قضايا

عدي عدنان البلداوي: الـ "كليبتوقراطية" وحُكم الثقافة

klepto cracy كليبتو كراسي أو الكليبتوقراطية، إصطلاح ظهر في بدايات القرن التاسع عشر يصف النظام السياسي الذي يستولي على صناعة القرار فيه أشخاص يعتمدون منهج الفساد المالي والفساد الإداري، يعملون على توظيف صلاحيات السلطة في تسهيل وصول الفاشلين والفاسدين الى المناصب الإدارية المهمة والمناصب السياسية المتقدمة. هذا يعني وجود خلل وإنحراف في هيكلية الواقع السياسي للسلطة. يظهر هذا الإنحراف في أجندات عمل مؤسسات الحكومة من قبيل تضمين الخطاب الحكومي الرسمي آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم وعبارات المواطنة والإنسانية ولغة الحوار والمدنية والتثقيف وعبارات (القانون فوق الجميع) و(استقلال العدالة ونزاهة القضاء)، وإنصاف المظلومين، وتقديم الخدمات للمواطنين وتخفيف معاناة الفقراء، وتوفير فرص العمل، وحق التعليم وحرية التعبير، وإقامة مهرجانات وندوات ومحاضرات حكومية لمكافحة الفساد، وتوجيه الوعي العام للمواطنين، وتحذيرهم من عمليات الإحتيال والابتزاز، ونشر ارقام للخطوط الساخنة، واطلاق اسماء شخصيات تاريخية وطنية اتصفت بالنزاهة والشجاعة والابداع والمبدئية على هذا الشارع وتلك البناية وذاك المجمع.
يقابل ذلك ملفات فساد ضخمة لمسؤولين كبار في الحكومة، وهدر مقنن لمبالغ طائلة في ميزانية الدولة، وخروج ميسر لمسؤولين متهمين بقضايا فساد من البلاد، وغياب واضح لمصير أموال مسروقة، وظهور مئات الأشخاص من ذوي الثراء الفاحش مقابل ملايين الفقراء والعاطلين، مشاريع وهمية، صفقات مشبوهة، صفقة القرن، عقود فضائية، رواتب مزدوجة، منح ونثريات شكلية، وتدخل للمزاجية الرسمية في إستقطاع نسب من رواتب الموظفين والمتقاعدين.. و.. و..
وكلما كبرت هذه القضايا وكثرت ملفات الفشل والفساد، اشتغلت الماكنة الإعلامية الرسمية لتعلن عن مبادرة حكومية لمكافحة الفساد وعن تشكيل لجان لتقصي الحقائق، وإستصدار أوامر إعتقال بحق موظفين فاسدين، وإجراء إتصالات ومشاورات مع جهات معنية لسد الثغرات، وإستضافة شخصيات ومنظمات مدنية لتشكيل منطقة عمل مشتركة مع الحكومة لتحسين أداء مؤسساتها، وغيرها من عمليات ترقيع ذلك الإنحراف في هيكلية السلطة. منها عرض مفهوم الحياة مقابل مفهوم العدالة بحيث يتم تضييع إهتمام الناس بتطبيق العدالة في إشغالهم بمشاريع تحسين حياتهم بشراء منزل جديد وسيارة حديثة ومشاريع عمل في السوق العالمية المفتوحة وتوفير قروض ميسرة وفرص عمل ووظائف. هكذا ينصرف الناس الى شؤونهم الحياتية الخاصة حتى صاروا يسمعون ويقرأون ويشاهدون عبر شاشات الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي عن حجم الفساد المالي والفساد الإداري للحكومات المنتخبة، واقتصر رد الفعل عند كثيرين على إستياء وانفعال وقتي يزولان بعد اختفاء الخبر السيء، ويعودان مع ظهور خبر آخر، وهكذا، حتى ادمن كثير من الناس هذا الحال السيء الذي حوّل بدوره احزاب سياسية متسلطة الى قوى كبيرة غير صديقة للمجتمع تسحق كل من يواجهها.
أمام هذا التورم المتعاظم في قوة السلطة الفاشلة والفاسدة، بدا حضور قوة المؤسسة الدينية ضعيفاً في تفاصيل المشهد الحياتي للبلاد، عندما اقصرت المؤسسة الدينية دورها على تقديم النصح والإشارة الى مكامن الخلل، فما كان منها بعد قولها (بح صوتنا) إلا ان أدارت ظهرها لهذا التورم في قوة السلطة السياسية واعلنت رفضها إستقبال المسؤول الحكومي الفاشل والفاسد. واعطت لصلاة الجمعة حيث الخطبة السياسية، إجازة مفتوحة حتى بعد زوال المؤثر الذي تسبب في تعليق صلاة الجمعة وهو وباء كورونا.
وبعد ان ضمنت حكمة المرجعية الدينية قوة وقدرة حسمها للقضايا المصيرية الكبيرة كما حصل في فتوى الجهاد الكفائي وظهور الحشد الشعبي . اصبح المجتمع العراقي أمام تحديات كثيرة وخطيرة تتعلق في التفاصيل الدقيقة وفي طريقة حياة الناس والنظام الإجتماعي وانماط السلوك التي يتعامل بها الناس مع بعضهم في شؤونهم الخاصة من جهة، ومع الحكومة من جهة اخرى، وهذه التحديات في إعتقادي لا تقل خطورة عن القضايا المصيرية الكبيرة. تتأتى خطورتها من كون النظام السياسي العراقي اليوم مصاب بواقع منحرف في هيكليته، كما ذكرنا في بداية الحديث، نتج عن هذا الواقع المنحرف قلق مستمر أصاب الشخصية العراقية المتصفة بالصبر والتحمل طيلة اكثر من عشرين سنة من بداية القرن الواحد والعشرين وحتى اليوم، والذي راح ينذر بإنفجار كبير، لا يبدو من واقع حال الحكومة انها منتبهة لهذا القلق، أو مكترثة له، أو انها تدرك حجم هذا الإنفجار النفسي وحجم الأضرار التي يمكن ان يلحقها بالبناء الإجتماعي. لأنها لا تزال تستخدم لغة قديمة من شأنها ان تقضي على حركة العملية السياسية، هي لغة شتم وإهانة وإعتقال متظاهرين مدنيين يطالبون بحقوق أو خدمات و.. و.. وتهديم دور وإزالة تجاوزات اغلبها كان لأناس مدنيين فقراء. كما انها لا تزال ماضية في مشاريعها المالية، فبعد ان بدا العجز واضحاً في ميزانية الدولة بسبب حجم الأرقام المخيفة للأموال المسروقة من قبل سياسيين ومن يعمل بمعيتهم، راحت تبحث في سبل إستحصال أموال من الناس عن طريق رفع رسوم المعاملات الشخصية في دوائر الدولة وزيادة الضرائب وابتداع سبل حجز أموال الناس وإرغامهم على إنجاز شؤونهم المالية الخاصة عن طريق المصارف الحكومية والدوائر الرسمية على وفق ضوابط وقوانين وتعليمات وضعية تخدم تضخيم عائدات الحكومة المالية اكثر من استهدافها خدمة المواطن.
أمام هذا المشهد الحياتي الذي تبرز فيه قوة المؤسسة السياسية في حماية المال لصالحها، وتبرز فيه قوة المؤسسة الدينية في حماية مصير الصالح العام. اصبح المجتمع أمام قوتين إحداهما قوة غير صديقة تدخل في التفاصيل الدقيقة هي قوة المؤسسة السياسية، وقوة اخرى صديقة لا تدخل في التفاصيل الدقيقة هي قوة المؤسسة الدينية. لذا اصبح من الضروري جداً ظهور قوة صديقة تدخل في التفاصيل الدقيقة للمشهد الحياتي للمجتمع، هذه القوة ينبغي ان تكون قوة الثقافة، بالفهم الإنثروبولوجي لكلمة الثقافة، حيث لا يزال المواطن يكتنز كثيراً من القيم العليا والأخلاق، وكثيراً من طاقة الأمل في تغيير الواقع السيء، لأنه يمتلك مقومات وجود ذلك الأمل عبر الموروث التاريخي واحداثه، وعبر خبرته من خلال تجارب الواقع، تجعله يتمتع برصيد كافٍ لإعادة البناء الإجتماعي، يحتاج فقط الى قوة صديقة قادرة على استثمار هذا الرصيد. هنا تبرز مسؤولية المثقف الحقيقي في وعي المرحلة القادمة من عمر البلاد التي يراد لها ان تكون امتداداً للواقع المنحرف في هيكلية الجهات المتنفذة حالياً. وهذا واضح من خلال الخطوات التحضيرية للعملية الانتخابية القادمة.
الثقافة اليوم معنية بإصدار ما اصطلح عليه بـ حكم الثقافة. تحدد فيه ملامح التكوين الجديد للقادم من الأيام وتعين المواطن على قراءة ما بين السطور وتثير وعيه بقيمة صوته، وتحفظه من التحول الى كتلة بشرية مادية قابلة للاستهلاك والاستغلال والإستغفال.
***
د. عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم