قضايا

نوزاد جمال: موت الواقع أم تزيیفە؟

الواقع بين فیلم 'عرض ترومان' وحلم ديكارت

- المدخل: لاینكر، إن فكرة الواقع ومفهوم العالم،  كرّست في ثقافة البشر وغرست في الأذهان كحقائق بدیهیة. ولكن، في ظل ما يقع في العالم الحاضر، من أحداث ووقائع، يرغمنا على التفحص والتدقيق في مفهوم الواقع. فعندما نتابع أحداث العالم والكوارث في شتى ظهورها، لا نتفاجأ كأننا نتفرج في 'ديزني لاند' ولكن بصورة أكثر مأساوية.

لكن بفضل تكنولوجیا التواصل الذكي، أصبح الأمور أكثر شفافية  مما كان، وعلی الرغم من هذا يغدو الواقع متلبسا، رماديا وغیر واضح تماما. هذه الفكرة تعود الی بدایات شروعي في كتاب 'الفلسفة والفیسبوك' عام ٢٠١٩بالكردیة'، عندما استنتجت بأنه لم یعد هناك خط فاصل بین ماهو واقع/كائن وماهومصطنع/متخیل.

لأن مفهوم الواقع تأثر بهیمنة التكنولوجیا الحدیثة ورؤیتنا للعالم تغیرت من حیث المكان والزمان. لذا لم یعد الفصل بین ماهو واقع ولاواقع، ولابین ما هو مرئي وماهو مجرب ممكنا. لكن المفارقة هنا هي: أن الواقع أصبح ضبابي في الفضاء المسمی بالواقع المرئي. وبالتالي فما نراه في الأفلام، تقدم وجها آخر لحقيقة الواقع. فهل یمكن للسینما أن یقربنا من الواقع أم أنه یقدمه بطریقة خاطئة أو يقدم بديلا آخرا عنە؟

الواقع كسؤال فلسفي

ماهو الواقع اصلا؟ هل هو مجرد سرد أم خطاب ایدولوجي نتداولە؟ هل هو حقيقة أم فبركة؟ وهل هناك مفهوم أحادي للواقع؟ أم لابد من التفیكر في الواقع بصيغة الجمع/ الوقائع؟

فلسفیا، یمكن الجزم ان الواقع كمهوم كمعطی وجودي. لكن لابد أن يخضع مفهوم الواقع الی محكمة العقل والنقد مجددا. لأنه أصبح متلبسا، مبهما ومخلوطا. فهو ليس كشيء في ذاته (الوجودالعيني) یمكن قبضه. بل یمكن القول بأن الواقع مابین العوالم- الوجودات (جمع الوجود) المتعددة. أصبح الواقع بظهور التكنولوجیا المتطورة في حيز تلبیس ابلیس، إذا صح التعبير.

لأن التكنولوجیا حول ملامسة الواقع الی شيء مابيني وتراكم رقمي أكثر مماهو سائد. فلم یعد یمكن القول بأن الواقع بدیهي كما كان. بل أصبح من نوع 'السهل الممتنع' الذي يتعذر على العقل المعاصر التعامل معه كموضوع خارجي وطبیعي بحاله.

وهل هذا یعني بأن الواقع مجرد وهم ومن صنع عقولنا؟ أم هو حقيقة خارجة عنا؟ إبستمولوجیا، ينشأ فكرة الكون/العالم في الوعي من خلال ملامسة الواقع وتتشكل من خلال رؤية المرء وادراكها. فإذا جزمنا بأن العالم مجرد وهم، فهذا لايعني عدم واقعيته، بقدر مانعني بە سوء الفهم حوله. الوهم يشبه الحلم ويبدو الأمور ثابتًا حتى يستيقظ المرء منه.

كما، لا ننسى أیضا بأن العقل لا يخلق كل شيء، ولكنه يُملي على الأمور معاني وتفسيرات حسب ما يجول في خباياه. لذا، كان التمييز بين "الواقع"و"اللاواقع" أو الحقيقة و"الحلم" أمرا ضروريا. لكن تبدوا الأن بأن الحیاة اختزلت في الشبكات والمنصات وباتت موازية لما تعكسها. فماهو كائن ونعتبره واقعا منسوج خوارزمي خاصة بظهور الذكاء الإصطناعي.

من هنا، نشهد امورا لاواقعیة وأحداث أو أخبار غير موثوقة ولكن تنشر كحقائق بدون سند واقعي. وهذا مايجعلنا نتساءل: مدی واقعیة الأمور في الوقت الحاضر. كما لانستغرب إذا ادركنا أنما يحدث في الواقع بمعناه السائد وعلى المستوى المحلي والعالمي أیضا لم یعد يهزن مشاعرنا. لأننا نعایش الأحداث والمآسي من خلال الشبكات فقط. وهذا یؤدینا الی سؤال خطیر: هل هذا بسبب الموت الفكري فینا أم بسبب "موت الواقع" نفسه؟ لكن كيف یموت 'الواقع'؟ وهل ما نمر به في الوقت الحاضر مجرد حلم أم ماذا؟

الواقع في الحلم الدیكارتي وترومان شو

قبل حوالي أربعة قرون، تساءل ديكارت (1596-1650) نفسه: هل ما هو موجود، حقيقة أم حلم؟ كيف أعرف أنه حلم في حین أن حواسي نشطة أثناء "حلمي"؟

إذن، كیف نرسم الخط الفاصل بين الحقيقة والزيف في ظل التقنیات الذكیة؟ ربما نتسرع بالقول؛ أن فكرة ديكارت طفولية في الأساس. فمن منا لا يفهم الفرق بين الأحلام والواقع.

بطبيعة الحال، كان هدف ديكارت هو؛ أن الأحلام دليل آخر على أن حواسنا تضلّلنا في معرفة الحقيقة. ومن ثم، يصبح السؤال عن ماهية الواقع، أمرا صعبا. وهذا يقود ديكارت إلى منهج "الشك" عن مانختبره ونحس به.

لنعود إلى فیلم (The Truman Show) الخيالي في عام 1998 وبطولة أيقون السينما 'جيم كاري'. فأصل القصة تبدأ؛ بعد أن يترك ترومان والدته، عندما كان طفلاً، تم تبنيه من قبل شركة إنتاج تلفزيوني ومنذ ذلك عاش في استودیو 'سیف هافن'. ولم يغادره طيلة حياته. وبطبيعة الحال، فإن ترومان محروم من العديد من الأشياء دون إرادته وعلمه.

ثم تقوم الشركة باستخدامه في برنامج تلفزيوني. وفي أحد السيناريوهات، يغرق "والده" في قارب أمام عينيه، ويسبب هذا الحدث الخوف من الماء. كما أنه يتعامل یومیا مع المكان - الأستوديو - الذي نشأ فيه، كبيئة واقعية حقیقیة دون أن يدري.

في حين أن الماء والسماء ودرجة الحرارة والمناظر الطبيعية والشوارع والمنازل والأسواق وما إلى ذلك هي جزء من الاستوديو المجهز. ولايدرك بأن الحياة التي يعيشها، ليست حقيقية.

فالبيئة، والأحداث، والحوارات كلها تم إعدادها في "الفضاء المنظم" استوديو كبرنامج تلفزيوني يتم بثه بالطريقة المباشرة للجمهور امام التلفزیون. فحياة ترومان، مسجلة عبر خمسة آلاف كاميرا في مختلف الأماكن داخل الستوديو. بتعبير أخر، أن الواقع مزور ومختلق بداخل الستودیو. واستدرك جیم بأن العالم ووسائل الإعلام والسياسة وحتى أصدقائه وأقاربه يكذبون عليە.

إذن أن المظاهر/الظاهر كما یراه ویدركه، مصطنع ومنسوج لغوي وانعكاس للفكر/العقل. فقصة 'ترومان' مثل المجنون الذي أيقظ الواقع عقله. فما اختبره وجربه لم یكن الواقع بذاته، بل كان منسوج فني عن طريق إخفاء الحقائق عنه.

الرسالة هنا؛ أن الحياة المصورة، تعني أن كل ما نراه هو مجرد سيناريو. فعمله وزوجته وأصدقائه وزملائه كلهم ليسوا إلا ممثلون يؤدون أدوارهم. فالكل جزء من سلسلة تلفزيونية حية، يشاهدها الجميع في أنحاء العالم.

وهذا یشبه نوعآ ما یحصل في حياتنا الآن، حیث يتلاعب السياسيون والشخصيات الدينية والإجتماعية والإعلامیة بالمعاني و"الحقائق" وتحویرها. فمن خلال سرد قصص أيديولوجية- الوطنية والقومیة، الدينية والليبرالية الجديدة والخ في الوسائل الإعلامیة والشبكات، یهدفون الی خلق واقع بدیل ومزیف.

وهذا يعرض وعي الناس الی نوع آخر من الخطر ویمكنه تسمیته بالإستبداد الجدید. فهناك قوى فاعلة ونافذة محليا وعالمیا، یتحكم بالوعي. فمن بسرد أخبار ومعلومات غیر صحیحة الی وقائع بدیلة وتضخیم امور سطحیة.  فالهدف؛ هو تمديد عمر 'السلطة' الحاكمة من خلال افشاء أوهام وسردیات لازمنیة.

لازالت السلطة تراهن "رهانا فاوستیا" مع الشر/الشيطان من أجل البقاء. وذلك، بخلق واقع كاذب ومبرر وتشويه الحقائق وتزوير التأریخ من خلال الروايات الكاذبة. لذا لا نستغرب بان الوضع في مجتمعاتنا المعاصرة یكاد يشبه مجتمع 'ما بعد-الحقيقة'. فطغیان المعلومات الملفقة والحقائق المشوهة، تضيق الخناق علی الواقع.

فنحن أمام ظاهرة أو حملة "تشويه الواقع". وهذا، یذكرنا  برسالة الرسام الإنجليزي فرانسيس بيكون (1909-1992)؛ الذي اعتقد  'إذا أردتَ نقل الحقيقة، فلا سبيل إلی ذلك إلا بتشويهها'. فمن خلال تشويه أو إستبدال "الظاهر" بصورة أخرى عنها.، یكمن خلق حقیقة أخری!

ولكن بفضل حلم ديكارت ووهم ترومان، وفرشاة بيكون والفكر الفلسفي الناقد، إيقاظ الوعي من كابوس "الواقع". فعندما تكون الخطابات والسرديات السائدة عن الواقع منشغلة بتهدئة عقولنا، يتعين علينا إستعادة الوعي الذاتي والنقدي ونبش نعي الواقع/الحقیقة مجددا ومرارا. لم یعد الواقع بریئا كما كان أو علی الأقل بالصورة المقدمة الینا.

***

بقلم نوزاد جمال

باحث ودكتوراه في الفلسفة الحدیثة

 

في المثقف اليوم