قضايا
وسام حسين العبيدي: رجلُ الدينِ حينَ يُخطِئ..

على الرغم من الوصف الإشكالي لعنوان المقالة في صدرها الأول، وذلك في أن الدين ليس له رجال؛ ذلك أنه جاء لسعادة البشر كلهم، ولهدايتهم، ولكن يُطلق ذلك الوصف عُرفًا، على من يدعو إلى اعتناقه، ويعرِّف الآخرين بمضامينه وأفكاره، ويبصِّر قليلي المعرفة بذلك الدين عمّا خفِيَ عنهم، ويكشف لهم أبعاد ذلك الدين وسماته الإنسانية التي تنسجم والفطرة السليمة، ويحذّرهم من شرور ما يقومون به من ممارسات اجتماعية يتزيّى بعضها بلبوس الدين، وهي ليست كذلك،..الخ من مهام إنسانية المحتوى تنفع الصالح العام؛ لأنه في الإسلام لا يوجد رجال دين بالمعنى المعروف في بعض الأديان الأخرى، "أي أنّ لهم الحق في أنْ يُحلِّلوا ويُحرِّموا ويفعلوا ما يشاؤون باسم الدين، ولا يُسألون عما يفعلون، ويعتبرون أنفسهم وكلاء عن الله، ويبيعون للناس صكوك الغفران. لا يوجد في الإسلام رجال دين بهذا المعنى، وإنما الذي يوجد في الإسلام علماء دين بمعنى أنهم تخصصوا بدراسة العلوم الشرعية وما يتعلق بها وقضوا جلّ شبابهم في هذه الدراسة حتى نالوا الإجازات العالية فما فوقها بالشريعة الإسلامية، فهم علماء الدين، أو رجال الدين، أو المتخصصون في دراسة علوم الشريعة"[1]
ومن وجهة نظر كثير من العقلاء أيًّا كان انتماؤهم العقدي أو الفكري، ينبغي أن يكون ذلك الداعي على قدرٍ عالٍ من الضبط والالتزام الأخلاقي بتلك الإرشادات والتوجيهات التي يدعو الناس إليها، وهذا ما أشار إليه صراحةً القرآنُ الكريم في قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة البقرة:44] والظاهر في الآية دلالة التوبيخ لأولئك الذين تصدّوا للدعوة إلى عبادة الله، ولم يلتفتوا إلى أنفسهم بنهيها عمّا نهى الله عنه من سلوكيات وأفعال خاطئة تودي بصاحبها إلى الوقوع فيما حرّمه المُشرِّع، يؤكّد ذلك ما كان لرموز الإسلام الأوائل من التزام بهذا النهج الأخلاقي، فيما ينبغي أنْ يكون عليه الداعي إلى سبيل الخير، من تحلٍّ عمليٍّ بفعل المعروف قبل الحثِّ عليه، وانتهاءٍ عن المنكر قبل نهي الآخرين عنه، ومن الشواهد على ذلك، قول الإمام علي (ع): (إِنِّي وَاَللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا)[2]، أو قوله: (مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ اَلنَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ)[3]، وبذلك يضمن الداعي تأثيرَ خطابه في الآخرين.. وبخلافه يكون كلامُهُ هواءً في شبك..!! وليس الأمر يقف عند هذا الحد، بل سيكون ثمة تداعيات لهذه الظاهرة، حين يستولي اليأس وخيبة الأمل عند كثيرٍ من الناس ذوي التفكير السطحيِّ المحدود، بزيف تلك المبادئ التي يدعو إليها رجل الدين، فلا يتلمّسون واقع تلك المبادئ السمحاء في تمظهرات خطابه الذي يجلدهم به صباحا ومساءً، فحين يُشيع فكرة أنَّ الدين يدعو إلى التسامح والتعايش السلمي، ويجدونه في بعض المواقف لا يُظهِر سوى التعصّب الديني أو المذهبي، أو تشي عباراته عن نزعة عنصريةٍ أو ذكوريّةٍ، سيفهم هؤلاء المتلقّون لخطابه – عن طريق التعميم في التفكير، أو عن طريق التقصّد في الفهم السطحي لخطابه- أنَّ الدينَ في حقيقته هو ما يظهر في سلوكيات أولئك الدعاة.. فلا تسامح ولا تعايش ولا هم يحزنون..!! أو حين يتحدّث رجل الدين عن ظلامة الدين في تعامل الغرب مع مفاهيمه بتسطيح وانتقائية لأجل غايات تُسوّغ لهم ما يقومون به من استنزاف لموارده أو سياسة إذلال وتركيع لدوله رضوخًا عند مشاريعهم، وفي الوقت نفسه حين تُتاح له الفرصة، يُمارس سياسة الانتقاء التي أدانها عند الغرب، في نسف كل ما لديهم من منجز فكري أو فلسفي أو علمي، وتجريدهم من كل تلك المنجزات المعرفية التي يظهر أثرُها على ملبسه ونظارته أو أبسط الأدوات التي لا يستطيع الاستغناء عنها يوميًّا، فهذا أيضًا يترك الأثر السلبي عند متلقّي هذا الخطاب، ممن كان يظنّ أنَّ رجل الدين يضع قوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) نصب عينيه، وهو نتيجةً لذلك سيفصل بين منجزهم الفكري في مجالات المعرفة، وبين الموقف السياسي البراغماتي لقادة تلك الدول، وقد يجهل أساسًا أمثال هذا الداعية من رجال الدين، أنَّ هنالك من مفكّري الغرب ممّن ينتقد سياسة دولهم، وأنَّ شرائح كبيرة من مجتمعهم لا يرضون عن مواقف زعمائهم السياسيين؛ لأنَّ هؤلاء يتوقّعون أنْ لا يوجد ثمّة تفكيك بين المجتمع الغربي وبين قادته وزعمائه، أو بين المنجز الفكري الغربي في مختلف حقول المعرفة وبين سياسة زعماء أو قادة تلك الدول، فالكلُّ عنده سواء..!
وهكذا الأمثلة كثيرة بالإمكان أنْ نجِدَ لها مصاديق مريرة في حياتنا اليوميَّةِ؛ ولذلك نال هؤلاء المُدَّعون من الذمِّ والتقريع من ممثِّلي الإسلام الذين تمثَّلوا الدينَ وعيًا وسلوكًا في حياتهم، وأمثال هؤلاء ليسوا وليد هذا العصر، بل هم في كلِّ عصرٍ ومِصر، ولم ينحصر وجودهم في طائفة من طوائف المسلمين، بل تجدهم في مختلف المذاهب الإسلامية، بل لا يقتصر وجودهم على الدين الإسلامي، بل في كل الأديان، فالآية (أتأمرون الناس...) التي ذكرناها آنفًا، قيل إنها نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ لِقَرِيبِهِ وَحَلِيفِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَأَلَهُ عَنْ أَمْرِ النبي الخاتم: اثْبُتْ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّ أَمْرَهُ حَقٌّ وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وفي قبال ذلك لا يتنازلون عن دينهم السابق، بما يدلل على مخالفتهم الفعل للقول[4]..! وتؤكِّد مروياتٌ أخر أنَّ الآية يتّسع مضمونها لينطبق على من تعلّق بعُرى الدين الإسلامي، ولم تُخرِجهم أو تُسوِّغ لهم هذا السلوك المنحرف عن جادّة الصواب، فقد ورد عن النبي (ص وآله) أنه قال: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءٌ مِنْ أُمَّتِّكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب[5]، وفي روايةٍ أخرى عن أُسَامَةُ أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ (أَيْ تَنْقَطِعُ أَمْعَاؤُهُ) فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ[6].
ويحفظُ لنا (نهج البلاغة) نصًّا للإمام علي (ع) يُخاطب أولئك الأدعياء بقوله: (فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلْتُمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا تَكْرُمُونَ بِاللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَلاَ تُكْرِمُونَ اَللَّهَ فِي عِبَادِهِ)[7] ولقد أحسن العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية في التعقيب على هذا النص، بقوله: (وأعجب من ذا وذاك أنَّ فئةً من خلق اللّه يلبسون ثوب العلم والدين، ويطلبون من الناس التكريم والتعظيم باسم الدين، وما حقَّقوا هدفًا حسنا، ولا تركوا أثرا طيبا، بل البعض منهم عدوٌّ مُبينٌ، وأشدُّ ضررًا ممن أشركَ وألحدَ.. إنه يُحرِّفُ تعاليم الإسلام، ويتاجر به، ويدعم البدع والخرافات، ويعمل على زيادة الهُوّةِ بين المسلمين، ويناصر الغزاة من أعدائه، ثم يقول للناس: قَبِّلوا يدي، وأجلسوني في صدر المجالس والمحافل، وادفعوا إليّ أموالكم باسم الدين والقرآن الكريم. واعطف على هذا الضالِّ المُضِلِّ معظمَ الزعماء الزمنيين، ينادي أحدهم بما يريدُهُ الناس، ويقسم أنه يُضحِّي بكلِّ عزيزٍ مِن أجلِهِم، حتى إذا أَدلَوا إليه بأصواتهم، وصار قويا بها وقف مع أعدائهم يفسد عليهم حياتهم، وينهب ثرواتهم.. ومن استمد قوته من الدين ولا يضحي في سبيله فهو منافق دجال، ومن يقوى بالناس وثقتهم، ولا يهتمُّ بمصالِحِهم فهو لصٌّ وخائنٌ.. ولكن يستحيل عليه أن يستمرَّ في هذه الطريق حتى النهاية، فسرعان ما تتضح الرؤية، و يُفتضحُ المبطلون وتذهب الشعارات مع الريح)[8]. والأمر الآخر أنَّ أمثال هؤلاء الأدعياء يقدِّمون الحججَ الجاهزة، لكلِّ من يقف من الدين بصفة عامة موقفًا سلبيًّا، بأنَّ الأديان – ومنها الدين الإسلامي- لا تدعو إلا إلى الكراهية، وإلى تكريس العبودية، والجهل والتجهيل، وإشاعة التعصّب والجمود، عبر هذه النماذج التي تدّعي انتماءها للمؤسسة الدينية لا غير، وبهذا تكون حُجَّتُهم أقوى من باب: (وشهدَ شاهدٌ من أهلها..)
وإذا رجعنا إلى العصر الحاضر، لوجدنا شواهد أُخَر تؤكِّد لنا رفض رجال الدين الذين يرون ضرورة التجديد في الخطاب الديني، سلوكيات أولئك الأدعياء المحسوبين على الدين، ونقف عند خطابات أحد كبار رجال الدين في القرن العشرين – وهو السيد الخميني - في وصفه الانتقاديِّ لسلوك أولئك الأدعياء، بما يكشف نزعة انتقادية لكل من يُسيء للدين عبر ممارسات مغطّاة بالدين، وهي أبعد ما تمتُّ للدين بصلة، وفي الوقت نفسه يوفِّرون على أعداء الدين الجُهدَ في تكوين صورةٍ ظلاميةٍ عن الدين، ولعل واحدةً من نقداته اللاذعة لهم، حين شخّص انغلاقهم الديني على التراث الفقهي دون سواه، وبحسب قوله إنهم (كانوا يعدُّون دراسة اللغة الأجنبية كفرا! ودراسة الفلسفة والعرفان ذنبا وشركا!... لا شك عندي أنّ الأمور لو سارت على هذا المنوال فان وضع علماء الدين والحوزات كان سيؤول إلى حال الكنائس في القرون الوسطى)[9]، ولا يخفى لأحد ما كان لكنائس القرون الوسطى – أو ما يُسمى بمحاكم التفتيش – من أثرٍ مقيت تركته في أذهان ذلك المجتمع إلى يومنا هذا، بما قاد "مارتن لوثر" إلى ثورةٍ في القرن السادس عشر معارضا سلطة الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تستخدم سلطتها الروحية لتقويض حرية الفكر والدين، وكشف انحرافها عن تعاليم السيد المسيح، وأن صكوك الغفران والعمليات المالية التي تقوم بها الكنيسة كانت فاسدة وغير عادلة.
وهذه التشخيص النقدي لهذه الفئة من رجال الدين من قبل السيد الخميني لم يكن إلا واحدًا من مواقف كثيرة لكبار العلماء والمفكرين من فقهاء وفلاسفة سبق لهم أنْ مارسوا نقدهم لمن تمظهر بلبوس الدين، وقد حفظ لنا التراث صورًا قريبة من هذا الموقف، منها ما جرى بين الفيلسوف الكندي (ت: 260 هـ) الذي ذكر في كتابه إلى الخليفة المعتصم إشارة طويلة تعرب عن موقفه الانتقادي من رجال الدين، نستخلص منها ثلاثة أمور: الأول أنّ رجال الدين يُسيئون تأويل الفلسفة، والثاني أنّهم يتّجرون بالدين، والثالث التوفيق بين الفلسفة والدين. أما سوء التأويل فيرجع إلى "ضيق فطنتهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحقّ ذوو الجلالة في الرأي والاجتهاد في الأنفاع العامة الشاملة، ولدرانة الحسد المتمكن من أنفسهم" أما التجارة بالدين فلأنهم يُعادون ذوي الفضائل "ذبًّا عن كراسيهم المزوّرة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عُدماء الدين. لأنّ من تجِرَ بشيءٍ باعه، ومن باعَ شيئًا لم يكن له، فمن تجِرَ بالدين لم يكن له دين"[10] وهو في كلامه لا يريد سوى أنْ يدفع عن نفسه هجوم رجال الدين، واتهامهم له بالإلحاد، وهي تهمةٌ إنْ ثبتت كان مصير صاحبها الإعدام، وما أكثر الذين سيقوا إلى الإعدام بسبب غلوّ أو تطرّف أو فهمٍ متشنّجٍ للنص الديني يحتكره بعض من يدّعي انتسابه للدين..!
وبهذا يكون الخطأ الذي يرتكبه رجل الدين، ليس مثل الخطأ الذي يرتكبه سواه، فعليه تترتّبُ كثيرٌ من التداعيات التي لا يُحمَدُ عُقباها فيما لو تراكمت، ولم يتصدَّ لها الغيورون ممّن يستشعرون تلك الظلامة التي ستقع على الدين من أفعال أولئك المحسوبين عليه، وفيما يلي نصٌّ آخر للسيد الخميني في ضمن وصيته لطلبة العلم من رجال الدين: (إن مسؤوليتكم جسيمة للغاية.. وواجباتكم غير واجبات عامة الناس. فكم من الأمور مباحة لعامة الناس إلا أنها لا تجوز لكم، وربما تكون محرمة عليكم. فالناس لا تتوقع منكم أداء الكثير من الأمور المباحة، فكيف إذا ما صدرت عنكم ـ لا سمح الله ـ الأعمال القبيحة غير المشروعة، فإنها ستعطي صورة سيئة عن الإسلام وفئة علماء الدين. وهنا يكمن الداء. فإذا شاهد الناس عملاً أو سلوكاً من أحدكم خلافاً لما يتوقع منكم، فإنهم سينحرفون عن الدين ويبتعدون عن علماء الدين، وليس عن ذلك الشخص. وليتهم ابتعدوا عن هذا الشخص وأساءوا الظن به فحسب. إذا ما رأى الناس تصرفاً منحرفاً أو سلوكاً لا يليق من أحد المعممين، فإنهم لا ينظرون إلى ذلك بأنه من الممكن أن يوجد بين المعممين أشخاص غير صالحين، مثلما يوجد بين الكسبة والموظفين أفراد منحرفون وفاسدون. لذا فإذا ما ارتكب بقال مخالفة، فإنهم يقولون إن البقال الفلاني منحرف. ولو ارتكب عطار عملاً قبيحاً، فإنهم يقولون: إن العطار الفلاني شخص منحرف. ولكن إذا ما قام أحد المعممين بعمل لا يليق، فإنهم لا يقولون: إن المعمم الفلاني منحرف، بل يقولون إن المعممين سيئون)[11]. وهو قولٌ يُنبئ عن رؤية له لا تقدّس رجل الدين أو تُبرِّر ما يصدر عنه من سلوكيات أو مواقف لا يجوز القبول بها بحالٍ من الأحوال؛ لأنّها ستكون سببًا لتنفير الناس من الدين، والدين براءٌ ممّا يُراد له أنْ يكون غطاءً لتلك الممارسات. ووفقًا لذلك فقد يكون قائل هذا القول أيضًا مشمولاً بما رصَدهُ من ملاحظات، إذا آمنّا بحرّية الفكر، وأنّه لا توجد خطوط حمراء لكل إنسان غير معصوم من الخطأ، فمن الطبيعي أنْ يقع فيها كل شخص له مداركه المحدودة في فهم النصِّ الديني، وله قراءته الخاصة للتراث الديني، بما يجعل الجميع على محكِّ النقد العلمي والأخلاقي، وإنْ ترفَّع بعضهم الاعتذار عمّا صدر عنهم، فلم نجد ممّن يُحسب على هذه الفئة من مختلف الفرق الإسلامية - إلا القليل - مَن يعتذر لجمهوره فيما قاله أو فعله، بما فيه من إثارة طائفية أو اصطفاف حزبي، أو تصريحات غير موزونة تشي بنزعة وثوقية خارج نطاق العصر، ونظرة يقينية مُطلقة في مسائل ليست من اختصاصه، بما يكشف عن عقدة نرجسية مُزمنة تجعل بعضهم يلوذ بالمدوّنة الشرعية يستلُّ منها ما يُلبّي ذلك النسق المتماهي في سلوكياته مع الآخر المختلف، وهنا يُعاب على هذا الإصرار وعلى هذا التسويغ، وإلا فـ"كلُّ بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون".. والسلام..
***
د. وسام حسين العبيدي
...................
الهوامش..
القرآن الكريم..
[1] إسلام ضد الإسلام، الصادق النيهوم، منشورات رياض الريس، ط3، 2000م: 70 . والكلام المقتبس هو لعبد الله أبو سيف البشاري في رده على مقال للنيهوم بعنوان (الفقهاء ضد الأنبياء) نشرها في مجلة الناقد.
[2] نهج البلاغة: 2/ 111 خطبة رقم 170 .
[3] المصدر نفسه: 3/ 169 (رقم 73 من باب المختار من حكم أمير المؤمنين ع) .
[4] تفسير البغوي: 1/ 88 .
[5] المصدر نفسه: 1/ 88 .
[6] المصدر نفسه: 1/ 89 .
[7] نهج البلاغة، للشريف الرضي، شرح الشيخ محمد عبدو، تصحيح: إبراهيم الزين، منشورات دار الفكر، بيروت – لبنان، 1965م: 1/ 288
[8] في ظلال نهج البلاغة: 2/ 205
[9] صحيفة إمام 21: 278 - 279.
[10] كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، تحقيق: د. أحمد فؤاد الأهواني، 1948م: 23 .
[11] الجهاد الأكبر، الخميني: 8 .