قضايا
اسعد شريف الامارة: بعضٌ من أعراض عصاب الحرب
العصاب هي الاضطرابات النفسية التي تشمل القلق المرضي، الفوبيا " المخاوف المرضية"، "الحواز - الوساوس بأنواعه - العصاب القهري"، الاضطرابات النفسجسمية- السيكوسوماتيك، الاكتئاب النفسي، توهم المرض، الهستيريا بأنواعها وغيرها، ومنها عصاب الحرب، والصدمة، والكوارث. يرى "صلاح مخيمر " أن الأعصبة تشكيلة تباينات لنمط كيفي واحد يستهدف التجنب والعزل ابتعادًا عن الخطر بأية وسيلة وبكل وسيلة، ويعرض "مصطفى كامل" في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي عصاب الحرب War Neurosis بأنه أحد أشكال العصاب الصدمي وغالبًا ما يحدث في موقف العمليات الحربية لبعض الأفراد الذين لا يحتملون موقف العمليات، فيستجيبون بأعراض مرضية تماثل أعراض العصاب الصدمي، وتكون حادة بصورة أكبر من بقية أشكال العصاب الصدمي. ويضيف " مصطفى كامل" أنه في الموقف العسكري يمثل القادة الآباء كحماة ومهددين في نفس الآن، فبعض الأفراد يمكن أن يتقبلوا هذا الموقف دون بروز الصراع، والبعض الآخر يؤدي به هذا الموقف إلى بعث الصراعات الطفلية المكبوتة فيضعف من قدرتهم على المقاومة، والبعض الآخر من الأفراد يجعلهم الموقف العسكري يشعرون بقدر أكبر من الاعتماد والحماية، وحديثنا سيكون خلال احتدام القتال، وكذلك ما بعد إنتهاء العمليات العسكرية والعودة إلى الحياة الطبيعية مع الأسرة، أو مع الأصدقاء، أو مع الأقرباء، هذا الشخص خرج من آتون الحرب التي أمتدت لسنوات خلال خدمته الفعلية في الحياة العسكرية، فبرزت بعض أعراض عصاب الحرب في سلوكه، وتعامله مع أقرب المقربين له وهم أفراد أسرته، أو من يلتقيهم في الحياة اليومية المدنية، تظهر أعراض عصاب الحرب بشكل واضح وجلي، منها عدم القدرة على الصبر والمطاولة في مواقف الحياة اليومية، الإستعجال في كل شيء، محاولة إنهاء كل موقف يومي بأسرع وقت، لا استمتاع في اللحظات الجميلة مع الأسرة في الحياة الاجتماعية، فضلا عن القرارات السريعة واتخاذها دون تأخير، أو تروي ولو كانت ناقصة غير مكتملة . ومن أعراض عصاب الحرب أيضًا عند بعض ممن عايشوا فترة طويلة من الحرب وكانوا جزءًا منها كمقاتلين ضباط، أو جنود، وأقصد هنا بعد إنتهاء العمليات الحربية والمواجهات مع الجانب الآخر من المقاتلين، تظهر أعراض الأحلام المزعجة والكوابيس، وتصل لإيقاظ الشخص من نومه مذعورًا، خائفًا، ويصدر منه صراخ أثناء نومه.
أن آثار الحرب تأخذ منحنين: المنحى الأول أثناء العمليات الحربية والقتال المحتدم مع الطرف الآخر فتظهر أعراض هستيريا التبدين من مختلف أنحاء الجسم مثل العمى الهستيري، أو الشلل الهستيري، أو فقدان النطق " صمم " مما يتسبب بعدم القدرة على التحدث، أو كما يحدث عند القائد حينما يصاب باضطراب قدرته على الكلام فيصبح عاجزًا عن أصدار الأوامر أو يصاب الرامي بالعمى الهستيري، أو العسكري المكلف على جهاز اللاسلكي المحمول في الجبهة حيث يصاب بالصمم الهستيري، أو الارتعاش الهستيري، ويصاحب ذلك أعراض أخرى مثل عدم القدرة على السيطرة على الجهاز البولي والمخرج، فيتبول على نفسه من شدة الخوف المصاحب للحالة، وكذلك يتغوط على نفسه ويفقد السيطرة على التحكم، وهذه الاعراض شاهدناها في الحرب الاسرائيلية مع المقاتلين في غزة في حرب عصابات وإستهداف القوات الاسرائيلية في أماكنهم المحصنة، فجأة أو حينما تكون القوات الاسرائيلية متحصنة في مبنى ويشتد القتال، فهنا تظهر الأعراض المرضية الهستيرية بشكل علني عند الجنود والضباط الاسرائيلين، ومنها فقدان السيطرة على النفس فيفقد الشخص سيطرته فيدخل في حالة بكاء شديد وصراخ، وهذه الحالة هي حالة هستيريا وتشبه مثل حالة العدوى، حيث تسري حالة إنخفاض المعنويات بسبب صراخ أحد الجنود في الموضع المحصن فينهار الاشخاص الآخرين ممن لديهم استعداد نفسي، أو بمفهوم "جاك لاكان " المحلل النفسي الفرنسي "بنية عصابية "، وتشتد وتأخذ أعراض مرضية أعمق حينما يترك المقاتل المصاب مواقع القتال ويتم إخلاءه إلى مصحة نفسية حيث تتضخم
لديه هذه الأعراض وتظهر حالة تسمى Borderline وهي تغيرات من حالة عصاب إلى حالة ذهانية، تأخذ أعراض جديدة أعمق ومنها فقدان السيطرة على سلوكه مع الآخرين، مع هذاءات وحركات غريبة في الوجه، أو التحدث مع أشخاص غير موجودين في الواقع، أو يخاف من أشخاص يعتقد أنهم يطاردونه، فيبكي ولا يستطيع طلب المعونة لأنهم غير موجودين في الواقع، لكنهم موجودين على المستوى المتخيل، فضلا عن حالة وهن نفسي وعصبي، وخوف من الكل، ويشعر بأنهم يضمرون له العداء وييحاولون قتله.
وهناك بعض حالات عصاب الحرب تظهر ما بعد أنتهاء العمليات القتالية ومنها خيالات تنتاب المصاب وهو في حالة الوعي وحينما يسأل عنها يجيب كما يقول " سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي في مقالة التذكر، التكرار، والعمل من خلال: في الواقع كنت أعرف ذلك دائمًا، أنا فقط لم أفكر في ذلك، غالبًا ما يعبر عن خيبة أمله لأنه لا يستطيع التفكير في ما يكفي من الأشياء التي يمكن أن يتعرف عليها على أنها " منسية" والتي لم يفكر فيها مرة أخرى منذ حدوثها، ومع ذلك فإن هذه الرغبة تجد مكانها أيضًا خاصة في قبول حالة هستيريا التحويل.
تبدأ أعراض عصاب الحرب بالظهور بعد انتهاء الحرب كما دونها " محمد أحمد النابلسي " مستشهدًا بانعكاسات مباشرة وفورية وأخرى غير مباشرة ومتأخرة، وهذه الآثار المتأخرة ظهرت بعد إنتهاء الحرب الفيتنامية بخمس سنوات على نهايتها عند الجنود الأمريكان الذين قاتلوا في معارك مع رجال عصابات في فيتنام بحرب قامت على القنص، والهجوم المباغت على القوات الأمريكية .
ومن أعراض عصاب الحرب التي ظهرت لدى الجنود الذين يقاتلون في الحرب العالمية الثانية هي حالات نفسجسمية " سيكوسوماتيك" في كلا المعسكرين،عند الجنود الألمان، وعند الجنود الذين يقاتلون مع الحلفاء ضد الألمان، منها أصابات قرحة المعدة، ويذكر " الدكتور محمد أحمد النابلسي " وصلت الزيادة حدًا دفع الألمان لإقامة مخيمات علاجية خاصة بمرضى القرحة وسميت هذه المخيمات Magen Kompanien حيث شهدت الحرب العالمية الثانية زيادات كبيرة في الإصابات السيكوسوماتية مثل ارتفاع الضغط والأمراض القلبية، وكذلك سجلت أيضًا لدى الجنود الأمريكيون . وفي النهاية نقول أن الحياة صراع ومواجهة، سواء في حياتنا اليومية والمهنية وحتى الأسرية بين الازواج، أو في المواقف الصعبة مثل الحروب والأزمات والصدمات والكوارث أو حالة فقدان عزيز حيث تظهر بشكل علني وواضح أعراض العصاب، لا سيما أنه بنية يحملها الشخص في داخله، يرجع تكوينها لمرحلة سابقة من مراحل طفولته، إلا أن المواقف الحياتية هي التي فجرت هذا العصاب الكامن في دواخلنا حينما نتعرض لمواقف الحياة الصادمة .
يرى البروفيسور "عدنان حب الله" التفريغ – التنفيس هو الذي يشكل الطريق إلى الشفاء، لا يمكن أن يتحقق إلا عندما تتوصل الذات إلى التغلب على ضواغط كبتها، رغم أن قول سيجموند فرويد: إن صاحب الهموم صاحب خمور، يعاقرها ويدمنها، وعصاب الحرب هو مجموعة هموم لا تنتهي ولا أعتقد أن ينجح صاحبها بتغييرها وقبول الواقع وإن الشقاء الذي جاءنا من محنة الحرب أكثر ألمًا من أي شقاء يأتينا من أي، من مواقف الحياة اليومية، سواء فسرناها بمعنى خاطئ وآمنا بهذا التفسير، أو أن بنيتنا " بنية" ساعدت على أستمرار شقاءنا بلا علاج أو حل.
***
د. اسعد شريف الامارة