو من همّشهم، وهذا يستدعي التساؤل عن وظيفة التاريخ الرسمي التي تحرّك الاختيار الواعي على الرغم من وفرة الآثار الخطية والمصادر، بمعنى آخر،نتساءل:  هل يكون التاريخ الرسمي ذاتياً؟ أو مع من يشعر التاريخ بالتعاطف؟ الجواب : حتمي مع المنتصر، فجميع الحكام هم ورثة أولئك المنتصرين سابقاً، ومن هنا فأن التعاطف مع المنتصر يأتي على الأغلب في صالح الحكام.

الباحثة شليبفر تحاول أن تستعيد الحياة التاريخية لشخصيتين عراقيتين أهملتهما الدراسات التاريخية كما تعتقد، وفي بحثها هذا تحرص على التزام المنهج العلمي، الموضوعي كي تبتعد عن التمجيد وخلق البطولات.

كان لطالب النقيب علاقات قوية بالحكم العثماني، وخطواته الأولى في السياسات الإقليمية عززت مكانته السياسية والاجتماعية، وفاز بالدعم الشعبي في أوساط الرأي العام في البصرة وما وراءها، وفي عشية احتلال بريطانيا للبصرة صار النقيب شخصية متنفذة للغاية في المدينة وسط أزمات حادة بين البريطانيين والعثمانيين. قرر بعدها الإنكليز ابعاده الى الهند عام 1915 بوصفه شخصية غير مرغوب فيها.

كان البريطانيون مستمرين بإقامة علاقات ودبلوماسية معه بالاستجابة لبعض مطالبه بل وحتى دعمه مالياً، يعاملونه كتهديد يجب احتواءه، وكحليف محتمل لمستقبل وجودهم في العراق. في تشرين الثاني 1920 تمت دعوة طالب النقيب لقبول منصب وزير الداخلية في الحكومة الانتقالية ثم أعلن مقولته الشهيرة أنه " بحلول الخريف سيصبح ملكاً للعراق"، وكان حقاً يعدّ مرشحاً جدياً لعرش العراق، إلا ان الأمور تغيرت إلى الأبد بالنسبة له بعد اختيار فيصل ملكاً للعراق إثر مؤتمر القاهرة في آذار 1921. وأعلن تمرده على القرار بالتهديد في استخدام السلاح، مما دفع القوات البريطانية الى اعتقاله ونفيه مرة ثانية إلى سيلان.

تمكن النقيب من العودة الى العراق في مايس 1925 بعد وساطات إقليمية ودولية، وقضى سنوات عمره الأخيرة فيه، قبل الانتقال على المانيا التي توفي فيها عام  1929.

نقرأ في إحدى الأوراق البريطانية النص التالي" إن هذا الرجل، نقيب البصرة، كان يجب، بحسب رأي الكثيرين أن يكون مرشحنا لعرش العراق، لقد قتل نفسه بشرب النبيذ ومعاشرة النساء في ألمانيا في السنوات القليلة من حياته "؟

يذكر السياسي العراقي حسين جميل في كتابه " العراق شهادة سياسية 1908-1930" : من ذكرياتي أيام الدراسة الإبتدائية في العمارة زيارة السيد وزير الداخلية طالب النقيب الى مدرسة " تذكار الجنرال مود الابتدائية" وكان مديرها جورج يرتدي " البرنيطة" فما كان من النقيب إلا أن طلب من المدير نزعها بوصفها زياً أجنبياً، ويروي سليمان فيضي في مذكراته ان القنصل البريطاني عرض عليه منصب الحاكم العام لولاية البصرة والناصرية والعمارة، وكان شرطه لقبول المنصب بعد طرد الاتراك من الأراضي العراقية، هو تأسيس دولة مستقلة دستورية تحت حماية الإنكليز ملكية أم جمهورية في استفتاء شعبي.

وفي ما يتعلق بشخصية عبد المحسن السعدون، أحدث انتحاره دوياً كبيراً في المجتمع العراقي وهزّة عنيفة في الحكم، كرئيس للوزارة أربع مرات، ورئاسة المجلس التأسيسي، ورئاسة مجلس النواب، فضلاً عن كونه رئيساً لحزب سياسي هو صاحب الأكثرية في مجلس النواب، إلى جانب ما تضمنه خطاب الانتحار من علاقة بين الانتحار والوضع السياسي القائم، وفيه : " أن الأمة تطلب الخدمة والإنكليز لا يوافقون". فكانت النهاية دراماتيكية حزينة.

صوّب السعدون مسدسه ليطلق رصاصة واحدة إلى قلبه تاركاً رسالة باللغة التركية لابنه علي في تشرين الأول من عام 1929 بعد أكثر من عشر سنوات من انتهاء الاحتلال العثماني للعراق، يكشف الحدث تداعيات عديدة تتعلق بسياسات الهوية وراء ادعاءات العروبة وتساؤلات عديدة عن : إرث اللغة التركية، فقدان للذاكرة أم عدم اكتراث؟ عن التناقض بين الآراء التي تنسب السعدون لأصوله العربية، في سياقه الاجتماعي والسياسي والعائلي. فإلى أي مدى كان رئيس الوزراء العراقي يجسد بحق هويته العربية؟ ولماذا يعد برأي الباحثين نموذجاً لهذا الانتماء على الرغم من هذا التناقض ؟

كان السعدون قد درس في إسطنبول وتخرج من أكاديميتها العسكرية برتبة مقدّم، وعمل مساعداً في قصر السلطان عبد الحميد الثاني، إلا ان السلطات البريطانية اختارته من بين القلّة المتعلمة لاشغال المراكز الوزارية في العراق منذ عام 1922، وساعد على ظهوره انتسابه إلى اسرة آل سعدون وثقافته التركية، كما عُرف  بنشاطه السياسي غير المتطرف.

في هذا الصدد تشير احدى الروايات إلى أن الملك فيصل كان يعبّر عن انزعاجه الشديد أثناء قراءة خطبة صلاة الجمعة باسم السلطان – الخليفة، باللغة التركية وليس باسمه وإن كان حاضراً في المسجد، فطلب من السعدون منع هذه الممارسة، إلا أن الأخير رفض التنفيذ مدعياً أن فرض أوامر الملك ستخلق حالة من الفوضى في البلد.

تحددت مسارات حياة السعدون السياسية بخطين واضحين، الأول: التعاون مع الإنكليز انطلاقاً من اعتقاده بحاجة العراق الى مثل هذا التعاون في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة . والخط الثاني تأكد له ان الإنكليز غير جادين في تنفيذ وعودهم، في هذا التحول خيبة أمل للسعدون من علاقته مع الإنكليز، كان يشعر بالعجز، ومتذمراً، لم تنصفه المعارضة، حزبه (التقدم) تخلى عنه، وجد نفسه في وضع صعب لم يحتمله بين مطرقة المطالبين باستقلال العراق، وبين سندان المندوب السامي وتعنّت سياسة الانتداب، فانتهى إلى الإنتحار .

***

د. جمال العتّابي

في المثقف اليوم