قضايا
مجيدة محمدي: الأنثى المبدعة بين التقييم الجنساني والانتقاد الذكوري

المظاهر، والنتائج، والآفاق
مقدمة: ظل الإبداع عبر العصور خاضعًا لمعايير تفرضها البُنى الثقافية والاجتماعية، حيث تباينت فرص الاعتراف بالمبدعات بين التجاهل والاحتفاء المشروط. ومع تحوّل المجتمعات وتطور الفكر النقدي، استمرّ سؤال الإبداع النسوي في التعقيد والتشابك بين تقييمٍ جنسانيّ يُقوّم إبداع الأنثى وفق معايير مختلفة عن الرجل، وانتقادٍ ذكوريّ يحمل في طيّاته تحيزات ثقافية متجذّرة. في هذا المقال، سنحاول تحليل هذه الظاهرة من زواياها المختلفة، مستعينين بنماذج أدبية، علمية، وفنية لمبدعات تحدّين القيود ونقشن أسماءهنّ في سجلّ الإبداع الإنساني.
أولًا: التقييم الجنساني للإبداع النسوي
يُعرّف التقييم الجنساني بأنه القراءة النقدية للإبداع بناءً على هوية الجندر، لا على جودة الإنتاج ذاته. فبينما يتم الحكم على الرجل بناءً على معايير الإبداع الموضوعية، غالبًا ما يُخضع إبداع المرأة إلى "نظرة مزدوجة" تتراوح بين التشكيك في جدارة إنتاجها، وبين محاولة حصره في نطاق "الأنوثة"، أي في موضوعات العاطفة، الحميمية، أو الشؤون المنزلية.
1- الأدب النسوي: بين التقييم والتصنيف
لطالما وُضع الإبداع الأدبي للمرأة في إطار "الأدب النسوي"، وهو تصنيف يحمل دلالات إقصائية أحيانًا، إذ يُفصل عن "الأدب الإنساني" وكأنه فرعٌ منفصل له طابع خاص. على سبيل المثال، عندما أصدرت فرجينيا وولف غرفة تخصّ المرء، كانت رؤيتها تدور حول امتلاك المرأة للفضاء المادي والذهني الذي يسمح لها بالإبداع، لكن النقد الذكوريّ تعامل مع أفكارها على أنها "تذمّر نسوي"، متغافلًا عن البعد الفلسفيّ لطرحها.
أما العربية مي زيادة، التي خاضت غمار الفكر والفلسفة، فقد قُرئت نصوصها من منظور "الأنوثة العذبة"، متجاهلين قدرتها النقدية العميقة. في المقابل، نجد أن جبران خليل جبران -الذي كتب عن الحب والروحانيات- لم يُصنّف كـ"كاتب رومانسيّ رجاليّ"، بل عُدّ كاتبًا إنسانيًا عالميًا.
2- التقييم الجنساني في العلوم: عبقرية مؤجلة
في الحقول العلمية، لم تخلُ المسيرة النسوية من أشكال مماثلة من التقييم الجنساني، حيث غالبًا ما يُنسب الفضل إلى الرجال حتى وإن كانت المرأة هي العقل المدبّر. على سبيل المثال، عانت روزاليند فرانكلين من التهميش في اكتشاف بنية الحمض النووي رغم أن صور الأشعة التي التقطتها لعبت الدور الحاسم في تحقيق واطسون وكريك لهذا الاكتشاف.
أما ماري كوري، رغم حصولها على جائزتي نوبل، فقد كان يُنظر إليها دومًا بوصفها "زوجة بيير كوري" قبل أن تكون عالمةً قائمةً بذاتها، وكانت تحمّل عبء إثبات جدارتها أكثر مما فعل زملاؤها الذكور.
ثانيًا: الانتقاد الذكوري بين الممانعة والتحجيم
تتعرّض المبدعات، خاصةً في المجالات التي ظلت حكرًا على الرجال، لانتقادٍ مزدوج: الأول يهدف إلى ممانعة دخولهنّ المجال، والثاني يسعى لتحجيم تأثيرهنّ.
1- الانتقاد الأخلاقي: سلاح التشويه
منذ العصور القديمة، ارتبط الإبداع الأنثوي بمحاولة التشكيك في "أخلاقية" المرأة المبدعة، فسواء كانت شاعرة، كاتبة، أو فنانة، غالبًا ما وُوجِهت بتهم "الخروج عن التقاليد".
ففي العصر الجاهلي، كانت الخنساء شاعرةً فريدةً، لكنها لقيت من النقد ما لم يواجهه الشعراء الرجال، فقد كان يُنظر إلى مرثياتها من باب "العاطفة النسوية" وليس "القوة الشعرية". أما في العصر الحديث، فقد عانت فدوى طوقان من القمع الأسري، حيث اعتُبر خروجها إلى فضاء الشعر خروجًا عن القيم المحافظة، وهو نقد لم يكن ليُوجه لأي شاعرٍ رجل.
2- الرفض المؤسسي: التحيز الأكاديمي والجوائز
لم يكن النقد وحده ما واجه المبدعات، بل أيضًا المؤسسات الأكاديمية والجوائز العالمية التي غالبًا ما تحابي الذكور. فرغم إنجازاتها العلمية العظيمة، لم تحصل العالمة جوسلين بيل بورنيل على جائزة نوبل رغم أنها من اكتشفت النجوم النابضة، بينما نالها زملاؤها الرجال. وكذلك في عالم الأدب، لم تحصل الكاتبة الأمريكية توني موريسون على جائزة نوبل إلا في وقت متأخر، رغم تأثيرها العميق في الرواية الحديثة.
ثالثًا: النتائج الاجتماعية والثقافية للتمييز النقدي
1- تثبيط المواهب وقمع الأصوات الجديدة
إن التقييم الجنساني والانتقاد الذكوري يخلقان بيئة طاردة للمبدعات، حيث تجد النساء صعوبةً في إثبات ذواتهنّ، مما يدفع الكثيرات للعزوف عن ممارسة الإبداع أو تبنّي أساليب أقل جرأة خوفًا من الانتقاد.
2 - إعادة إنتاج الهيمنة الثقافية
حين يُقيَّم إبداع المرأة وفق معايير مختلفة، يتم ترسيخ فكرة أن الفكر الذكوري هو المعيار، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج نظامٍ ثقافيّ يُقصي المرأة أو يحدّ من أفقها الإبداعي.
رابعًا: آفاق مستقبلية للمبدعات في مواجهة التقييم الجنساني
1- إعادة صياغة النقد الأدبي والعلمي
يجب الدفع نحو نقد أدبي وعلميّ يتجاوز التصنيفات الجندرية، حيث يكون الحكم على الإبداع استنادًا إلى قيمته الفنية والفكرية لا على هوية المبدع.
2- دعم المؤسسية والاعتراف بالمبدعات
يجب أن تُمنح النساء فرصًا متساوية في الجوائز والمنشورات الأكاديمية والمؤسسات الثقافية، مع ضرورة إبراز مساهمات النساء التي طُمست عبر التاريخ.
3- تكوين حركات نسوية نقدية
إن تأسيس منصات نقدية نسوية مستقلّة من شأنه أن يعيد صياغة كيفية قراءة الإنتاج الثقافي والعلميّ، مع التركيز على إبراز إبداعات النساء بمعزل عن الأحكام المسبقة.
خاتمة
إن الأنثى المبدعة ليست كيانًا هشًا يبحث عن القبول، بل هي قوّة متجدّدة تصارع من أجل اعترافٍ عادل بإبداعها. ومع تطور الفكر المجتمعي، يتعيّن على النقد أن يتحرر من أحكامه التقليدية، حتى لا يُختزل إبداع المرأة في هوية جنسها، بل يُنظر إليه بوصفه تعبيرًا عن التجربة الإنسانية الشاملة.
***
مجيدة محمدي – شاعرة وباحثة تونسية
.......................
المراجع
- وولف، فرجينيا. غرفة تخصّ المرء، 1929.
- دي بوفوار، سيمون. الجنس الآخر، 1949.
- جوردون، ليندا. النساء والعلم: تاريخ من التهميش، 2003.
- هيلين سيسو. الكتابة النسوية، 1975.